التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
١١
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ... } الآية تقدم الخلاف في "قَوْم" وجعله الزمخشري ههنا جمعاً لقائم قال: كصَوْم وزَور جمع صَائِمٍ وزائرٍ. (و) فَعْل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو: رَكْب، وصَحْب. والسخرية هو أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال، ولا يلتفت إليه ويُسْقطه عن درجته، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب. ومعنى الآية لا تحقروا إخواتكم ولا تَسْتَصْغِرُوهُمْ.
فصل
قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ نزلت في ثابتِ بنِ قيسِ بنِ شِماس كان في أُذُنهِ وَقْرٌ، فكان إذا أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جَنْبه فَيستَمِعُ ما يقول، فأقبل ذاتَ يوم وقد فاتَتْه رَكْعَةٌ من صَلاة الفَجْرِ، فلما انصرف النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصلاة أخذ أصحابهُ مجالسَهم فَضنَّ كل رجل بمجلسه، فلا يكاد يوسعِ أحدٌ لأحدٍ وكان الرجل إذا جاء ولم يجدْ مجلساً قَام قائماً فلما فرغ ثابتٌ من الصلاة أقبلَ نحوَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخطى رقابَ الناس (ويقول): تفسَّحُوا تَفَسَّحُوا فَجَعلُوا يتفسَّحون حتى انتهى إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبينه وبينه رَجُل فقال له: تفسَّح فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً فاجْلس فجلس ثابتٌ خَلْفَهُ مُغْضَباً فلما انجلتِ الظّلمة غَمَزَّ ثابتٌ الرجلَ فقال: من هذا فقال: أنا فلانٌ فقال له ثابت: ابن فلانة؟ ذكر أمُاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه، فاستحيا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضَّحَّاكُ: نزلت فِي وَفْدِ تميم كانوا يستهزِئون بفُقَرَاء أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل عمَّار، وخَبَّاب وبلالٍ، وصُهَيْبٍ، وسَلَّمَانَ، وسالمٍ مولى حذيفة، لما رأو من رَثَاثة حَالِهِم.
قوله: { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } قرأ أُبَي وعبدُ الله بنُ مسعود عَسَوْا وعَسَيْنَ (جَعَلاَها نَاقصةً). وهي لغة تميم وقِرَاءَةُ العامة لغة الحجاز.
قوله: { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } روي أنها نزلتْ في نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عيرت أم سلمة بالقِصَر، وروى عكرمة عن ابن عباس أيضاً: نزلت في صَفيَّة بنتِ حُيَيّ بنِ أخْطَبَ قَالَ لها النساء: يهودية بنتُ يَهُودِيَّيْنِ.
قوله: { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يعبْ بعضكُم على بعض. قرأ الحَسَنُ والأَعْرجُ: ولا تَلْمُزُوا بالضّمِّ واللَّمْز بالقول وغيره والغَمْزُ باللسان فقط.
قوله: { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } التنابز تفاعل من النَّبْز وهو التداعِي بالنَّبْز والنَّزَبِ، وهو مقلوب منه لقلة هذا، وكثرةِ ذاك. ويقال؟: تَنَابَزُوا وتَنَازبوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقبِ سوءٍ. وأصله من الرفْع كأَنَّ النَّبزَ يَرْفَع صاحبه فيُشَاهَدُ. واللَّقَب: ما أشعر بضَعَةِ المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة أو رِفْعَتِهِ كالصِّدِّيق وعتيقٍ والفَارُوق، وأَسَد الله، وأَسَدِ رَسُولِهِ وله مع الكنية والاسم إذا اجتمعن أحكام كثيرة مذكورة في كتب النحو.
وأصل: تَنَابَزُوا تَتَنَابَزُوا أسقِطَتْ إحدى التاءين كما أسقط من الاستفهام إحدى الهَمزَتَيْنِ فقال:
{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } [البقرة:8] والحذفُ هَهُنَا أولى؛ لأن تاء الخطاب وتاء التفاعل حرفانِ من جنْسٍ واحدٍ في كلمة وهمزة الاستفهام كلمة برأسها و "أنذرتهم" أُخْرَى، واحتمال حَرْفَيْن في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة واحدة.
فصل
ذكر في الآية أموراً ثلاثةً مرتبة بعضها دون بعض، وهي السُّخْريَةُ واللَّمْزُ والنَّبْزُ. والسُّخْرية الاحتقار والاستصغار، واللمز ذكر في غيبته بعيب. وهذا دون الأول، لأنه لم يلتفت إليه وإنما جعله مثل المَسْخَرة الذي لا يغضب له ولا عَلَيْه، وهذا جعل فيه شيئاً ما فعابه به. والنَّبْزُ دون الثاني لأنه يَصِفهُ بوصفٍ ثابت فيه نقصه به، ويحط منزلته والنّبْزُ مجرد التسمية وإن لم يكن فيه لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحدٍ وعَلاَ عليه لا يكون معناه موجوداً فإن من سمي سَعْداً وسَعيداً قد لا يكون كذلك وكذلك من لُقّب إمام الدين أو حُسَام الدّين لا يفهم منه أنه كذلك وإنما هو علامة، وكذلك النَّبز، فإن من سمي مروان الحمار لم يكن كذلك فكأنه تعالى قال: لا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِروا إخوانكم بحيث لا تلتفوا إليهم أصلاً، وإذا نزلتم عن هذا فلا تَعيبُوهم طالبين حَطَّ درجتهم وإذا لم تَعِيبُوهم ولم تصفوهم بما يسوؤهم فلا تُسَمُّوهم بما يكرهُونه.
فصل
قال ابن الخطيب: القَوْمُ اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم والقائم بالأمور هو الرجال وعلى هذا ففي إفراد الرجال والنساء فائدة وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"النِّسَاءُ لَحْمٌ على وَضَم" فالمرأة لا يوجد منها استحقار الرجل لأنَّها مضطرة إليه في رفع حوائِجِها وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهم ذلك.
فصل
في قوله: { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } حكمة وهي أنهم أذا وجد منهم التَّكَبُّر المُفْضي إلى إحباط الأعمال وجعل نفسه خيراً منهم، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال: "أَنَا خَيْرٌ منه" فصار هو خيراً منه، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "يكونوا" أي يصيروا، فإن من استحقر إنساناً لفقره أو ضَعْفِهِ لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويضعف هو ويَقْوَى الضعيفُ.
فصل
في قوله: { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } وجهان:
أحدهما: أن عيب الأخ عائد إلى الأخ فإذا أعابه فكأنه أعاب نَفْسَه.
والثاني: أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملاً للغير على عيبه فكأنه هو العائب نفسه ونظيره قوله تعالى:
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء:29].
ويحتمل أن يقال: لا تعيبوا أنفسكم أي كل واحد منكم مُعَيَّب فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم أي كل واحد عاب واحد فصِرْتُمْ عائِبِينَ من وجه مُعيََّبين من وجه. وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله: "وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ".
فصل
قال: "وَلاَ تَنَابَزُوا" وَلَمْ يقُل: ولا تَنْبزُوا لأن اللامِزَ إذا لَمَزَ فالمَلْمُوز قد لا يجد فيه في الحال عيباً يَلْمِزُهُ به وإنما يبحث ويتتبّع ليطلع منه على عيب فيوجد اللمز في جانب. وأما النَّبْزُ فلا يعجز كل أحد عن الإتيَانِ بِنَبْزٍ، فالظاهر أن النَّبْزَ يُفْضِي في الحال إلى التَّنَابز، ولا كذلك اللمزُ.
فصل
قال المفسرون: اللقب هو أن يدعى الإنسان بغير ما يُسَمَّى به، وقال عكرمة: هو قول الرجل للرجل يا فاسقُ، يا منافقُ، يا كَافرُ. وقال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيقال له بعد إسلامه، يا يهوديّ يا نصرانيّ فنهوا عن ذلك، وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه: يا حمارُ يا خنزيرُ., وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): التنابز بالألقاب أن يكون الرجلُ عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعيَّر بما سلف من عمل.
قوله: { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } أي بئسَ الاسمُ أن يقول له: يا يَهُودِيُّ يا فاسِقُ بعدما آمَن. وقيل: معناه من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز فهو فاسق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق. ثم قال: { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي من ذلك { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.
قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ... } الآية. قيل: نَزَلَتْ في رَجُلَيْن اعتابا رفيقهما،
"وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رَجُلَيْن مُوسِرَيْن يخدمهما ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيّيء لهما طعامَهُمَا وشرابهما فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدم سلمانُ الفارسي إلى المنزل فغلبته عيناه فَلَمْ يُهيّىءْ لهما فلما قدما قالا له ما صَنَعْتَ شيئاً؟ قال: لا غلبتني عَيْنَاي، قالا له: انطلق إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واطلب لنا منه طعاماً، فجاء سلمان إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسأله طعاماً، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عند فضلٌ من طعام فَلْيُعْطِكَ؛ وكان أسامة خازن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى رَحْلِه فأتاه فقال ما عندي شيء فرجع سَلْمَانُ إليهما فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بَخِلَ فبعثَا سَلْمَانَ إلى طائفةٍ مِنَ الصَّحَابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رَجَعَ قالوا: بعثناه إلى بئر سُمَيْحَة فغار ماؤها ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما جاءا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لهما: مَا لِي أَرَى حَضْرَة اللَّحم فِي أَفْواهِكُمَا؟ قالا: والله يا رسول الله ما تَنَاوَلْنَا يَوْمنَا هذا لحماً قال: (بل) ظَلَلْتُمْ تأكلونَ لَحم أسامَة وسلمان" . فأنزل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ }.
فصل
قال سفيان الثوري: الظّنُّ ظنان:
أحدهما: إثم وهو أن يُظَنَّ ويتكلم به.
والأخر: ليس بإثم وهو أن يظن، ولا يتكلم به، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الْحَدِيثِ" .
قوله:: "إثْمٌ" جعل الزمخشري همزهُ بدلاً من واو قال: لأنه يَثِمُ الأَعْمَال أي يكسرها وهذا غير مُسَلَّمٍ بلْ تلك مادةٌ أخرى.
قوله: "وَلاَ تَجَسَّسُوا" التجسس التَّتبعُ، ومنه الجَاسُوسُ، والجَسَّاسَةُ، وجواسّ الإنسان وحَوَاسُّهُ ومشاعره، وقد قرأ هنا بالحاء الحَسَنُ وأبو رجاء وابنُ سِيرِينَ.
فصل
التجسس هو البحث عن عيوب الناس فنهى الله تعالى عن البحث عن المستورين من الناس وتتبع عوراتهم قال عليه الصلاة والسلام:
"لا تَجَسَّسُوا وَلاَ تَبَاغََضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْواناً" وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "يا مَعْشَرَ مَنْ آمنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضِ الإيمَانُ إلى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهم فإنه من تتبَّع عوراتِ المسلمين تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَلَو فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" . ونظر عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظَمِكَ وأعْظَمَ حُرْمَتِكَ والمُؤْمنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ عِنْدَ الله. وقيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنَّا قَدْ نُهينا عَنِ التَّجَسُّسِ فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.
فصل
واعلم أن الظن تُبْنَى عليه القبائح فالعاقل إذا وَقَفَ أموره على اليقين قلَّ ما يتيقّن في أحد عيباً يلمزه به لأن الوعظ في الصورة قد يكون قبيحاً وفي نفس الأمر لا يكون كذلك؛ لأن الفعل قد يكون فاعله ساهياً أو يكون الرأي مخطئاً، وقوله تعالى: { كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } إخراج للظنون التي تبنى عليها الخيرات.
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ
"ظُنّوا بالْمُؤْمِن خَيْراً" وقوله: { إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } إشارة إلى الأخذ بالأحوط. وقوله: "وَلاَ تَجَسَّسُوا" إتمامٌ لذلك لأنه تعالى لما قال: { اجتنبوا كثيراً من الظن } فهم منه أن المعتبر اليقين. وقوله: { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي لا يتناول بعضكُم بَعْضاً في غَيْبَتِهِ بما يَسوؤه مما هو فيه.
"قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أَتَدْرُونَ مَا الْغَيبةُ؟ قالوا: الله ورسوله أَعلَم قال: ذكرُك أَخَاكَ بما يَكْرَهُ. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد أغْتَبْتَهُ وإن لم يكن فيه ما تَقُولُ فقد بَهَتَّهُ" . وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن.
قوله: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } نصب "ميتاً" على الحال من "لَحْم" أو "أَخِيهِ"، وتقدم الخلاف في مَيْتاً.
فإن قيل: اللحم ألا يكون ميتاً؟.
فالجواب: بلى. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:
"مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ" فسمى القطعة ميتاً.
فإن قيل: إذا جعلناه حالاً من الأخ لا يكون هيئة الفاعل ولا المفعول فلا يجوز جعله حالاً فهو كقول القائل: مَرَرْتُ بِأَخِي زَيْدٍ (قَائِماً) ويريد كون زيدٍ قائما. وذلك لا يجوز.
قلنا: من أكل لحمه فقد أكل فصار الأخ مأكولاً مفعولاً بخلاف المرور بأخِي زيدٍ.
فصل
في هذا التشبيه إشارة إلى أن عِرْضَ الإنسان كَدمِهِ ولَحْمِهِ لأنَّ الإنسان يتألمُ قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم. وهذا من باب القياس الظاهر؟ لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه فلما لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأن ذلك آلمُ.
وقوله: "لَحْمَ أَخِيهِ" آكد في المنع؛ لأن العدو يحمله الغَضَبُ على مَضْغ لحم العدوِّ، وفي قوله: "مَيْتاً" إشارةٌ إلى دفع وَهَمٍ وهو أن يقال: الشَّتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلم فقال: آكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً يؤلمه ومع هذا فهو في غاية القبح لِمَا أنَّه لو اطلع عليه لتألم فإن الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه، وفيه معنى لطيفٌ وهو أن الاغتياب بأكل لحم الآدمِيِّ ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدميّ فكذلك المغتاب إن وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب.
قوله: "فَكَرِهْتُمُوهُ" قال الفراء: تقديره: فقَدْ كَرِهْتُمُوهُ فلا تفعلوه. وقال ابن الخطيب: الفاء في تقدير جواب كلام كأنه تعالى لما قال: أَيُحِبُّ للإنكار فكأنه قال: لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذَنْ. وقال أبو البقاء: المعطوف عليه محذوف تقديره عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرهتُمُوهُ. والمعنى يعرض عليكم فَتكرهُونَهُ.
وقيل: إن صح ذلك عندكم فأنتم (أي) تكرهونه قال ابن الخطيب: هو كمتعلق المسبّب بالسبب وتَرَقُّبِهِ عَلَيْه كقولك: جَاءَ فُلاَنٌ ماشياً فتَعِبَ، فقيل: هو خبر بمعنى الأمر كقولهم: "اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْراً يُثَبْ عَلَيْهِ". وقرأ أبو حيوة والجَحْدرِيّ: فكُرِّهْتُمُوهُ ـ بضم الكاف وتشديد الراء ـ عدي بالتضعيف إلى ثانٍ بخلاف قوله أولاً: "كَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ" فإنه وإن كان مضعّفاً لم يتعدّ لواحد لتضمنه معنى بَغَّضَ.
فصل
قال ابن الخطيب: الضمير في قوله: "فَكَرِهْتُمُوهُ" فيه وجوه:
أظهرها: أن يعود إلى الآكل لأن قوله تعالى: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ } معناه أيحب أحدكم الأكل لأن "أَنْ" مع الفعل للمصدر أي فَكِرهْتُمُ الأَكْلَ.
وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي فَكرِهْتُمُ اللَّحْمَ.
وثالثها: أن يعود إلى الميّت في قوله: "ميتاً" تقديره: أيُحِبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله: "ميتاً" ويكون فيه زيادَةُ مبالغة في التحذير يعني الميتة أن أكلت في النُّدرة لسبب كان نادراً ولكن إذا أَنْتَنَ وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً فكذلك ينبغي أنْ يكون الغيبة، وذلك يحقّق الكراهة ويوجب النُّفْرة إلى حد لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذَنْ كراهة شديدة فكذلك حال الغيبة.
فصل
قال مجاهد: لما قيل لهم: أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ أَنْ يَأكُلَ لَحْم أَخِيهِ مَيْتاً؟ قالوا: لا، قيل: "فكرهْتُمُوهُ" أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله إن ذِكْرَكَ مَنْ لم يَحْضُرك بسُوءٍ بمنزلةِ أكلِ لحمه وهو ميت لا يحسُّ بذلك.
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ
" لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقوم لَهُمْ أَظَْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءَ يا جِبْرِيلُ؟ قال: هَؤُلاء الذين يأكلون لحُوم النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ" .
قوله: "وأتَّقُوا اللهَ" عطف على ما تقدم من الأوَامِر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولَى: { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } وقال ههنا: { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله: { لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله: "اجْتَنِبُوا كَثِيراً" فذكر الإثبات الذي هو قريبٌ من الأمْر.