التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨
فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ
٣٩
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ
٤٠
وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ ٱلْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٤١
يَوْمَ يَسْمَعُونَ ٱلصَّيْحَةَ بِٱلْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ
٤٢

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أعاد الدليل مرة أخرى وقد مرّ تفسيره في الم السجدة، فقيل: إن هذا ردّ على اليهود في قولهم: إن الله - سبحانه وتعالى - استراح يوم السَّبْتِ. والظاهر أنها ردّ على المشركين، أي لم يَعْيَ عن الخلق الأول فكيف يعجز عن الإعادة؟
قال ابن الخطيب: وأشار بقوله: فِي ستَّة أيام إلى ستة أطْوَارٍ لأَنَّ المراد من الأيام لا يمكن أن يكون هو المفهوم من وضع اللغة، لأن اليوم في اللغة عبارة عن زمان مُكْثِ الشَّمْس فوق الأرض من الطُّلوع إلى الغُرُوب. وقيل: خلق السموات لم يكن شمسٌ ولا قمرٌ لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت، يقال: يَوْمَ يُولَدُ لِلْمَلِكِ ابْنٌ يَكُونُ سُرُورٌ عَظيمٌ ويَوْمَ يَمُوت فُلاَنٌ يَكُون حُزْنٌ شَدِيدٌ، وإن اتفقت الوِلادة أو الموت لئلا لا يتعين ذلك. وقد يدخل في مراد القائل، لأنه أراد باليوم مُجَرّد الوقتِ.
قوله: { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون مستأنفاً. والعامة على ضَمِّ لام اللُّغُوب. وعليٌّ وطلحةُ والسُّلَمِيّ ويَعْقُوبُ بفتحها. وهما مصدران (بمعنًى). وينبغي أن يضم هذا إلى ما حكاه سِيبويه من المصادر الجائية على هذا الوزن وهي خمسة وإلى ما زاده الكسائي وهو الْوَزُوعُ فتصير سبعةً، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله تعالى:
{ { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [البقرة: 24] واللّغوب العناءُ والتّعَبُ.
قوله تعالى: { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } من كَذِبِهِمْ، وقولهم بِالاسْتِرَاحَةِ، أو على قولهم: إن هذا لشيء عَجِيبٌ. وهذا قبل الأمر بقتالهم.
{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } قيل: هذا أَمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة كقوله تعالى:
{ { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ } [هود: 114] وقوله { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } إشارة إلى طرفي النهار، وقوله: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } إشارة إلى { { زُلَفاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ } [هود: 114].
وتقريره أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مشتغلاً بأمرين:
أحدهما: عبادة الله.
والثاني: هداية الخلق، فإذا لم يهتدوا قيل له: أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة.
وقيل: معنى سَبِّحْ بحمد ربك، أي نَزِّههُ عما يقولون ولا تَسْأَمْ من تذكيرهم بعَظَمَةِ الله، بل نَزِّهه عن الشرك والعجز عن الممكن وهو الحشر قبل الطلوع وقبل الغروب؛ فإنهما وقت اجتماعهم ويكون المراد بقوله: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } أوله، لأنه أيضاً وقت اجتماعهم.
وقيل: المعنى: قُلْ سُبْحَان الله، لأن ألفاظاً جاءت بمعنى التلفظ بكلامهم كقولهم: كَبَّر لمن قال: اللَّهُ أَكْبَرُ وسلَّم لمن قال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، وحمَّد لمن قال: الْحَمْدُ لله. وهلَّك لمن قال: لاَ آله إلاَّ الله، وسبَّح لمن قال: سُبْحَان الله، وذلك أن هذه أمورٌ تَتَكَرَّر من الإنسان في الكلام، [فدعت] الحاجة إلى استعمال لفظة واحدة مفيدة للكلام وقالوا: هلل بخلاف قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ فِي السُّوقِ، فإنَّ من قال: زيد في السوق وأراد أن يخبر عنه بذلك لا يجد لفظاً واحداً مفيداً لذلك لعدم تكرره.
ومناسبة هذا الوجه: هو أن تكذيبهم وإنكارهم يقتضي مقابلتهم باللَّعْنِ، فقيل له: اصْبِرْ عَلَيْهِمْ، واجعل بدل الدعاء عليهم التسبيح لله، والحمد لله،
{ { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } [القلم: 48] أو كنوحٍ - عليهما الصلاة والسلام - حيث قال: { { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26]
فصل
وقد استعمل التسبيح مع الباء ومع اللام وبدونهما. فإن قلنا: المراد بالتسبيح الصلاة فيحتمل أن يكون المراد بحمد ربك: الأمر بقراءة الفاتحة، كقولك: صَلَّى فلانٌ بسورة كذا. وهذا بعيدٌ.
وإن قلنا المراد: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فالباء للمصاحبة. وكذلك إن قلنا: معناه التَّنْزِيهُ أي نَزِّهْهُ واحمَدْهُ وَفَّقَكَ لتسبيحه فيكون المفعول محذوفاً، للعلم به، أي نزه الله بحمد ربك، أي ملتبساً أو مقترناً بحمد ربك.
وأما اللام فإمّا أن يكون من باب شَكَرَ ونَصَحَ، وإما أن يكون معناها خالصاً لله.
وأما تعدّيه بنفسه فهو الأصل. وأعاد الأمر للتسبيح، إما تأكيداً وإما أن يكون الأول بمعنى الصلاة، والثاني بمعنى التَّسْبِيح والذكر. ودخلت الفاء؛ لأن المعنى: وأمَّا من الليل فسبحه.
ولما ذكر أوقات الصلوات ذكر أدْبَار السُّجود؛ ليَعُمَّ الأوقات فيكون كقوله:
{ { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ } [الشرح: 7] و "من" إما لابتداء الغاية، أو مِنْ أوَّل الليل، وإمَّا للتبعيضِ.
فصل
قال المفسرون: قبل طلوع الشمس يعني صلاة الصبح، وقبل الغروب يعني العصر، وروي عن ابن عباس: قبل الغروب الظهر والعصر { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } يعني صلاة المغرب، والعِشَاءِ. وقال مجاهد: ومِنَ الليل يَعْنِي صلاة الليل، أيّ وقت صلى.
قوله: "وأدبار السجود" قرأ نافع وابن كثير، وحمزة: إدبار بكسر الهمزة، على أنه مصدر قَامَ مَقَام ظَرْف الزمَان كقولهم: آتِيكَ خُفُوقَ النّجم وخِلاَفَة الحجّاج. ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انتصابها وتمامها. والباقون بالفتح جمع (دُبُر) وهو آخر الصلاة وعقبها. ومنه قول أوس:

4516- عَلَى دُبُر الشَّهْرِ الْحَرَام فَأَرْضُنَا وَمَا حَوْلَهَا جَدْبٌ سِنُونَ تَلَمَّعُ

ولم يختلفوا في: { { وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } [الطور: 49].
وقوله: "وأدبار" معطوف إمّا على "قَبْلَ الْغُرُوبِ" وإمّا على "وَمِنَ اللَّيْلِ".
فصل
قال عمرُ بن الخطاب، وعليُّ بن أبي طالب، والحسنُ، والشعبيُّ، والنخعيُّ والأوزاعي: أدبار السجود الركعتان قبل صلاة الفجر، وهي رواية العَوْفي عن ابن عباس. وروي عنه مرفوعاً. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: أدبار السجود هو التسبيح باللِّسان في أدبار الصلوات المكتوبات، قال - عليه الصلاة والسلام -:
"مَنْ سَبَّحَ فِي دُبُر كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثاً وثلاثين وَكَبَّرَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ وَحَمَّدَ ثَلاَثاً وَثَلاَثِينَ فَذَلك تِسْعَةٌ وتسعُونَ ثم قال: تَمَام المِائَةِ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ له الْمُلْكُ وَلهُ الْحَمْدُ يُحيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" .
قوله تعالى: { وَٱسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ } هو استماع على بابه. وقيل: بمعنى الانتظار. وهو بعيد. فعلى الأول يجوز أن يكون المفعول محذوفاً، أي استمع نِدَاءَ المنادي، أو نداء الكافر بالوَيْل والثبور، فعلى هذا يكون "يَوْمَ يُنَادِي" ظرفاً لـ "اسْتَمِعْ" أي استمع ذلك فِي يَوْم. وقيل: استمع ما أقول لك فعلى هذا يكون "يَوْمَ يُنَادِي" مفعولاً به أي انتظر ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَوَقَفَ ابن كثير على "يُنَادِي" بالياء. والباقون دون ياء. ووجه إثباتها أنه لا مقتضي لحذفها. ووجه حذفها وقفاً اتباع الرسم وكأن الوقْفَ محلّ تخفيفٍ.
وأما "المنادي" فأثبت ابن كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً. ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلاً وحذفها وقفاً، وباقي السبعة بحذفهما وصلاً ووقفاً. فمن أثبت، فلأنه الأصل، ومن حذف فلاتباع الرسم. ومن خص الوقف بالحذف فلأنه محلّ راحة ومحلّ تغيير.
فصل
في "واستمعْ" وجوه:
الأول: أن يكون مفعوله محذوفاً رأساً، والمقصود: كُنْ مستمعاً ولا تكن مثلَ هؤلاء المُعْرِضين الغافلين، يقال: هو رجل سَمِيعٌ مطيعٌ، ولا يراد: مسموع بعينه.
الثاني: استمع ما يوحى إليك.
الثالث: استمع نداء المنادي.
فإن قيل: "استمع" عطف على "فَاصْبِرْ" وَ "سَبِّحْ" وهو في الدنيا، فالاستماع يكون في الدنيا وما يوحى (يكون) "يوم ينادي" لا يسمع في الدنيا.
فالجواب: أنه لا يلزم ذلك، لجواز أن يقال: صَلِّ وادْخُلِ الْجَنَّةَ أي صل في الدنيا وادخل الجنة في العُقْبَى فكذا ههنا.
ويحتمل أن يكون استمع بمعنى انْتَظِرْ. ويحتمل أن يكون المراد: تَأَهَّبْ لهذه الصيحة لئلا يَفْجَأكَ فيُزْعجكَ. والمراد بالمنادي: إما الله تعالى بقوله:
{ { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الصافات: 22] وبقوله: { { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ق: 24] أو بقوله: { { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } [النحل: 27] ويحتمل أن يكون المراد بالمنادي: إسرافيل قال مقاتل: ينادي إسرافيل بالحشر يا أيتها الْعِظَامُ البالية، والأوْصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشُّعور المتفرقة، إن الله يأمركم أن تجْتَمِعُوا لفَصْل القضاء. أو يكون النداء للنفس فقال: { { يَٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 27 - 28] إذْ ينادي المنادي هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، ويحتمل أن يكون المنادي: هو المكلف لقوله: { { وَنَادَوْاْ يَٰمَالِكُ } [الزخرف: 77]. والظاهر الأول؛ لأن اللام للعهد والتعريف. والمعهود السابق قوله: { { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ق: 24].
وقوله: { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي لا يخفى على أحد. وقيل: منْ صَخْرَة بَيْتِ المَقْدِس وهي وسط الأرض. قال الكلبي: هي أَقرب الأَرض إلى السماء بثمانيةَ عَشَرَ ميلاً.
قوله: "يَوْمَ يَسْمَعُونَ" بدل من "يَوْمَ يُنَادِي" و "بِالْحَقِّ" حال من "الصَّيْحَة" أي ملتبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون مُلْتَبِسِينَ بسماع الحق.
قوله { ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } يجوز أن يكون التقدير: ذلك الوقت - أي وقت النداء والسماع - يوم الخروج. ويجوز أن يكون "ذلك" إشارة إلى النداء، ويكون قد اتسع في الظرف فأخبر به عن المصدر، أو فقدر مضاف، أي ذَلِكَ النداء والاستماع نداءُ يوم الخروج، واستماعه. واللام في "الصَّيحة" للتعريف، لقوله:
{ { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [يس: 29]. والمراد بالحق: الحشر أو اليقين، يقال: صَاحَ فلانٌ بِيَقِين لا بظنٍّ وتخمين أي وجد منه الصياح يقيناً لا كالصَّدى وغيره، أو يكون المراد المقترنة بالحق، يقال: اذْهَبْ بالسَّلاَمة وارْجِع بالسَّعَادَةِ أي مقروناً ومصحوباً.
وقيل: "بالْحَقِّ" قسم، أي يسمعون الصيحة بالله (وَ) الْحَقِّ. وهو ضعيف وقوله: { ذَٰلِكَ يَوْمُ ٱلْخُرُوجِ } أي من القبور.