التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
٤٧
وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ
٤٨
وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٤٩
فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥٠
وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥١
كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
٥٢
أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٥٣
-الذاريات

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } العامة على النصب على الاشتغال، وكذلك قوله: { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } والتقدير: وَبَنَيْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا. وقال أبو البقاء: أي وَرَفَعْنَا السَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا فقدر الناصب من غير لفظ الظاهر. وهذا إنما يصار إليه عند تعذر التقدير الموافق لفظاً نحو: زَيْدٌ مرَرْتُ بِهِ، وزيد ضَرَبْتُ غُلاَمَهُ وأما في نحو: زَيْداً ضَرَبْتُهُ، فلا يقدر إلا ضَرَبْتُ زَيْداً.
وقرأ أبو السَّمَّال وابن مِقسم برفعهما؛ على الابتداء، والخبر ما بعدهما. والنصب أرجح لعطف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها.
قوله: "بأَييْدٍ" يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وفيها وجهان:
أحدهما: أنها حال من فاعل "بَنَيْنَاهَا" أي ملتبسينَ بأيدٍ أي بقوة؛ قال تعالى:
{ { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ } [ص: 17].
الثاني: أنه حال من مفعوله أي ملتبسةً بقوة. ويجوز أن تكون الباء للسبب أي بسبب قُدْرَتِنَا. ويجوز أن تكون البَاء معدّية مجازاً على أن تجعل الأيدي كالآلة المبنيِّ بها، كقولك: بَنَيْتُ بَيْتَكَ بالآجُرّ.
قوله: "وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل "بَنَيْنَاهَا". ويجوز أن تكون حالاً من مفعوله ومفعول "موسِعُون" محذوف أي مُوسِعُونَ بِنَاءَهَا. ويجوز أن لا يقدر له مفعولٌ؛ لأن معناه: لَقَادِرُونَ كقولك: ما في وُسْعِي كذا أي ما في طاقتي وقُوَّتِي؛ كقوله تعالى:
{ { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 286] قاله ابن عَبَّاسٍ وعنه أيضاً: لموسعون الرزق على خَلْقِنَا.
وقيل: ذُو سَعَةٍ. وقال الضحاك: أغنياء، دليله قوله تعالى:
{ { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ } [البقرة: 236].
قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. فقوله: "وإنا لموسعون" بيان للإعراب (في الفعل).
فصل
والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى:
{ { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [الشمس: 5]، وقوله: { { أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } [النازعات: 27] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة، لم يسقط منها شيء، ولم يُعْدَم منها جزءٌ. وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله: { { سَبْعاً شِدَاداً } [النبأ: 12] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً، وعادت أرضاً من وقت حدوثها، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى: { { رَفَعَ سَمْكَهَا } [النازعات: 28].
وقال بعض الحكماء: السماء مسكَن الأَرْواحِ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً. والله أعلم.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال: وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز؟!.
فالجواب: قال ابن الخطيب: لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال: والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا.
فإن قيل: إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال: بَنَيْنَاها، ولم يقل: بَنَيْتُها؟ ولا بناها الله؟!
فالجواب: أن قوله: بنيناها أدل على عدم الشريك، لأن الشّركة ضعيفة؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد، وقوله: "بَنَيْنَاهَا" يدل على العَظَمَة، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله: "بَنَيْنَاهَا" وبين أن يكون شريك منافاة. وتقريره أن قوله تعالى: { بَنَيْنَاهَا } لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها؛ وإنما يقال: بُنيتْ لها وجعلت أماكنها، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال: بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ. ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم، فأفاد النص عظمة، والعظمة أنفى للشريك، فعلم أن قوله: "بَنَيْنَاهَا" أدلّ على نفي الشَّريك من "بَنَيْتُهَا" و "بِنَاء اللَّهِ".
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال:
{ { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } [يس: 71].
فالجواب: أن ذلك لفائدة جليلة، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك.
فقال هناك: عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة. وكذلك:
{ { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75] وفي السماء قال: بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها.
وفيه لطيفة (أخرى) وهي: أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته، وأما السماء: فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة، فقال: بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
قوله: "وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا" أي بسطناها ومَهَّدْنَاها، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش.
قوله: "فَنِعْم المَاهِدُونَ" المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي نَحْنُ، كقوله:
{ { نِعْمَ ٱلْعَبْدُ } [ص: 30]، قال ابن عباس - (رضي الله عنهما -): معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي.
قوله تعالى: { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز أن يتعلق "بخَلَقْنَا" أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من: "زَوْجَيْنِ" لأنه في الأصل صفة له، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء. والأول أقوى في المعنى.
فصل
المعنى "خلقنا زوجين" صِنْفَيْن ونوعين مختلفين، كالسَّمَاءِ والأرض، والشَّمس والقمر، والليل والنهار، والبَرّ والبحر، والسَّهْل والجبل، والشتاء والصَّيْف، والجنّ والإنس، والذَّكَر والأنثى، والنور والظُّلْمَة، والإيمان والكفر، والسعادة (والشقاوة) والحق والباطل، والحُلْو والمُرّ "لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح.
قوله: { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. قال ابن عباس - (رضي الله عنهما -): فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال سهل بن عبد الله: فروا ممَّا سوى الله إلى الله { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وهذا إشارة إلى الرسالة.
قوله: { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } إتماماً للتوحيد، لأن التوحيد يباين التعطيل والتشريك، لأن المُعَطِّل يقول: لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر، والموحِّد يقول: قول الاثنين باطل، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل، فلما قال تعالى: { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أثبت وجود الله، فلما قال: { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين.
ولهذا قال مرتين: { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي في المقامين والموضِعَيْنِ.
قوله: "كَذَلِكَ" فيه وجهان:
أظهرهما: أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ مِثْلُ ذلك، (قال الزمخشري): والإشارة بذلك إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً. ثم فسَّر ما أجمل بقوله: "مَا أَتى".
والثاني: أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف. قاله مكي. ولم يبين تَقْدِيرَهُ. ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية. وأما المعنى فلا يمتنع، ولذلك قال الزمخشري: ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة بـ "أَتَى" لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها؛ ولو قيل: لم يأت لكان صحيحاً، يعني لو أتى في موضع "مَا" بـ "لم" لجاز أن ينتصب الكاف بـ "أَتَى" لأن المعنى يسوغ عليه، والتقدير: كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ. ويدل عليه قوله: { مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } الآية.
قوله: { إِلاَّ قَالُواْ } الجملة القولية في محل نصب على الحال من: { ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } و "مِنْ رَسُولٍ" فاعل: "أتى" كأنه قيل: ما أتى الأولينَ رسولٌ إلاَّ في حال قولهم: هُوَ سَاحِرٌ.
فإن قيل: إن من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل وكيف وآدم لما أرسل لَمْ يُكَذّبْ؟!.
فالجواب: أنا لا نسلم أن المقرر رسول، بل هو نبي على دين رسولٍ ومن كَذَّب رَسُولَه فهو يكذبه أيضاً ضرورةً.
فإن قيل: قوله: { ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا } يدل على أنهم كلّهم قالوا: ساحر والأمر ليس كذلك لأن ما مِنْ رسول إلا وآمن به قومٌ وهم ما قالوا ذلك!.
فالجواب: أن ذلك ليس بعَامٍّ، فإنه لم يقل: إلا قال كلهم وإنما قال: "إلاَّ قَالوا" ولما كان كثير منهم قابلينَ ذلك قال الله تعالى: إِلاَّ قَالُوا.
فإن قيل: لِمَ لمْ يذكر المصدّقين كما ذكر المُكَذّبين، وقال: إِلاَّ قَالَ بَعْضُهُمْ صدقتَ وبعضهم كذبتَ؟.
فالجواب: لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب، فكأنه تعالى قال: لا تأسَ على تكذيب قومِكَ، فإن أقواماً قبلك كَذّبوا ورسلاً كُذّبُوا.
قوله: "أَتَواصَوا بِه" الاستفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في "بِهِ" يعود على القول المدلول عليه بقَالُوا، أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول المتضمن كساحر أو مجنون؟. والمعنى: كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤوا عليه، وقال بعضهم لبعض: لا تقولوا إلا هذا وأوصى أولهم آخرَهم بالتكذيب. ثم قال: لم يكن ذلك لتواطُؤ قولٍ وإنما كان لمعنى جامع وهو أن الكُلّ أترفوا فاستغنوا فنَسُوا الله وطغوا فكذبوا رُسُلَهُ، قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما -) حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك.