التفاسير

< >
عرض

جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
٩٩
قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠٠
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

لمَّا حرَّم الله تعالى الاصْطِيَاد على المُحْرِمين، وبيَّن أنَّ الإحْرَام سَبَب لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، بيَّن هاهُنَا أنَّ ذلِكَ التَّحْرِيم الذي حَرَّمَهُ الإحرام؛ إنَّما سببُه حُرْمَة هذا البيت الحرامِ، فكما أنَّه سَبَبٌ لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، فكذلك هُوَ سَبَبٌ لأمْن النَّاسِ عن الآفات والمخافات.
قوله: "جَعَلَ اللَّهُ": فيها وجهان:
أحدهما: أنها بمعنى "صَيَّرَ" فتتعدَّى لاثنين، أولهما "الكَعْبَة" والثاني "قِيَاماً".
والثاني: أن تكون بمعنى "خَلَقَ"، فتتعدَّى لواحد، وهو "الكَعْبَة"، و"قِياماً" نصبٌ على الحال، وقال بعضُهُمْ: إنَّ "جَعَلَ" هنا بمعنى "بَيَّنَ" و"حَكَمَ"، وهذا ينبغي أن يُحْمَلَ على تَفْسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية؛ أنها تكونُ بمعنى "بَيَّنَ" ولا "حَكَمَ"، ولكن يلزمُ من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا "البَيْتَ"، فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ، وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك: أن بعض الجاهليَّة - وهم خَثْعَم - سَمَّوْا بيتاً الكعبة اليمانية، فجيء بهذا البدلِ، أو البيانِ، تبييناً له من غيره، وقال الزمخشريُّ: "البَيْتَ الحَرَامَ" عطف بيانٍ على جهة المدحِ، لا على جهة التوضيحِ؛ كما تجيء الصفةُ كذلك، واعترض عليه أبو حيان بأن شرط البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعِرُ بمَدْحٍ، وإنما يُشْعِرُ به المشتقُّ، ثم قال: "إلاَّ أنْ يُريد أنه لَمَّا وُصِفَ البيْتُ بالحرامِ اقْتَضَى المجموعُ ذلك فيمكنُ".
والكَعْبَةُ لغةً: كلُّ بيْتٍ مربَّعٍ، وسُمِّيَت الكعبةُ كَعْبَةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكعبِ الذي هو أحَدُ أعضاءِ الآدميِّ، قال الراغب: "كَعْبُ الرَّجُلِ" العَظْم الذي عند مُلْتَقى الساق والقَدَم، والكَعْبةُ كُلُّ بَيْتٍ على هَيْئَتِهَا في التَّرْبِيع، والعربُ تُسَمِّي كلَّ بَيْت مُرَبَّع كَعْبةً؛ لانفرادها من البِنَاءِ.
وقيل: سُمِّيَت كَعْبَةً لارتفَاعِهَا من الأرْض، وأصْلُها من الخُرُوج والارتِفَاع، وسُمِّيَ الكعبُ كَعْباً لِنُتُوئِهِ، وخُرُوجه من جَانِبي القَدم، ومنه قِيلَ لِلْجَارية إذا قاربتِ البُلُوغَ وخَرَجَ ثَدْياهَا تكعَّبَتْ والكعبة لمَّا ارتفع ذِكْرُها سُمِّيَتْ بهذا الاسْم، ويقولون لِمَنْ عَظُمَ أمْرُه "فلانٌ عَلاَ كَعْبُهُ" وذُو الكعبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وتقدَّم الكلام في هذه المادةِ أول السورة [آية 6].
فصل
قَالُوا: بُنِيَتِ الكَعْبةُ الكَريمَةُ خَمْسَ مَرَّاتٍ:
الأولى: بناءُ الملائِكَة قبلَ آدَمَ - عليه السلام -.
والثانية: بِنَاءُ إبراهيم - عليه السلام -.
والثالثة: بناءُ قُرَيْشٍ في الجاهليَّة، وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البِنَاء.
والرابعة: بناءُ ابنُ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه -.
والخامسة: بناءُ الحَجَّاج وهو البِنَاءُ الموجُودُ اليَوْمَ، وهكذا كانَتْ في زمَنِ الرَّسُولِ - عليه السلام - قال المارودي في "الأحْكَام السُّلطَانِيَّة": كانت الكَعْبَةُ بَعْدَ إبراهيم - عليه السلام - مع "جُرْهُم" والعمَالِقَة إلى أن انْقَرَضُوا، وخلفتهم فيها قريشُ بعد استيلائِهِم على الحَرَمِ لِكَثْرتِهِم بعد القِلَّةِ، وعِزهِم بَعْدَ الذِّلَّةِ، فكان أوَّلُ من جَدَّدَ بِنَاءَ الكَعْبَةِ بعد إبْراهيمَ - عليه السلام - قُصَيّ بن كِلاَب، وسَقَّفَها بخَشَبِ الدومِ وجريد النَّخْل، ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنُ خمْسٍ وعشرين سَنَةً، وشَهِدَ بِنَاءَهَا، وكان بابُها بالأرْض، فقال أبُو حُذَيْفَة بنُ المُغِيرة: يا قَوْمُ، ارفعُوا باب الكَعْبَةِ حتَّى لا يَدْخُلَ [أحدٌ] إلاَّ بسُلَّمِ، فإنَّه لا يدخلها حينئذٍ الآنَ إلاَّ ما أَرَدْتُمْ، فإن جاء أحَدٌ ممن تَكْرَهُون، رَمَيْتُم به فَسَقَطَ، وصار نكالاً لمن يَرَاهُ، ففعلت قُرَيْشُ ذلك، وكان سببُ بِنَائِها أنَّ الكَعْبَة استُهْدِمَتْ وكانَتْ فَوْق القَامَةِ، فأرَادُوا تَعْلِيَتَهَا.
قوله: "قِياماً" [قراءة الجمهورُ بألفٍ بعد الياء، وابنُ عامرٍ: "قِيَماً" دون ألف بزنة "عِنَبٍ"، والقيامُ هنا يحتملُ أن يكون مصدراً لـ "قَامَ - يَقُومُ"، والمعنى: أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكعبةَ سَبَباً لقيام النَّاسِ إليها، أي: لزيارتها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهِمْ ودُنْيَاهُمْ، فيها يَقُومُونَ، ويجوزُ أنْ يكونَ القيامُ بمعنى القوامِ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسارِ ما قبلها، كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ إذ لا موجبَ لإعلاله؛ إذ هو:ـ "السِّوَاكِ"، فينبغي أن يقال: إنَّ القيامَ والقوامَ بمعنًى واحدٍ؛ قال: [الرجز]

2054- قِوَامُ دُنْيَا وقِوَامُ دِينِ

فأمَّا إذا دخلها تاءُ التأنيث، لَزِمَتِ الياءُ؛ نحو: "القِيَامَة"، وأمَّا قراءةُ ابن عامر، فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أنْ يكون مصدراً على فعلٍ، وإما أن يكون على فعالٍ، فإن كان الأوَّل، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ كـ "حِوَلٍ" و"عوَرٍ"، وإن كان الثاني، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ: "قَيِّماً" بتشديد الياء، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ النساء [الآية 5]].
فصل في معنى الآية
معنى كونه قِيَاماً للنَّاسِ أي: سَبَبٌ لقوَامِ مصالِح النَّاسِ في أمر دينهم ودُنيَاهم أمَّا الدِّين؛ فلأنَّ به يقوم الحَجُّ والمَنَاسِكُ، وأمَّا الدُّنْيَا: فبما يُجْبَى إليه من الثَّمَرَات، وكانوا يَأمَنُونُ فيه من النَّهْبِ والغَارَةِ، فلا يتعرَّضُ لهم أحَدٌ من الحرمِ، فكأنَّ أهلَ الحرمِ آمِنين على أنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم، حتَّى لو لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِل أبيه وابنِهِ لم يتعرَّضْ لَهُ، ولو جَنَى الرَّجُلُ أعظم الجِنَايَاتِ ثُمَّ التَجَأ إلى الحَرَمِ، لُمْ يُتعَرَّضْ له، قال تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67].
والمرادُ بقوله: "قِيَاماً للنَّاس" أي: لِبَعْضِ النَّاسِ وهم العرب، وإنَّما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ أهْلَ كلِّ بَلَدٍ إذا قالُوا: النَّاسُ فَعَلُوا [وصنعُوا] كذا، فهُم لا يُرِيدُون إلاَّ أهْلَ بلدِهمْ، فلهَذَا السَّبَب خُوطِبُوا بهذا الخطاب على وفقِ عادَتِهِم.
قوله: { والشهر الحرام والهدي والقلائِدَ } عطف على "الكَعْبَة"، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ، لفهم المعنى، أي: جعل الله أيضاً الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَاماً.
واعلم: أنَّه تعالى جعل هذه الأرْبَعَةَ أشْيَاء أسْبَاباً لِقِيامِ النَّاسِ وقوامِهِم، فأحَدُهَا: الكَعْبَةُ كما تقدَّم بيَانُهُ. وثانيها: الشَّهْرُ الحرامُ، ومعنى كونه سَبَباً لِقيامِ النَّاسِ: هو أنَّ العرب كان يَقْتُلُ بعضهم بعضاً، ويُغِير بعضُهُمْ على بعضٍ في سائرِ الأشْهُرِ، فإذا دخلَ الشَّهْرُ الحرامُ زال الخَوْفُ، وسافَرُوا للتِّجاراتِ، وأمِنُوا على أنْفُسِهِمْ وأمْوَالِهِم، وحَصَّلوا في الشَّهْرِ الحرامِ قُوتَهُمْ طُول السَّنةِ، فلولا الشَّهْرُ الحرام لفَنَوْا وهَلَكُوا من الجُوعِ والشِّدَّةِ، فكان الشَّهْرُ الحَرَامُ سَبَباً لِقوَامِ مَعيشَتِهِمْ.
والمُرادُ بالشَّهْرِ الحرامِ: الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي: ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ورَجَب.
وثالثها: الهَدْيُ، ومعنى كونه سَبَباً لقيام النَّاسِ: لأنَّ الهدْيَ ما يُهْدَى إلى البيتِ، ويُذْبَحُ هُناكَ ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على الفُقَراءِ فيكُونُ ذلِكَ نُسُكاً للمهدي، وقواماً لمعيشَة الفُقراء.
ورابعها: القلائِدُ، ومعنى كونها قواماً للناس: أنَّ من قصدَ البَيْتَ في الشَّهْرِ الحرامِ أوْ فِي غيرِ الشَّهْرِ الحرامِ، ومعه هديٌ قد قلَّدَه، وقلَّدَ نَفْسَهُ من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، لم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ، حتَّى إنَّ أحَداً من العرب يلقَى الهديَ مُقلَّداً، وهو يموتُ من الجُوعِ فلا يتعرَّضُ له ألْبتَّةَ، ولم يتعرَّضْ لها صاحِبُها أيضاً، وكلُّ ذلِكَ إنَّما كان؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أوْقَعَ في قُلُوبِهم تَعْظيمَ البيْتِ الحَرَامِ.
فصل
قال القُرْطُبِي: ذكر العُلمَاءُ في جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء قِيَاماً للناس، أنَّ اللَّه تعالى خلق الخَلْقَ على سَليقَةِ الآدَميِّين، من التَّحَاسُدِ، والتَّنَافُرِ، والتَّقَاطُعِ، والتدابر، والسَّلْبِ، والغَارَةِ، والقَتْل، والثَّأرِ، فلم يكن بُدٌّ في الحِكْمَة الإلهيَّة أنْ يكُونَ مع الحالِ وازعٌ يُحْمَد معهُ المآلُ، فقال تعالى:
{ { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] فأمرهُم الله تعالى بالخلافَةِ، وجعل أمُورهُمْ إلى واحدٍ يَمْنَعُهُم من التَّنَاوشِ، ويَحْملُهُم على التَّآلُف من التَّقَاطُعِ، وردِّ المظالِمِ عن المَظْلُومِ، ويقَرِّر كلَّ يدٍ على ما تَسْتَوْلي عليه.
واعلم: أنَّ جوْرَ السُّلطان عام واحِدٌ أقَلُّ أذاه كونُ النَّاسِ فَوْضَى لحظَةً واحدة، فأنْشَأ اللَّهُ تعالى الخَليقَةَ لهذه الفَائِدَة، لتجرِيَ على رأيه الأمُور، ويَكُف اللَّهُ تعالى به عاديَة الأمُورِ فعظَّم اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهِم البَيْتَ الحرامَ، [وأوقع في قُلُوبهم هَيْبَتَه] وعظَّم بينهم حُرْمَتَهُ، فكان من لجأ إليه مَعْصُوماً قال تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67].
قوله "ذَلِكَ" فيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: الحُكْمُ الذي حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره.
الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به، و"تَعْلَموا" منصوبٌ بإضمار "أنْ" بعد لام كَيْ، لا بها، و"أنَّ اللَّه" وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم، و{ أنَّ الله بِكلِّ شيءٍ عليمٌ } نسقٌ على "أنَّ" قبلها.
فإن قيل: أيُّ اتِّصَالٍ لهذا الكلامِ بمَا قَبْلَهُ.
قيل: لمَّا عَلِمَ في الأزَل أنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ العَرَب الحرص الشَّديد على القَتْلِ والغارَةِ، وعلمَ أنَّ هذه الحالة لو دَامَتْ بهم، لَعَجَزُوا عن تَحْصيلِ ما يَحْتَاجُونَ إليه، وأدَّى ذلك إلى فَنَائِهِم وانْقِطَاعِهِم بالكُلِّيَّة، دَبَّرَ في ذلك تَدْبِيراً لَطِيفاً، وهو أنَّه تعالى ألْقى في قُلُوبِهمْ تَعْظيمَ البَيْتِ الحَرَامِ وتَعْظِيمَ مَنَاسِكهِ، فصار ذلك سبباً لحصُول الأمْن في البلدِ الحرامِ وفي الشَّهْر الحرام، فلمَّا حصل الأمْنُ في هذا المكانِ، وفي هذا الزَّمَانِ، قَدَروا على تَحْصِيلِ ما يَحْتَاجُون إليه في هذا المكانِ، فاسْتَقَامَتْ مصالح مَعَايِشهم، وهذا التَّدْبِيرُ لا يُمكن إلاَّ إذا كان في الأزَلِ عالماً بِجَمِيع المعلُومَاتِ من الكُلِّيَّاتِ والجُزْئِيَّاتِ، وأنَّهُ بِكُلِّ شَيء عليم.
وقيل في الجوابِ: أنَّ الله جعل الكَعْبَة قياماً للنَّاسِ، لأنَّه يَعْلَمُ صلاح العِبَاد، كما يَعْلَمُ ما في السَّماءِ وما في الأرْضِ.
وقال الزَّجَّاج: وقد سبق في هذ السُّورةِ الإخْبَارُ عن الغُيُوبِ، والكَشْف عن الأسْرَارِ، مثل قوله تعالى:
{ { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } [المائدة: 41]، ومثلُ إخبارِهِ بِتَحْرِيفِهم الكُتُبَ فقوله ذلك ليَعْلَمُوا أنَّ اللَّه يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرْض راجِعٌ إليه.
وقوله تعالى: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، لمَّا ذكر تعالى أنواع رَحْمَتِه لعبادِه، ذكر بَعْدَهُ شِدَّة العقابِ؛ لأنَّ الإيمان لا يَتِمُّ إلا بالرَّجَاء والخَوْفِ.
قال - عليه السلام -:
"لو وُزِنَ المُؤمِنِ ورَجَاؤهُ لاعتدَلاَ" ، ثُمَّ ذكر بعدهُ ما يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ، وهو كونُهُ غَفُوراً رَحِيماً، وهذا يَدُلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر فيما قَبْلُ أنْواع رَحْمَتِهِ وكرمِهِ، ثُمَّ ذكرَ أنَّه شَدِيدُ العِقَابِ، ثُمَّ ذكر عَقِيبَهُ وصْفَيْنِ من أوْصَافِ الرحمةِ، وهُوَ كَوْنُهُ غَفُوراً رحيماً، وهذا يَدُلُّ على تَغْلِيبِ جانبِ الرَّحمَةِ على جَانِب العذابِ.
قوله تعالى: { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } لما قدَّم التَّرْغيبَ والتَّرْهيبَ بقوله: { أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، أتبعه بذِكْرِ التَّكْليفِ، فقال تعالى: { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } يَعْنِي: أنَّهُ مُكَلَّفٌ بالتَّبليغِ، فلما بلَّغ خرجَ عن العُهْدَةِ، وبَقِيَ الأمْرُ من جانِبِنَا، وإذا عَلِمَ بما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ فإن خَالَفْتُمْ، فاعلموا أنَّ اللَّهَ شديدُ العقاب، وإنْ أطَعْتُمْ فاعلمُوا أنَّ اللَّه غفورٌ رحيمٌ.
قوله: "إلاَّ البلاغُ": في رفعه وجهان:
أحدهما: أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النفي، أي: ما استقرَّ على الرَّسُول إلا البلاغُ.
والثاني: أنه مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وعلى التقديرين، فالاستثناء مفرَّغٌ.
والبلاغُ يُحْتَمَلُ أن يكون مصدراً [لـ "بَلَّغَ" مشدَّداً، أي: ما عليه إلا التبليغُ، فجاء على حذفِ الزوائدِ، كـ "نَبَات" بعد "أنْبَتَ"، ويحتمل أن يكون مصدراً] لـ "بَلَغَ" مُخَفَّفاً بمعنى البُلُوغ، ويكون المعنى: ما عليه إلا البُلُوغُ بتبليغه، فالبلوغُ مُسْتلزمٌ للتبليغِ، فعبَّر باللاَّزمِ عن الملزوم.
قوله تعالى: { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } لمَّا رغَّب - سبحانه وتعالى - في الطَّاعةِ، والتَّنَزُّهِ عن المَعْصِيَةِ بقوله: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، ثمَّ أتْبَعَهُ بالتَّكليفِ بقوله تعالى: { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }، أتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَر من التَّرْغيبِ في الطَّاعَةِ وتَرْكِ المعْصِيَةِ، فقال: { قُل لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ }.
قال المُفَسِّرُون: أي: الحَلالُ والحرَامُ.
وقال السدِّيُّ: المُؤمِنُ والكَافِرُ، وقيل: المُطِيع والعَاصِي، وقيل: الرَّدِيءُ والجيِّد.
قال القرطبي: وهذا على ضَرْبِ المثال، والصَّحِيحُ أنَّهُ عَامٌّ، فيتَصَوَّر في المكاسبِ، والأعمالِ، والنَّاس، والمعارف من العُلُوم وغيْرِها، فالخَبِيثُ [من هذا كُله لا يُفلح ولا يُنجِبُ، ولا تَحْسن له عَاقِبةٌ] وإنْ كثُرَ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ نافعٌ.
[قوله تعالى]: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ }.
نزلت في شُرَيْج بن ضُبَيْعَة البَكْري، وحجَّاجِ بن بكرِ بن وائل، "فاتَّقُوا اللَّه" ولا تتعرَّضُوا للحجَّاج وإنْ كانُوا مُشرِكِين، وقد مَضَتِ القِصَّةُ أوَّلَ السُّورَة { يَٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وجواب { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ }: محذوفٌ، أي: ولو أعْجبكَ كَثْرةُ الخبيثِ، لَما استوى مع الطَّيِّبِ، أو: لما أجْدَى شيئاً في المساواة.