التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
١٨
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٩
وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢٠
وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً
٢١
وَلَوْ قَـٰتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٢٢
سُنَّةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً
٢٣
-الفتح

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ... } الآية لما بين حال المخلفين بعد قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [الفتح:10] عاد إلى بيان حال المبايعين.
قوله: { إِذْ يُبَايِعُونَكَ } منصوب بـ "رَضِيَ" و "تَحْتَ الشَّجَرَة" يجوز أن يكون متعلقاً بـ "يُبَايِعُونَكَ" وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول.
("فصل"
المعنى: يبايعونك بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً، ولا يفروا. وقوله: "تَحْتَ الشَّجَرَة" وكانت سمرة قال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل نَسِيناها فلم نقدر عليها. وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: ههنا، وبعضهم ههنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبدالله قال: قَالَ لَنَا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية
"أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأَرْبَعَمِائةٍ ولو كنت أبصر اليوم لأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَة" . وروى سالم عن جابر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:" "لاَ يَدْخُلُ النار أحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" .
قوله: { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الصدق والوفاء { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } الطمأنينة والرضا "عَلَيْهِمْ"
فإن قيل: الفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا؛ لأنه علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟.
فالجواب: قال ابن الخطيب: إن قوله تعالى: { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بقوله: { إِذْ يُبَايِعُونَكَ } كما تقول: "فَرِحْتُ أَمس إِذْ كَلَّمت زَيْداً فَقَامَ لي، وإذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمِني" فيكون الفرح بعد الإكرام مرتباً كذلك ههنا قال تعالى: { لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ... فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } من الصدق إشارة ألى أن الرضا لا يكون عند المبايعة (حَسْب بل عند المبايعة) التي كان معها علم الله بصدقهم. والفاء في قوله { فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } للتعقيب المذكور، فإنه ـ تعالى ـ رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم. وفي قوله: "فَعَلِمَ" لبيان وصف المبايعة يكون (ها) معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم.
قوله: { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } يعني فتح خيبر. وقوله: { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً } أي وآتاهم مَغَانِمَ أو أثابهم مغانم. وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ: "يَأخُذُونَهَا" بالغيبة، وهي قراءة العامة، و"تَأخُذُونَهَا" بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطَلْحَةَ ونافعٍ في رواية سِقْلاَبٍ.
فصل
قيل: المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر، وكانت خيبر ذاتَ عَقَار وأموال فقسمها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهم. وقيل: مغانم هجر.
{ وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزا } كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه "حَكِيماً" حيث جعل هلاك أعدائه على أيديهم ليثيبكم عليه، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلالَ لآخرين فقال: يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ، ويعز من يشاء بِحِكْمَتِهِ.
قوله: { وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة وليس المغانم كل الثواب، بل الجنة قُدَّامهم، وإنما هي عاجلة عَجَّلَ بها لهم، ولهذا قال: { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـٰذِهِ } يعني خيبر { وَكَفَّ أَيْدِيَ ٱلنَّاسِ عَنْكُمْ } وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قصد خَيْبَرَ وحَاصَرَ أهلها هَمَّ قبائلُ من أَسَدَ، وغَطَفَان، ِأن يُغِيرُوا على عِيَال المسلمين وذَرَارِيهِمْ بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك، ويعلموا أن الله هو المتولِّي حياطتهم وحِرَاسَتَهُمْ في مشَهْدِهِمْ ومغيبهم.
قوله: "وَلتَكُونَ" يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق بفعل مقدر بعده تقديره: ولِتَكُونَ (فعلك) فعل ذلك.
الثاني: أنه معطوف على علة محذوفة تقديره: وَعَدَ فَعَجَّل وَكَفَّ لينتفعوا ولِيَكُونَ أو لتشكروا ولتكون.
الثالث: أن الواو مزيدة. والتعليل لما قبله أي وَكَفَّ لتكون.
قوله: { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } يثيبكم على الإسلام، ويزيدكم بَصيرَةً ويقيناً بصُلْح الحديبية وفتح خيبر، وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المُحَرَّم، ثم خرج في سَنَةِ سَبع إلى خيبر. روى أنسُ بن مالك (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)
"أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغير بنا حتى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فإن سمع أَذَاناً كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال: فخرجنا إلى خَيْبَرَ، فانتهينا إليهم، فلما أصبح لم يسمع أذاناً (ركب) وركبتُ خلف أبِي طلحة، وإن قدمي لتمَسُّ قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومَسَاحِيهم فلما رأوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا محمد, والله محمد والخميس أي محمد والجيش, فلما رآهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: الله أكبر الله أكبر خَربتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" . "وروى إياسُ بْنُ سَلَمَةَ قال حدثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: فجعل عمي يَرْتَجِزُ بالقَوم:"

4492 ـ تَاللَّـهِ لَـوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَـاوَلاَ تَصَــدَّقْـنَـــا وَلاَ صَـلَّيْـنَــــا
وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِـكَ مَا اسْتَغْنَيْنَــافَـثَـبِّــتِ الأَقَـــدْامَ إنْ لاَقَـيْـنَــــا
وَأَنْــزِلَــنْ سَكِـيـنَـــةً عَلَـيْــنَــــا

"فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَنْ هَذَا؟ فقال: أنا عامر، قال: غَفَر الله لك ربك. وما استغفر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإنسان يَخُصُّه إلا استشهد. قال: فنادى عمرُ بنُ الخَطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وهُوَ على جمل له: يا نبيّ الله لولا مَتَّعْتَنَا بعامرٍ قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مَرْحَبُ يخطر بسيفه يقول:"

4493ـ قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاَح يَطَلٌ مُجَرِّبُ
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ

"فقال علي ـ رضي الله عنه ـ:"

4494ـ أَنَا الَّـذِي سَمَّتْنِـي أُمِّي حَيْـدَرَهُكَلَيْــثِ غـابَــاتٍ كَــرِيهِ المَـنْظَــرَه
أَكِيـلُكُــمْ بِالصَّــاعِ كَيْــلَ السَّنْـــدَرَهْ

"قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه" .
(ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسَّندرة مكيال واسع. قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النَّبْل، والقِسِيُّ، والسَّنْدرة أيضاً العجلة، والنون زائدة. قال ابن الأثير: وذكرها الجَوْهَرِيُّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها).
وروي فتح خيبر من طرق أُخَر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.
قوله: "وأخرى" يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون مرفوعة بالابتداء و { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } صفتها و { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } خبرها.
الثاني: أن الخبر "منهم" محذوف مقدر قبلها، أي وَثَمَّ أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا.
الثالث: أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } أي وقَضَى اللهُ أُخَْرَى.
(الرابع: أن تكمون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير، بل لِدَلاَلة السِّياقِ، أي ووَعَدَ أُخْرَى، أو وآتاكُمْ أخرى.
الخامس: أن تكون مجرورة بـ "رُبَّ" مقدرة، ويكون الواو واو "رب" ذكره الزمخشري. وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف مشهور أهو برُبَّ مضمرة أم بنفس الواو؟ إلا أن أبا حيان قال: ولم تأت "رُبَّ" جارة في القرآن على كَثْرة دورها، يعني جارة لفظاً وإلا تقدر. قيل: إنها جارة تقديراً هنا وفي قوله:
{ رُّبَمَا } [الحجر:2] على قولنا: إنّ ما نكرة موصوفةٌ).
قوله: { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } يجوز أن يكون خبراً لـ "أُخْرَى" كما تقدم، أو صفة ثانية إذَا قِيلَ بأن أخرى مبتدأ وخبرها مضمر أو حالاً أيضاً.
فصل
قال المفسرون: معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدِروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها. قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ علم الله أنه يفتحها لكم. قال ابن الخطيب: تقديره: وعدكم الله مغانم تأخذونها، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين. وهذا تفسير الفراء. قال: معنى قوله: { قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا } أي حفظها للمؤمنين، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحُرَّاسِ بالخَزَائِنِ.
واختلفوا فيها فقال ابنُ عباس والحسن ومقاتل: هي فارس والرومُ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، بل كانوا حولاً لهم حتى قدروا عليها الإسلام. وقال الضَّحَّاكُ وابنُ زيد: هي خيبر وعدها الله ـ عزّ وجلّ ـ نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة: هي مكَّة. وقال عِكْرِمَةُ: حُنَيْن. وقال مجاهد: وما فَتَحُوا حتى اليوم، { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً }.
قوله تعالى: { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ ٱلَّذِينَ كفَرُواْ } يعني أسداً وغَطفانَ وأَهْلَ خَيْبَرَ { لَوَلَّوُاْ ٱلأَدْبَارَ }، قال ابن الخطيب: وهذا يصلح جواباً لمن يقول: كَفّ الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها، فقال: ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً، بل هو أمر إلهيٌّ محكوم به محتوم. ثم قال { لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }.
قول: { سُنَّةَ ٱللَّهِ } مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة، أي سَنَّ اللهُ ذَلك سنةً. قال ابن الخطيب: وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قومٌ من الجُهَّال وهو: إن الطَّوَالِعَ والتأثيرات والاتِّصالاتِ تأثيراتٌ وتغييرات فقال: ليس كذلك، بل سنة الله نصرة رسله، وإهلاك عدوه، والمعنى: هذه سنة الله في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً }.