التفاسير

< >
عرض

أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ
٦
وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٧
تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ
٨
وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّٰتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ
٩
وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ
١٠
رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ
١١

اللباب في علوم الكتاب

ثم ذكر الدليل الذي يدفع قولهم: { { ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق: 3] فقال: "أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا بغير عمد وَزَيَّنَّاهَا" بالكواكب، وهو نظير قوله تعالى: { { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [يس: 81] وقوله تعالى: { { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } [الأحقاف: 33].
قوله: "أَفَلَمْ" الهمزة للاستفهام. واعْلَم أن همزة الاستفهام تارةً تدخل على الكلام بغير واو وتارة تدخل ومعها واو والفرق بينهما أن قولك: أَزَيدٌ فِي الدّارِ؟ بعد: وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ (يذكره للإنكار.
فإن قلت: أَوَ زَيْدٌ في الدار بعد: وَقَدْ طَلَعَتِ الشَّمس) يشير بالواو إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين، لأن الواو تُنْبِىءُ عن سبق أمر مغايرٍ لما بعدها وإن لم يكن هناك سابقٌ لكن تأتي بالواو زيادة في الإنكار.
فإن قيل: كيف أتى هنا بالفاء فقال: "أَفَلَمْ" وفي موضع آخر بالواو؟!.
فالجواب: هنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب لمخالفة ما قيلَ.
فإن قيل: ففي "يس" سبق ذلك بقوله:
{ { قَالَ مَن يُحْيِي ٱلْعِظَامَ } [يس: 78]؟.
فالجواب: بأن هناك الاستدلال بالسموات لم يعقب الإنكار بل استدل بدليلٍ آخرَ وهو قوله:
{ { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [يس: 79] ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب إنكارهم، فذكر بالفاء.
فإن قيل: كيف قال ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية؟!.
فالجواب: أنهُمْ ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم: { ذلك رجع بعيد } استبعد استبعادهم وقال: أفلم ينظروا؛ لأن النظر دون الرؤية فقال النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع، ولا حاجة إلى الرؤية، ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد وهناك لم يوجد منهم إنكار فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتمُّ من النظر.
قوله: { إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ } فقوله: "فَوْقَهُمْ" حال من السماء وهي مؤكدة وكَيْفَ منصوبة بما بعدها وهي معلِّقةٌ للنظر قبلها.
فإن قيل: كيف قال: إلى السماء ولم يقل: فِي السَّماء؟!.
فالجواب: لأنَّ النظر في الشيء ينبىء عن التأمّل والمبالغة والنظر إلى الشيء لا ينبىء عنه؛ لأن "إِلى" غايةٌ منتهى النظر عنده وفي الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى النظر فيه.
قوله: { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } أي شُقوقٍ وفتوقٍ وصُدُوعٍ، واحدها فَرْج.
"وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا" بسطناها على وجه الماء { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } جبالاً ثوابتَ { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } حَسَنٍ كريمٍ يبهج به أي يستر.
قوله: "تَبْصِرَةً" العامة على نصيبها على المفعول من أجله أي تبصير أمثالهم وتذكير أمثالهم. وقيل: منصوبان بفعل من لفظهما مقدر أي بَصِّرْهُم تبصرةً وذكِّرهم تذكرةً. وقيل: حالان أي مُبَصَّرين مُذَكَّرِينَ، وقيل: حال من المفعول أي ذات تبصير وتذكير لمن يراها. وزيد بن علي بالرفع. وقرأ: وذِكْرٌ أي هي: تبصرةٌ وذكرٌ و "لِكُلِّ" إما صفة وإما متعلق بنفس المصدر. وقال البغوي: تَبَصُّراً وتَذْكِيراً.
فصل
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون الأمْران عائدين إلى السماء والأرض أي خَلَقَ السماء تبصرةً وخلق الأرض ذكْرى. ويدل على ذلك أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدّة في كل عام، فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان. وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فتُذَكِّر، فالسماء تبصرة والأرْض تذكرة، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كلّ واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة متذكرة عند التَّنَاسِي.
قوله: { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي لتُبصِّرَ وتُذَكِّر كل عبد منيب: أي راجع التفكر والتذكّر والنظر في الدلائل.
قوله: { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً } كثير الخير، وفيه حياة كل شيء وهو المطر { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ }، يعني البُرّ والشّعير وسائر الحبوب التي تحصد، فقوله: "وحَبَّ الحَصِيدِ" يجوز أن يكون من باب حذف الموصوف للعلم به، تقديره وحب الزرع الحصيد، نحو: مَسْجِدُ الجَامِعِ وبابه وهذا مذهب البصريين؛ لئلا يلزم إِضافة الشيء إلى نفسه. ويجوز أن يكون من إِضافة الموصوف إلى صفته؛ لأن الأصل والحَبُّ الحصيدُ أي المَحْصُودُ.
فصل
هذا دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إِنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت.
فإن قيل: هذا الاستدلال قد تقدم في قوله تعالى: { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } فما الفائدة من إعادة قوله: { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ }؟.
فالجواب: أن قوله: وأنبتنا إشارة إلى جعلها محلاً للنبات، اللحم والشعر وغيرهما، وقوله: "وَأَنبَتْنَا" استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسانِ بعد الموت ينمُو ويزيدُ أي يُرجِعُ الله إليه قوة النماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.
قوله تعالى: { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } والنخل منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل و"باسقات" حال، وهي حال مقدّرة؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طُوالاً. والبُسُوقُ الطّول يقال: بَسَقَ فُلانٌ على أصحابه أي طال عليهم في الفضل، ومنه قول ابْنِ نَوْفلِ في ابن هُبَيْرَةَ:

4508- يَا ابْنَ الَّذِينَ بِمَجْدِهِمْ بَسَقَتْ (عَلَى) قَيْسٍ فَزَارَهْ

وهو استعارة، والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسُق بُسُوقاً أي طالت، قال الشاعر:

4509- لَنَا خَمْرٌ وَلَيْسَتْ خَمْرَ كَرْمٍ وَلَكِنْ مِنْ نِتَاجِ البَاسِقَاتِ
كِرَامٌ فِي السَّمَاءِ ذَهَبْنَ طُولاً وَفَات ثِمَارُها أَيْدِي الجُنَاةِ

وبَسَقَت الشَاةُ ولدت، وأبْسَقَتِ الناقةُ وَقَعَ في ضَرْعِهَا اللبأ قبل النتاج، ونُوقٌ مَبَاسِقٌ من ذلك. قال مجاهد وقتادة وعكرمة يعني باسقاتٍ طوالاً. وقال سعيد بن جبير: مستويات والعامة على السين في باسقات، وقرأ قُطْبَةُ بنُ مالك - ويرويها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باصِقَات. وهي لغة لبنِي العنبر يُبْدلونَ السِّين صاداً قبل القاف والغين والعين والخاء والطاء إذا وليتها أو فصلت منها بحرف أو حرفين.
قوله: "لَهَا طَلْعٌ" يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في "بَاسِقَاتٍ" ويجوز أن يكون الحال وحده "لَهَا" وطلع فاعل به. ونَضِيدٌ بمعنى مَنضُود بعضها فوق بعض في كمامها كما في سنبلة الزرع، وهو عجيب، فإن الأشجار الطوال ثمارها بعضها على بعض، لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجَوْزِ واللَّوز وغيرهما، والطَّلْعُ كالسُّنْبُلَة الواحدة يكون على أصل واحدٍ.
قوله: "رزْقاً" يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً للعباد أي ذا رزق، وإن يكون مصدراً من معنى أنْبَتْنَا؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال: أنبتناها إنباتاً للعباد ويجوز أن تكون مفعولاً له للعباد، إمّا صفة، وإما متعلق بالمصدر، وإِما مفعولاً للمصدر، واللام زائدة، أي رِزْقاً العبادَ.
فصل
قال ابن الخطيب: ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض: "تَبْصِرَةً وذِكْرَى" وفي الثمار قال: "رِزْقاً" والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة؟
نقول: فيه وجوه:
أحدها: أن الاستدلال وقع لوجود أمرين: أحدهما الإعادة، والثاني: البقاء بعد الإعادة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم، والعقاب الدائم، وأنكروا ذلك، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوَّل تبصرةً وتذكرةً بالخلق، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى: { تبصرة وذكرى } حيث ذكر ذلك بعد الآيتين، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات.
ثانيها: منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمراً عائداً إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا: لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرْزاق بقدرة الله تعالى، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان العيش كما أنزل الله على قوم المنَّ والسلوى، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع.
ثالثها: قوله: رزْقاً إشارة إلى كونه منعماً ليكون تكذيبهم في غاية القبح فإنه يكون إشارة بالمنعم وهو أقبح ما يكون.
فصل
قال: { تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } فقيّد العبد بكونه منيباً، لأنّ العبودية حصلت لكل أحد غير أن المنيب يأكل ذاكراً شاكراً للإنعام وغيره يأكل كما تأكل الأنْعام، فلم يخصص بقيدٍ.
قوله: "فَأَحْيَيْنَا بِهِ" أي بالماء و"مَيْتاً" صفة لـ "بَلْدَةً" ولم يؤنث حملاً على معنى المكان. والعامة على التخفيف. وأبو جعفر وخالد بالتَّثْقِيلِ.
فإن قيل: ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله:
{ { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ } [يس: 33] حيث أثبت (الهاء) هناك؟
فالجواب: أن الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة، لأن معنى الفاعلية ظاهرٌ هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأن الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعَمَرُوهَا فصارت بلدة فأسقط الهاء لأن معنى الفاعلية ظاهر فيثبت فيه الهاء، وإذا كان بمعنى الفاعل لم يظهر لا يثبت فيه الهاء، ويحقق هذا قوله:
{ { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } [سبأ: 15] حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعلية ولم يثبت حيث لم يظهر.
قوله: "كَذَلِكَ الْخُرُوجُ" أي من القبور أي كالإحياء الخروج.
فإن قيل: الإحياء يشبه به الإخراج لا الخروج؟
فالجواب: تقديره أحيينا به بلدةً ميْتاً فتشققت وخرج منها النبات كذلك تَتَشققُ ويخرج منها الأموات.
قال ابن الخطيب: وهذا يؤكد قولنا: إن الرَّجْعَ بمعنى الرجوع في قوله: { ذلك رجع بعيد }؛ لأنه تعالى بين لهم ما استبعدوه فلو استبعدوا الرجع الذي هو من المتعدي لناسبهُ أن يقول: كذلك الإخراج فلما قال: كذلك الخروج فهم أنهم أنكروا الرجوع فقال: كذلك الرجوع والخروج.