التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
-الذاريات

اللباب في علوم الكتاب

ثم ابتدأ قسماً آخر وهو قوله: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } العامة على الحُبُك - بضمتين - قال ابن عباس وقتادة وعكرمة: ذاتِ الخلق الحسن المستوي، يقال للنساج إذا نَسَجَ الثَوْبَ فَأَجَاد: ما أحْسَنَ حَبْكهُ. وقال سعيد بن جبير: ذاتِ الزّينة أي المزينة بزينة الكواكب. قال الحسن: حُبِكَتْ بالنُّجوم. وقال مجاهد: هي المتقنة المبنيّات. وقال مقاتل والكلبي والضحاك: ذات الطرائق كحَبْك الماء إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيح، وحَبْكِ الرَّمل والشّعر الجَعْد وهو آثار تَثَنِّيه وَتَكسُّرِهِ، قال زهير:

4519- مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ريحٌ خَريقٌ لضَاحي مَائهِ حُبُك

والحبك جمع يحتمل أن يكون مفرده حَبِيكَة، كطَرِيقةٍ وطُرُق أَو حِباك نحو: حِمَار وحُمُر قال:

4520- كَأَنَّمَا جَلَّلَها الحُوَّاكُ طِنْفسَةٌ فِي وَشْيِهَا حِبَاكُ

وأصل الحَبْك إحكام الشيء وإتقانه، ومنه يقال للدروع: مَحْبُوكة. وقيل: الحَبْكُ الشدّ والتَّوَثُّق، قال امرؤ القيس:

4521- قَدْ غَدَا يَحْمِلُنِي فِي أَنْفِهِ لاَحِقُ الإطْلَيْنِ مَحبُوكٌ مُمَرّ

وفي هذه اللفظة قراءات كثيرة، فعن الحسن - ( رضي الله عنه ) - ست قراءات، الحبك - بالضم - كالعُنُق، وبضم الحاء وسكون الباء وتروى عن ابن عباس، وأبي عمرو، وبكسر الحاء والباء، وبكسر الحاء وسكون الباء، وهو تخفيف المكسور، وكسر الحاء وفتح الباء، وكسر الحاء وضم الباء، وهذه أقلها لأن هذه الزنة مهملة في أبنية العرب.
قال ابن عطية وغيره: هو من التداخل، يعني أن فيها لغتين الكسر في الحاء والباء والضم فيهما فأخذ هذا القارىء الكسرَ من لغةٍ، والضمّ من أُخْرَى. واستبعدها الناس؛ لأن التداخل إنما يكون في كلمتين. وخرجها أبو حيان على أن الحاء أتبعت لحركة التاء في ذات، قال: ولم يعتد باللام فاصلةً لأنها ساكنة فهي حاجز بَيِّنٌ حصين.
وقد وافق الحسن على هذه القراءة أبو مالك الغِفَارّي.
وقرأ عكرمة بالضم والفتح جمع حُبْكَة نحو: غُرْفَة وغُرَف، وابن عباس وأبو مالك الحَبَك بفتحتين، جمع حَبْكَة كعَقْبَة وعَقَب.
وقوله: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } جواب القسم.
فصل
المعنى: إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف في حق محمد - صلى الله عليه وسلم - تارة تقولون: إنه أمين، وأخرى إنه كاذب، وتارة تنسبونه إلى الجنون، وتارة كاهن، وشاعر، وساحر، وهذا القول ضعيف؛ إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤيد باليمين. وقيل: يقولون: إنه مجنون ثم يقولون: غلبنا بقُوَّةِ جداله. وقيل: لفي قول مختلف في القرآن، يقولون فيه إنه سِحْرٌ وكَهَانَةٌ وأساطير الأولين.
وقيل: قَوْلٌ مختلف أي مصدّق ومكذب. وقيل: غير ثابتين على أمر.
وقيل: متناقض، تارة يقولون: لا حَشْرَ ولا حَيَاةَ بعد الموت، ثم يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ.
قوله: "يُؤفك عنه" صفة لقول، والضمير في "عنه" للقرآن، أو الرسول، أو للدين، أو لما توعدون، أي يصرف عنه.
وقيل: عن السبب. والمأفوك عنه محذوف، والضمير في "عنه" على هذا القول مختلف، أي يؤفك بسبب القول من أراد الإسلام بأن يقول: هو سحرٌ وكَهَانَةٌ.
والعامة على بناء الفعلين للمفعول. وقتادة وابن جبير: يُؤْفَكُ عنه من أَفِكَ، الأول للمفعول، والثاني للفاعل، أي يُصْرَفُ عنه من صَرَفَ الناسَ عَنْهُ. وزيد بن علي: يَأْفِكُ مبنياً للفاعل من أُفِكَ مبنياً للمفعول عكس ما قبله، أي يَصْرِف الناسَ عَنْه مَنْ هو مَأْفُوكٌ في نَفْسِهِ.
وعنه أيضاً: يُؤفّكُ عنه من أفَّكَ بالتشديد، أي من هو أَفَّاك في نفسه.
وقرىء: يُؤْفَن عنه من أُفِن بالنون فيهما أي يُحْرَمُهُ من حُرِمَهُ من أَفَنَ الضَّرْعَ إذا نَهَكَهُ حَلْباً.
فصل
قيل في تفسير قوله: { يؤفك عنه من أفك } وجوه:
أحدها: مدح المؤمنين، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول، ويرشد إلى القول المستوي. وقيل: إنه ذم ومعناه يؤفك عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه، يعني من حرمه الله الإيمان بمحمد وبالقرآن. وقيل "عن" بمعنى "مِنْ أجل"، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف، أو بسببه عن الإيمان من صرف، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان، فيقولون: إنه ساحر، وكاهن، ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، قاله مجاهد.