التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِيۤ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
١١٦
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
١١٧
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

اختلَفُوا في هذا القَوْلِ، هَلْ وقع وانْقَضَى، أو سيقع يوم القيامة؟ على قولين:
الأول: قال بعضُهم: لمَّا رفعهُ إليه، قال له ذلك، وعلى هذا فـ "إذْ" و"قَالَ" على موضوعهما منَ المُضِيِّ، وهو الظاهر، وقال بعضُهم: سيقولُه له يَوْمَ القيامة؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله
{ { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ } [المائدة: 109] [الآية]، وقوله بعد هذا: { { يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119] وعلى هذا فـ "إذْ"، و"قَالَ" بمعنى "يَقُولُ"، وكونُها بمعنى "إذَا" أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ: إنها زائدةٌ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة.
قوله: "أأنْتَ قُلْتَ" دخلت الهمزةُ على المبتدأ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان، وهو: أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة، فيقال: "أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً"، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود، وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ الفعلِ، أولِيَ الفعلُ للهمزة، فيقال: "أضَرَبْتَ زَيْداً"، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب، بل شَكَكْتَ فيه، والحاصلُ: أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه، فالاستفهامُ في الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون له ولأمِّه إلهَيْنِ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه؛ لأن الاتخاذَ قد وقع ولا بُدَّ، واللام في "للنَّاس" للتبليغِ فقط، و"اتَّخِذُوني" يجوز أن تكون بمعنى "صَيَّرَ"، فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما "إلَهَيْنِ"، وأن تكونَ المتعدية لواحدٍ فـ "إلَهَيْنِ" حالٌ، و{ مِن دُون الله } فيه وجهان:
أظهرهما: أنه متعلقٌ بالاتخاذ، وأجاز أبو البقاء -رحمه الله تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ؛ على أنه صفةٌ لـ "إلَهَيْنِ".
فإن قيل: كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ الغُيُوب؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [- عليه الصلاة والسلام - ومريم].
فالجوابُ عن الأول: أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ، وقَصْدُ هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ يَقُلْهُ.
والجوابُ عن الثَّانِي: أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى، بل عيسى ابن مريم - عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله، [مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ]، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ.
وقال القُرْطُبِي -رحمه الله -: فإن قيل: النَّصَارَى لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم؟.
فقيل: لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً، وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا: إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة بمثابة من ولدَتْه، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ.
فإن قيل: إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك، فلم خاطَبَهُ به؟ فإن قُلْتُم: الغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم، فنقُولُ: إنَّ أحَداً من النَّصَارى لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله تعالى، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ، مع أنَّ أحَداً منهم لَمْ يَقُلْ به؟.
فالجوابُ: أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه أمَرَهُم بذلك.
قوله: "سُبْحَانَك" أي: تنزيهاً لك، وتقدَّم الكلام عليه في البقرة [الآية: 32]، ومتعلَّقُه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ: "سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ"، وقدَّره ابن عطية: "عَنْ أنْ يُقالَ هذا، ويُنْطَقَ به" ورجَّحَهُ أبو حيان - رضي الله عنه - لقوله بَعْدُ: { ما يكونُ لي أن أقُولَ }. قوله: "أنْ أقُولَ" في محلِّ رفع؛ لأنه اسمُ "يكُونُ"، والخبرُ في الجارِّ قبله، أي: ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا، و"مَا" يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ؛ فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، فإنَّ "مَا" منصوبةٌ بـ "أقُولَ" نصب المفعول به؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة، فهو نظيرُ "قُلْتُ كلاماً"، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل "أقُولَ" بمعنى "أدَّعِي" أو "أذْكُرَ"، كما فعله أبو البقاءرحمه الله وفي "لَيْسَ" ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها، وفي خبرها وجهان:
أحدهما: أنه "لِي"، أي: ما لَيْسَ مستقرّاً لي وثابتاً، وأمَّا "بِحَقٍّ" على هذا، ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين:
أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في "لي".
قال: والثاني: أن يكون مفعولاً به، تقديره: ما ليس يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف، لا بنفسِ الجارِّ؛ لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به. قال شهاب الدين: وهذا ليْسَ بجيِّدٍ؛ لأنه قدَّر متعلَّقَ [الخبر كوناً مقيَّداً، ثم حذفه، وأبقى معموله.
الوجه الثالث: أنَّ قوله "بحَقٍّ" متعلقٌ] بقوله: "عَلِمْتَهُ"، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله "لِي"، والمعنى: فققد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ، [وقد رُدَّ] هذا بأنَّ الأصْل عدم التقديم والتأخير، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منه من ذلك: أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على "بِحَقٍّ"، ويَبْتَدئُونَ بـ { إِن كُنْتُ قُلْتُهُ }، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَبَ اتِّباعه.
والوجه الثاني في خبر "لَيْسَ": أنه "بِحَقٍّ"، وعلى هذا، ففي "لِي" ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه "يَتَبَيَّنُ"؛ كما في قولهم: "سُقْياً لَهُ"، أي: فيتعلَّقُ بمحذوف.
والثاني: أنه حالٌ من "بِحَقٍّ"؛ لأنه لو تأخَّر، لكان صفةً له، قال أبو البقاء: "وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه" [قلتُ: قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه]، وما أوردوه من الشواهد، وفيه أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ، فإنَّ "بِحَقٍّ" هو العاملُ؛ إذ "لَيْسَ" لا يجوز أن تعمل في شيء، وإن قلنا: إنَّ "كان" أختها قد تعمل لأن "لَيْسَ" لا حدثَ لها بالإجماع.
والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ "حَقّ"؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ، و"حَقّ" بمعنى "مُسْتَحقّ"، أي: ما لَيْسَ مستحِقًّا لي.
فصل
اعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام - أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ، أو: ما قُلْتُ، بل قال: ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين:
أحدهما: تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه.
والثاني: خُضُوعاً لِعِزَّتِه، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ.
ثُمَّ قال: { ما يكون لي أنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي: أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني: أنِّي مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ، وعَابِدٌ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ، ولمَّا بيَّن أنَّه ليس له أنْ يقول هذا الكلام، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ لا؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ، فقال: "إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ"، وهذا مُبالغَةٌ في الأدبِ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ، وتَفْوِيض الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى -.
قوله: { إن كنت قلته }: "كنت" وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر، وقدَّره الفارسي بقوله: "إن أكن الآن قلتُه فيما مضى" لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل. وقوله: "فقد عَلِمْتَه" أي: فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله:
{ { فَصَدَقَتْ } [يوسف: 26] و { فَكَذَبَتْ } [يوسف: 27] و { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ } [النمل: 90].
قوله تعالى: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ }.
قوله: { تعلمُ ما في نفسي } هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائناً موجوداً على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ، وأمَّا: "ولا أعلم" فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج أنها تُطْلقُ ويُراد بها حقيقةُ الشيء، والمعنى في قوله { تعلم ما في نفسي } إلى آخره واضحٌ.
وقال: المعنى: تعلمُ ما أخفيه من سِرِّي وغيبي، أي: ما غابَ ولم أظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخْفيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه، فذكر النفس مقابلةً وازدواجاً، وهذا منتزع من قول ابن عباس، وعليه حام الزمخشريرحمه الله فإنه قال: "تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومك"، وأتى بقوله: { ما في نفسك } على جهةَ المقابلةِ والتشاكلِ [لقوله: "ما في نفسي" فهو] كقوله:
{ { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 54]، وكقوله: { { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة: 14، 15].
وقيل: المعنى: تعلمُ ما عندِي ولا أعلمُ ما عندكَ.
وقيل: تعلمُ ما في الدُّنْيَا، ولا أعلمُ ما يكونُ مِنْكَ في الآخِرَة.
وقيل: تعلمُ بما أقُولُ وأفْعلُ، ولا أعْلَمُ بما تقول وتفعل { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } وهذا تأكيدٌ للجملتَيْنِ المُتقدِّمتَيْنِ.
وتمسَّكتِ المُجسِّمَةُ بقوله "بِمَا في نفْسِكَ"، وقالوا: النَّفْسُ إنَّما تكون في الشَّخْصِ.
وأجيبُوا: بأنَّ النَّفْسَ عبارة عن الذاتِ، يقال: نَفْسُ الشَّيء وذاته بمعنى واحد، وأيضاً المراد: تعلم معْلُومِي ولا أعلم معلُومَك، ولكنَّه ذكر هذا الكلامَ على طريقِ المُقابلةِ والمُشاكلةِ.
قال الزَّجاج: النَّفْسُ عبارةٌ عن جُمْلَةِ الشَّيء وحقيقتِهِ.
قوله تعالى: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ }: هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ "ما" منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول. وقدَّر أبو البقاء القول بمعنى الذكر والتأدية. و"ما" يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى: "أن اعبُدوا" في "أنْ" سبعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في "به" والتقديرُ: ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار "أعني"، أي: إنه فسَّر ذلك المأمور به.
الثالث: أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ "به" في { ما أمرتني به } لأن محلَّ المجرور نصب.
الرابع: أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ.
الخامس: أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به.
السادس: أنها بدلٌ من "ما" نفسها أي: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا.
السابع: أنَّ "أنْ" تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي. وممن ذهب إلى جواز أنَّ "أنْ" بدلٌ مِنْ "ما" فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها. وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلاً من "ما" أو من الهاء في "به". قال -رحمه الله -: "أنْ" في قوله: { أن اعبدوا الله } إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر: إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى، فلو فسَّرْتَه بـ { اعبدوا الله ربي وربكم } لم يستقم لأن الله لا يقول: اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من "ما" في { ما أمرتني به }، أو من الهاء في "به"، وكلاهما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه، ولا يُقال: ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله، أي: ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء، لأنك لو أقَمْتَ "أن اعبدوا" مقام الهاء [فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته، فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به }: ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيم تفسيره بـ { أن اعبدوا الله ربي وربكم }، ويجوزُ أن تكون "أنْ" موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً.
وتعقَّب عليه أبو حيان كلامه فقال: "أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [وقوله: "لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم" فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله: "اعبدوا الله" ويكون "ربي وربكم" من كلام عيسى على إضمار "أعني" أي: "أعني ربي وربكم"، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده، وأمّا] قوله: "لأن العبادة لا تُقال" فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي: ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي: القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى، وأمَّا قوله "لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته" فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين: "زيد مررت به أبي عبد الله" ولو قلت: "زيدٌ مررت بأبي عبد الله" لم يجز إلا على رأي الأخفش. وأما قوله: "عطفاً على بيان الهاء" ففيه بُعْد، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ. وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد "إلا"، وكلُّ ما كان بعد "إلا" المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب، و"أن" التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب". انتهى.
قال شهاب الدين: أمَّا قوله: "إن ربي وربكم من كلام عيسى" ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ "ربي" تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدُّ من قولهم "يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه" فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ "اعبدوا الله" من كلام الله تعالى و"ربي وربكم" من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ لـ "أمرتَ" المسند للباري تعالى. وأمَّا قوله "يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف" ففيه بعض جودة، وأما قوله: "إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم" واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز "جاء الذي مررت به أبي عبد الله" بجرِّ "عبد الله" بدلاً من الهاء، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل: "لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه" فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم، قال شهاب الدينرحمه الله : فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى. وأمَّا قوله: "وكلُّ ما كان بعد "إلا" المستثنى به إلى آخره" فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها.
ويجوز في "أنْ" الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله: "فَمَنِ اضْطُرَّ" في البقرة [الآية 173]. و"ربي" نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً، فهذه خمسة [أوجهٍ] تقدَّم إيضاحُها.
قوله: "شهيداً" خبر "كان"، و"عليهم" متعلق به، و"ما" مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و"دام" صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة، ويكون "فيهم" متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يحتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون "فيهم" في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ: مدة دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال: "دِمْتُ تدام" كخِفْتُ تخاف. قوله: { كنت أنت الرقيب عليهم } يجوز في "أنت" أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً. وقرىء "الرقيبُ" بالرفع على أنه خبر لـ "أنت" والجملةُ خبرٌ لـ "كان"، كقول القائل: [الطويل]

2100-............................. وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ

وقد تقدَّم اشتقاق "الرقيب". و"عليهم" متعلَّقٌ به. و"على كلِّ شيء" متعلِّقٌ بـ "شهيد" قُدِّمَ للفاصلة.
فصل
معنى الكلام { وكُنتُ عليهمْ شَهِيداً } أي: كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون، ما دمتُ مُقِيماً فيهم، "فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي" والمرادُ منهُ: الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله:
{ { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران: 55].
و{ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }، قال الزجاج: الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم.
فالشَّهِيدُ: المُشاهِد، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ.