التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
-الأحقاف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } تقدم نظيره. قرأ الكوفيون: إحْساناً، وباقي السبعة "حسناً" بضَمِّ الحاء وسكون السين، فالقراءة الأولى يكون "إحْسَاناً" فيها منصوباً بفعل مقدر أي وصيناه أن يحسن إليهما إِحْسَاناً وقيل: بل هو مفعول به على تضمين وصينا معنى "أَلْزَمْنَا" فيكون مفعولاً ثانياً وقيل: بل هو منصوب على المفعول له، أي وصَّيْنَا بهما إحْسَاناً منا إليهما. وقيل: هو منصوب على المصدر، لأن معنى وصينا أحْسَنًّا، فهو مصدر صريحٌ، والمفعول الثاني هو المجرور بالباء. وقال ابن عطية: إنها تتعلق إما "بوصَّيْنَا" وإما "بإحْسَاناً" وردَّ عليه أبو حيان هذا الثاني بأنه مصدر مؤول فلا يتقدم معموله عليه، ولأن "أَحْسَنَ" لا يتعدى بالباء، وإنما يتعدى باللام لا تقول: أَحْسِنْ بزَيْدٍ على معنى وصول الإحسان إليه. ورد بعضهم هذا بقوله: { أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي } [يوسف:100]. وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدر بعضهم: ووصينا الإنسان بوالديه ذَا إحْسَانٍ، يعني فيكون حالاً. وأما "حُسْناً" فقيل فيها ما تقدم في "إحسان". وقرأ عِيسَى والسُّلَمي بفتحهما. وقد تقدم معنى القراءتين في البقرة وفي لقمان. قال ابن الخطيب: حجة من قرأ إحساناً قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الإسراء:23] ومعناه أمر بأن يوصل إليهما إحساناً. وحجة القراءة الأخرى قوله تعالى في سورة العنكبوت: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [العنكبوت:8] ولم يختلفوا فيه. والمراد أنا أمرناه بأن يوصل إليهما فعلاً حسنا، كما يقال: هذا الرجل عِلْمٌ وكَرَمٌ. قوله: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو بفتح الكاف، والباقون بضمها، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، مثل الضَّعْف والضُّعْف، والفَقْر والفُقْر، ومن غير المصادر الدَّفُّ، والدُّفُّ، والشَّهْدُ والشُّهْدُ وقال الواحدي: الكُرْهُ مصدر من كَرِهْتُ الشيء أَكْرَهُهُ والكَرْهُ الاسمُ كأنه الشيء المكروه، قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [البقرة:216] فهذا بالضم، وقال: { تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } [النساء:19] فهذا في موضع الحال، وما كان مصدراً في موضع الحال فالفتح فيه أحسن. وقال أبو حاتم: الكره بالفتح لا يحسن، لأنه بالفتح الغَصْبُ والغَلبة. ولا يلتفت لما قاله لتواتر هذه القراءة. وانتصابهما إمَّا على الحال من الفاعل أي ذات كره، وإِمَّا على النعت لمصدر مقدر أي حَمْلاً كُرْهاً.
فصل
قال المفسرون: حملته أمُّه مشقةً على مشقةٍ، ووضعته بمشقَّةٍ وليس المراد ابتداء الحمل فإن ذلك لا يكون مشقة، لقوله تعالى:
{ فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ } [الأعراف:189] فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً يريد شدة الطلق.
فصل
دلت الآية على أن حق الأم أعظم لأنه تعالى قال: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } فذكرهما معاً، ثم خص الأُمَّ بالذكر فقال: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } وذلك يدل على أن حقها أعظمُ وأَنَّ وصول المشاقّ إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة في هذا الباب.
قوله: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ } أي مدة حمله. وقرأ العامة وفِصَالُهُ مَصْدَر "فَاصَل" كأن الأم فَاصَلَتْهُ وهُوَ فَاصَلَهَا. والجَحْدَرِيُّ والحَسَنُ وقَتَادَةُ: وفَصْلُهُ. قيل: والفَصْلُ والفِصَالُ بمعنى كالعَظْمِ والعِظَامِ والقَطْفِ والقِطَافِ. ولو نصب "ثلاثين" على الظرف الواقع موقع الخبر جاز وهو الأصل، هذا إذا لم نُقدر مضافاً فإن قدرناه ـ أي مُدَّة حَمْلِهِ ـ لم يجز ذلك وتعين الرفع لتصادق الخَبَر والمُخْبَرِ عَنْهُ.
فصل
دلت الآية على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرَّضَاع ثلاثونَ شَهْراً وقال تعالى:
{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة:233] فإذا أسقطنا الحولين الكاملين وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر. وروى عكرمة عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: إذا حملتِ المرأةُ تسعة أشهر أرضعت واحداً وعشرينَ شهراً. وروي عن أبي بكر (الصديق) رضي الله عنه أَنَّ امرأةً رفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها. فقال عمر: لا رَجْمَ عليها وذكر الطريق المتقدمة. وعن عقمان نحوه وأنه يعم بذلك فقرأ ابن عباس عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه.
قوله: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } لا بد من جملة محذوفة، تكون "حَتَّى" غاية لها، أي عاش واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشده، قال ابن عباس ـ في رواية عطاء ـ الأشد ثماني عشرة سنة وقيل: نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة، فذلك قوله: { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وقد مَضَت القِصَّةُ. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق وأبيه أبي قُحَافَةً عُثْمَانَ بْنِ عمرو، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو. وقال علي بن أبي طالب: الآية في أبي بكر الصديق أسلم أبواه جميعاً، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر صحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام فلما بلغ أربعين سنة، ونُبِّىء النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمن به ودعا ربه فقال: { رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ } بالهداية والإيمان. وأكثر المفسرين على أن الأشد ثلاثٌ وثلاثون سنةً.
فصل
قال ابن الخطيب: مراتب سن الحيوان ثلاثة، لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية، والرطوبة الغريزية زائدة في أول العمر، وناقصة في آخر العمر والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلى إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين فثبت أن مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام:
فأولها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية، وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذَوَاتِها وزيادتها في الطول والعرض والعُمْق وهذا هو سن النُّشُوِّ (والانتماء).
والثانية: وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافيةً بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نُقْصَان، وهذا هو سنّ الوقوف وهو سِنّ الشباب.
والمرتبة الثالثة: أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية. ثم هذا النقصان على قسمين:
فالأول: هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة. والثاني: هو النقصان الظاهر وهو سن الشَّيْخُوخَةِ.
قوله: "أَرْبَعِينَ" أي تمامها، "فأربعين" مفعول به. قال المفسرون: لم يبعث نَبِيٌّ قَطُّ إلاَّ بعد أربعين سنة. قال ابن الخطيب: وهذا يشكل بعيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه تعالى جعله نبياً من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال: الأغلب أن ما جاء(ه) الوحي إلا بعد الأربعين وهكذا كان الأمر في حق نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: "أَوْزِعْنِي" قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ معناه أَلْهِمْنِي. قال الجوهري: أَوْزَعْتُهُ أَغْرَيْتُهُ به، فَأُوزعَ بِه فَهو مُوزعٌ به أي مُغْرًى به، واسْتَوْزَعْتُ اللهَ فَأَوْزَعَنِي أي اسْتَلْهَمْتُهُ فأَلْهَمَنِي.
قوله: { وأَن أعمل صالحاً ترضاه } قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أجاب الله ـ عزَّ وجَلَّ ـ دعاء أبي بكر، فأعتق تسعةً من المؤمنين يُعَذَّبُونَ في الله، منهم بلالٌ، وعامرُ بنُ فُهَيْرة، فلم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه. ودعا أيضاً فقال: "فَأَصْلِح لِي فِي ذُرِّيَّتِي" فأجاب الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعاً. فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً. فأدرك أبو قحافة النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابن عبد الرحمن أبو عتيق، كلهم أدركوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.
قوله: { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ } أصلح يتعدى بنفسه لقوله:
{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [الأنبياء:90] وإنَّمَا تعدى بـ "في" لتضمنه معنى: الطف بي في ذريتي أو لأنه جعل الذرية طرفاً للاصلاح كقوله:

4452ـ يَخْـــرُجُ فِـــي عَـرَاقِيهــا نُصَـلِّـي

والمعنى هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم.
قوله: { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، ومع كونه من المسلمين.
قوله: { أولئك الذين نتقبل عنهم } قرأ الأَخَوانِ وحَفْصٌ: نَتَقَبَّلُ بفتح النون مبنياً للفاعل ونصب "أحسن" على المفعول به، وكذلك "نتَجَاوَزُ" والباقون بنيابتهما للمفعول، ورفع "أحْسَن" لقيامه مقام الفاعل، ومكان النون ياء مضمومة في الفعلين. والحَسَنُ والأَعْمَشُ وعِيسَى بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى.
(فصل)
ومعنى أولئك أي أهل هذا القول الذي تقدَّم ذكره، فمن يدعو بهذا الدعاء نتقبل عنهم، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله. وقوله: { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن.
فإن قيل: كيف قال: { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } والله يَتَقبَّل الأحْسَنَ وَمَا دُونَه؟!.
فالجواب من وجهين:
الأول: المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى:
{ وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [الزمر:55] وكقولهم: النَّاقِصُ والأشجُّ أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان.
الثاني: أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب، ولا عقاب، والأحسن ما يغاير ذلك وهو المندوب أو الواجب.
وقوله: { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } فلا يعاقبهم عليها.
قوله: { في أصحاب الجنة } فيه أوجه:
أظهرها: أنه في محل الحال أي كائنين في جملة أصحاب الجنة كقولك: "أَكْرَمَنِي الأَميرُ في أصحابِهِ" أي في جُمْلَتِهِم.
والثاني: أن "في" معناها "مَعَ".
الثالث: أنها خبر ابتداء مضمر أي هُمْ في أصحاب الجنَّة.
قوله: { وَعْدَ ٱلصِّدْقِ } مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } في معنى الوعد، فيكون قوله: "نَتَقَبَّلُ وَنَتَجَاوَزُ" وعداً من الله بالتقبل والتجاوز والمعنى (أنه) يعامل من صفته ما قدمناه بهذا الجزاء، وذلك وعد من الله، فبين أنه صدق لا شك فيه.