التفاسير

< >
عرض

قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
١١
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
-الذاريات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "قُتِلَ الخَراصونَ" لُعِنَ الكَذَّابُونَ. وقرىء: قَتَلَ مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى: { الخرّاصين } مفعوله، والمعنى لُعِنَ الخراصون وهم الذين لا يجزمون بأمر ولا يثبتون عليه، بل هم شاكون متحيرون. وهذا دعاء عليهم، ثم يصفهم بأنهم في غمرة ساهون، فقوله: "سَاهُونَ" يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والمبتدأ قوله "هم"، والتقدير: هم كائنون في غَمْرَة ساهون، كقولك: زَيدٌ جَاهلٌ جَائرٌ، لا تقصد به وصف الجاهل بالجائر. ويحتمل أن يقال: "ساهون" خبر، و "في غمرة" ظرف له، كقولك: زَيْدٌ فِي بَيْتِهِ قَاعِدٌ فالخبر هو "قاعد" لا غير، و "في بيته" بيان لطرف القعود، فكذا قوله: "في غمرة" ظرف للسَّهْوَةِ.
واعلم إن وصف الخارص بالسهو دليل على أن الخراص صفة ذم يقال: تَخَرَّصَ عليه الباطل. قال المفسرون: هم الذين اقتسموا عِقَاب مكة، فاقتسموا القول في النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد: الكهنة الذين هم في غَمْرَة أي غَفْلة وعَمًى وجَهَالَةٍ "سَاهُونَ" غافلون عن أمر الآخرة. والسهو الغفلة عن الشيء وهو ذَهَابُ القلب عنه.
قوله تعالى: { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } فقوله: { أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } مبتدأ أو خبر قيل: وهما ظرفان فكيف يقع أحد الظرفين في الآخر؟.
وأجيب: بأنه على حذف حَدَثٍ أي أَيَّانَ وُقوع يَوْمِ الدِّين "فَأَيَّانَ" ظرف الوقوع، كما تقول: مَتَى يَكُونُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وتقدم قراءة إيّانِ - بالكسر - في الأَعراف.
قيل: وأيان من المركبات، ركب من "أيٍّ" التي للاستفهام، و "آن" التي بمعنى متى، أو مِنْ "أَيٍّ" (و) أَوَان؛ فكأنه قال: أَيّ أَوَان، فلما ركبت بُنِيَ. وهذا جواب قوله:
{ { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } [الذاريات: 6] فكأنه قال: أَيَّانَ يَقَعُ؟ استهزاءً.
وترك السؤال دلالة على أن الغرض ليس الجواب، وإنما يسألون استهزاءً، والمعنى يسألون أيان يوم الدين يقولون: يا محمد متى يكون يوم الجزاء؟ يعني يوم القيامة تكذيباً واستهزاء قال الله - عز وجل -: { يَوْمَ هُمْ } أي يكون هذا الجزاء في يومِ هُمْ على النار يُفْتَنُونَ أي يعذبون ويحرقون بها، كما يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وعلى هذا فالأولى أن يكون معنى يفتنون يُعْرَضُون عرض المجرِّب للذّهب على النار، لأن كلمة "على" تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لقيل: بالنَّار، أي فِي النار.
قوله: "يَوْمَ هُمْ" يجوز أن يكون منصوباً بمضمر أي الجزاءُ كائنٌ يَوْمَ هُمْ ويجوز أن يكون بدلاً من "يَوْم الدين"، والفتحة للبناء على رأي من يُجيز بناء الظرف، وإن أُضِيفَ إلى جملة اسمية وعلى هذا فيكون حكاية لمعنى كلامهم، قالوه على سَبيل الاستهزاء، ولو جاء على حكاية لفظهم المتقدم لقيل: يوم نَحْنُ عَلَى النَّار نُفْتَنُ.
و "يوم" منصوب بالدين، وقيل: بمضمر، أي يُجَازَوْنَ.
وقيل: هو مفعول بأعني مقدَّراً وعُدّي يُفْتَنُونَ بعَلَى لأنه بمعنى يُخْتَبَرُون. وقيل: على بمعنى في. وقيل: على بمعنى الباء. وقيل: "يَوْمَ هُمْ" خبر مبتدأ مضمر، أي هُوَ يَوْمَ هُمْ والفتح لما تقدم. ويؤيد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزّعفرانيّ يَوْمُ هُمْ بالرفع، وكذلك يؤيد القول بالبدل. وتقدم الكلام في مثل هذا في غَافِرٍ.
فصل
قوله: { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } قال ابن الخطيب: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون جواباً عن قولهم أيَّانَ يَقَعُ فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لعِلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين بل قال: يوم هم على النار يفتنون فجهلهم بالثاني أقوى من جهلم بالأول، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل: مَتَى يَقْدمُ زَيْدٌ؟ فلو أجيب بقوله: يَوْم يقدم رفِيقُهُ ولا يعلم يوم قُدُوم الرفيق لم يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة ولا يكون جواباً كقول القَائل لمن يعد عِدَاتاً ويخلفها: إلى متى هذا الإخلاف؟ فيغضب ويقول: إلى أَشْأَمِ يَوْمٍ عليك، فالكلامان في صورة سؤال وجواب، ولا يريد بالأول السؤال، ولا الثاني يريد به الجواب، فكذلك ههنا قال: { يوم هم على النار يفتنون } مقابلة لاستهزائهم بالإيعَادِ لا على وجه الإِتيان بالبَيَان.
الثاني: أن يكون "ذلك" ابتداء كلام تمامه (في قوله: "ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ").
فإن قيل: هذا يفضي إلى الإضمار!.
فالجواب: أن الإضمار لا بد منه؛ لأن قوله: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ غيرُ متصل بما قبله إلا بإِضمار يقال.
قوله: "ذُوقُوا" أي يقال لهم ذُوقُوا و { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ } مبتدأ وخبر "هذا" هو الظاهر. وجوَّز الزمخشري أن يكون "هذا" بدلاً من "فِتْنَتَكُمْ"؛ لأنها بمعنى العذاب، ومعنى فتنتكم عذابكم { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } في الدنيا تكذيباً به، وهو قولهم:
{ { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ص: 16] وقولهم: { { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ } [هود: 32] ونظائره، وقوله: { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } فإنه نوع استعجالٍ بالقول. ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو إصرارهم على العناد، وإظهار الفساد، فإنه يعجل العقوبة.