قوله تعالى: { حـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًى } تقدم الكلام على نظير ذلك. والمراد ههنا بالأجل المسمى يوم القيامة، وهو الأجل الذي ينتهي إليه السموات والأرض وهو إشارة إلى قيامها.
قوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ } يجوز أن تكون "ما" مصدرية أي عن إنذارهم أو بمعنى الذي أي عن الذي أُنذِرُوهُ و "عن" متعلقة بالإعراض و "مُعْرِضُون" خبر الموصول.
قوله: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } حكم "أرأيتم". ووقع بعد هذه "أََرُونِي" فاحتملت وجهين:
أحدهما: أن تكون توكيداً لها، ولأنهما بمعنى أخبروني، وعلى هذا يكون المفعول الثاني (لأَرَأَيْتُمْ) قوله "مَاذَا خَلَقُوا" إلا أنه استفهام، والمفعول الأول هو قوله: "مَا تَدْعُونَ".
الوجه الثاني: أن لا تكون مؤكدة لها وعلى هذا تكون المسألة من باب التنازع، لأن (أَرأَيْتُمْ) يطلب ثانياً و "أروني" كذلك، وقوله: "مَاذَا خَلَقُوا" هو المُتَنَازَعُ فيه، وتكون المسألة من إعمال الثاني، والحذف من الأول.
وجوز ابن عطية في "أَرأَيْتُم" أن لا يتعدى، وجعل "مَا تَدْعُونَ" استفهاماً معناه التوبيخ. وقال: "وتدعون" معناه تبعدون. وهذا رأي الأخفش، وقد قال بذلك في قوله: { قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى ٱلصَّخْرَةِ } [الكهف:63] وقد تقدم.
قوله: "مِن الأَرْضِ" هذا بيان للإبهام الذين في قوله: "مَاذَا خَلَقُوا".
قوله: "أَمْ لَهُمْ" هذه "أم" المنقطعة، والشِّرْكُ المُشَارَكَةُ، وقوله: "مِنْ قَبْلِ هَذَا" صفة لِكِتَابٍ أي بكتاب منزل من قبلِ هذا، كذا قدرها أبو البقاء، والأحْسن أن يقدر كون مطلق أي كائن من قبل هذا.
قوله: "أَوْ أَثَارةٍ" العامة على أَثارة، وهي مصدر على فَعَالةٍ، كالسَّمَاحَةِ، والغَوايَةِ والضَّلاَلَةِ ومعناها البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارةٍ من لَحْم إذَا كانت سَمِينةً، ثم هزِلَتُ، وبقي بقية من شَحْمِهَا ثم سمنت. والأثارة غلب استعمالها في بقية الشرف، يقال: لِفُلانٍ أثارةٌ أي بقية شرف، وتستعمل في غير ذلك قال الراعي:
4449ـ وََذَاتِ أَثَـارَةٍ أَكَلَـت عَلَيْهَـانَبَاتـاً فـي أكَِمَّتِـهِ قَفَــاراً
وقيل: اشتقاقها من أثر كذا أي أسْنَدَهُ. ومنه قوله عمر: "ما خَلَّفْت به ذَاكِراً وَلاَ آثِراً" أي مسنداً له عن غيري. وقال الأعشى:
4450ـ إنَّ الَّـذِي فِيــهِ تَمَارَيْتُمَـــابُيِّــنَ لِلسَّامِــعِ وَالآثِــرِ
وقيل: فيها غير ذلك. وقرأ عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ وزيدُ بنُ عَلِيٍّ وعكرمةُ في آخرين: أَثَرَةٍ دون ألف. وهي الواحدة وتجمع على أَثَر، كقَتَرَةٍ، وقَتَرٍ. وقرأ الكسائي: أُثْرَةٍ، وإِثْرَة بضم الهمزة وكسرها مع سكون الثاء. وقتادة والسُّلَميّ بالفتح والسكون. والمعنى بما يُؤْثَرُ ويُرْوَى، أي ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم. وهذا على سبيل التنزيل للعلم بكذب المدعي. و "مِن عِلْمٍ" صفةٌ لأَثَارَةٍ.
فصل
قال أبو عُبَيْدَة والفَرَّاءُ والزَّجَّاجُ أثارة من علم أي بقية. قال المبرد أثارة ما يؤثر منْ عِلمٍ كقولك: هذا الحديثُ يُؤْثَر عَنْ فُلاَنٍ، ومن هذا المعنى سيمت الأخبار والآثار، يقال: جَاءَ في الأثر كَذَا وكَذَا. قال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال:
الأول: الأثارة واشتقاقها من أثرت الشيءَ أُثِيرُه إِثَارةً، كأنها بقية تستخرج فتُثَارُ.
والثاني: من الأثر الذي هو الرواية.
والثالث: من الأَثَرِ بمعنى العلامة.
قال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأولين أي يسند إليهم. وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء. وقال مجاهد: خاصة من علم. قال ابن الخطيب: وههنا قول آخر في تفسير (قوله) تعالى: { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } هو علم الخط الذي يخط في الرمل والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور. وعن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "كَانَ نَبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطُّه خَطَّهُ عَلِمَ عِلْمَهُ" فعلى هذا الوجه معنى الآية ائتوني بعلم من قبل هذا الخط الذي تخطونه في الرمل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام. فإن صحّ تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من بَابِ التَّهَكُّم بهم وأقوالهم ودلائلهم.
قوله: "وَمَنْ أَضَلُّ" مبتدأ وخبر. وقوله "مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ" من نكرة موصوفة أو موصولة، وهي مفعولة بقوله: "يَدْعُو".
قوله: { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ } يجوز أن يكون الضَّمِيرانِ عائدين على مَنْ في قوله: { مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ } وهم الأصنام ويوقع عليهم من معاملتهم إياها معاملة العقلاء ولأنه أراد جميع مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ الله وغلب العقلاء، ويكون قد راعى معنى "من" فلذلك جمع في قوله: "وهم" بعدما راعى لفظها فأفرد في قوله: "وَيَسْتَجِيبُ" وقيل: يعود على "مَنْ" في قوله: "ومَنْ أَضَلّ" وحُمِلَ أولاً على لفظها، فأفرد في قوله: "يَدْعُو"، وثانياً على معناها فجمع في قوله: { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ }.
فصل
"ومن أضلّ" استفهام على سبيل الإنكار والمعنى لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها، وهي إذا دُعِيَتْ لا تسمع، ولا تجيب لا في الحال ولا في المآل إلى يوم القيامة. وإنما جعل ذلك غاية، لأن يوم القيامة قد قيل: إنه تعالى يحييها، ويخاطب منْ يعبدها، فلذلك جعله الله تعالى حدًّا وإذا قامت القيامة وحشر الناس فهذه الأصنام تُعَادِي هَؤُلاَءِ العابدين. واختلفوا فيه فالأكثرون على أنه تعالى يُحْيِي هذه الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عبادتهم. وقيل: المراد عبدة الملائكة وعيسى، فإنهم في يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين وهو المراد بقوله: { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } أي جاحدين كقوله: { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص:63].
قوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } هنا أقام ظاهرين مقام مضمرين، إذ الأصل قالوا لها أي للآيات ولكنه أبرزهما ظاهرين لأجل الوصفين المذكورين. واللام في للحق للصلة.
فصل
لما تكلم في تقرير التوحيد، ونَفْي الأضداد، والأنداد تكلم في النبوّة وبين أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلما عرض عليهم نوعاً من أنواع المعجزات قالوا: هذا سحر أي يسمون القرآن سحراً.
قوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } أم للإنكار والتعجب كأنه قيل: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب ثم بين بطلان شبهتهم فقال: "قل" يا محمد "إِن افْتَرَيْتُهُ" على سبيل الفرض، فإن الله يعاملني بعقوبة بُطْلاَن ذلك لافتراء، وأنتم لا تقدرون على دفعه فكيف أقدر على هذه الفِرْيَةِ؟ يعني لعقابه، وهو المراد بقوله: { فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي لاَ تَقْدِرُونَ أن تردوا عني عذابه، وإن عذبني الله على افْترائِي، فكيف أفتري على الله من أجلكم؟! ونظيره: { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ } [المائدة:17] { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } [المائدة:41]. ثم قال: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي الله أعلم بما يخوضون فيه من التكذيب بالقرآن، والقول فيه بأنه سحر. { كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ويشهد لكم بالكذب { وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } لمن رجع عن الكفر وتاب. قال الزجاج: هذا دعاء إلى التوبة، ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيمٌ به.