التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ
١٧
فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ
١٨
كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
١٩
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
٢٠
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
٢١
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢٢
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
٢٣
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
٢٤
-الطور

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } يجوز أن يكون مستأنفاً، أخبر الله تعالى بذلك بشارة، ويجوز أن يكون من جملة المقول للكفار زيادة في غَمِّهِمْ وتَحَسُّرِهِم. والجنة هي موضع السرور لكن الناطُور قد يكون في البستان الذي هو في غاية الطيبة، فلما قال: "وَنَعِيمٍ" أفاد أنهم فيها متنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطُور والعمال.
وقوله: "فَاكِهِينَ" يريد في ذلك، لأن المتنعم قد يكون آثار النعيم عليه ظاهرة وقلبه مشغول، فلما قال: "فَاكِهينَ" دل على غاية الطيبة.
قوله: "فَاكِهِينَ" هذه قراءة العامة نصب على الحال، والخبر الظرف، وصاحب الحال الضمير المستتر في الظرف.
وقرأ خَالِدٌ: "فاكِهُونَ" بالرفع، فيجوز أن يكون الظرف لغواً، متعلقاً بالخبر ويجوز أن يكون خبراً آخر من عند من يجيز تعداد الخبر.
وقرىء فَكِهينَ مقصوراً، وسيأتي أنه قرأ به في المُطَفِّفِينَ في المتواتر حفصٌ عن عَاصِمٍ.
قوله: "بِمَا آتَاهُمْ" يجوز أن تكون الباء على أصلها وتكون: "ما" حينئذ واقعةً على "الفواكه" التي هي في الجنة أي متلذذين بفاكهةِ الجنة، ويجوز أن تكون بمعنى في أي فيما آتاهم من الثمار وغير ذلك. ويجوز أن تكون "ما" مصدريةً أيضاً.
قوله: "وَوَقَاهُمْ" يجوز فيه أوجه:
أظهرها: أنه معطوف على الصلة أي فَكِهينَ بإيتائِهِم رَبَّهُمْ وبِوقايَتِهِ لهم عذابَ الجَحِيم.
والثاني: أن الجملة حال فتكون "قد" مقدرة عند من يشترط اقترانها بالماضي الواقع حالاً.
الثالث: أن يكون معطوفاً على: "فِي جَنَّاتٍ". قاله الزمخشري يعني فيكون مخبراً به عن المتقين أيضاً فيكون المراد أنهم فاكهون بأمرين: أَحدِهِمَا: بما آتاهم، والثاني: بأنه وَقَاهُمْ.
والعامة على تخفيف القاف من الوقاية. وأبو حيوة بتَشْدِيدِهَا.
قوله: "كلوا واشربوا" أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً. وقد تقدم الكلام في: "هَنِيئاً" فِي النِّسَاء.
قال الزمخشري: هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً. وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ.
ويجوز أن يكون مثله في قوله:

4533- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ

أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعاً به "ما اسْتَحَلَّت" كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا، فكذلك معنى "هنيئاً" هُنَا هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ والباء مزيدة كما في "كَفَى بِاللَّهِ" والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وهذا من محاسن كلامه.
قال أبو حيان: أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل "كَفَى" على خلافٍ فيها فتجويزها هنا لا يسوغ.
وأما قوله: إنَّها تتعلق بـ "كُلُوا واشْرَبُوا" فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما. انتهى. وهذا قريب.
قوله: "مُتَّكِئِينَ" فيه أوجه:
أحدها: أنه حال من فاعل: "كُلُوا".
الثاني: أنه حال من فاعل: "أَتَاهُمْ".
الثالث: أنه حال من فاعل: "وَقَاهُمْ".
الرابع: أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف.
الخامس: أنه حال من الضمير في: "فَاكِهِينَ".
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف لكونه عُمْدَةً.
وقوله: "عَلَى سُرُرٍ" متعلق بـ "متَّكِئينَ".
وقراءة العامة بضم الراء الأولى. وأبو السَّمَّال بفتحها. وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف.
قوله: { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور.
فصل
اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، فقوله: "جَنّات" إشارة إلى المسكن وقال: "فاكهين" إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله، وقال: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً } أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما، وقوله: { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إشارة إلى أنه تعالى يقول: إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال:
{ { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [الحجرات: 17] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ.
فإن قيل: قال في حقّ الكفار:
{ { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور: 16] وقال في حق المؤمنين: { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فما الفرق بينهما؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن كلمة "إنَّما" للحصر، أي لا يجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ، ويَزِيدُهُ من فضله.
الثاني: قال هنا: "بِمَا كُنْتُمْ" وقال هناك:
{ { مَا كُنتُمْ } [النمل: 90] أي تجزون عن أعمالكم. وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كأنه يقول: هذا عينُ ما عملت. وقوله في حق المؤمن: بِمَا كُنتُمْ كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا.
الثالث: أنه ذكر الجزاء هناك، وقال هنا: { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لأَنَّ الجزاء يُنْبِىء عن الانقطاع، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر.
فإن قيل: فاللَّه تعالى قال في موضع آخر:
{ { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المرسلات: 43] في الثواب.
فالجواب: أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل: بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع. وأما في السرر فذكر أموراً:
أحدها: الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه. وجمع السرر لأَمْرَيْنِ:
أظهرهما: أن يكون لكل واحد سُرَرٌ؛ لأنه قوله: "مَصْفُوفة" يدل على أنه لواحدٍ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور، بخلاف التَّخْتِ وغيره، وقوله: "مَصْفُوفَة" أي منتظمة بعضُها إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكىء عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع. وقوله تعالى: { وَزَوَّجْنَاهُم } إِشارة إلى النِّعمة الرابعة، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه:
الأول: أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.
الثاني: قال: "وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور" ولم يقل: وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف، تقول زَوَّجْتُكَهَا، قال الله تعالى:
{ { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } [الأحزاب: 37] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم.
الثالث: عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ.
قوله: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء، وعلى الأبناء، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً. وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره.
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدر، قال أبو البقاء على تقدير: وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا. قال شهاب الدين: فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال، وأن قوله: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء.
الثالث: قال ابن الخطيب: إنه معطوف على: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ } ثم قال: فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ "الَذين آمنوا" وكان المقصود يحصل بقوله تعالى: { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } بعد قوله { وَزَوَّجْنَاهُم } كان يصير التقديرُ: وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم؟ نقول: فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال ههنا: الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه، وذلك إشارة إلى الجزاء.
وذكر الزمخشري أنه مجرورٌ عطفاً على "حُورٍ عينٍ" قال الزمخشري: "وَالَّذِينَ آمَنُوا" معطوف على "حُورٍ عينٍ" أي قَرَنَّاهُمْ بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله:
{ { إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [الحجر: 47] فيتمتعون تارة بمُلاَعَبَةِ الحور، وتارةً بمُؤَانَسَةِ الإِخوان.
ثم قال الزمخشري: ثم قال: "بإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ" أي بسبب إيمان عظيمٍ رفيعِ المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذُرِّيَّتَهُم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم.
قال أبو حيان: ولا يتخيل أحد أن "وَالَّذِينَ آمَنُوا" معطوف على "بحُورٍ عِينٍ" غير هذا الرجل. وهو تخيُّلٌ أعجميّ، مخالف لفهم العربي القُحِّ ابن عباس وغيره.
قال شهاب الدين: أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حُسْنِهِ ونضارته، وليس في كلام العربي القُحِّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم، وأيُّ مانع مَعْنَويٍّ أو صناعيٍّ يمنعه؟!.
قوله: "وَأَتْبَعْنَاهُمْ" يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، ويكون "والذين آمنوا" مبتدأ ويتعلق "بإيمان" بالاتِّباع، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين. وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضَّحَّاك. ويجوز أن يكون معترضاً بين المبتدأ والخبر. قال الزمخشري ويجوز أن يتعلق "بإِيمَانٍ" بـ "أَلْحَقْنَا" كما تقدم.
فإن قيل: قوله: أتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ يفيد قوله: "ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ".
فالجواب: أن قوله: "أَلْحَقْنا بِهِمْ" أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإِيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم.
وقرأ أو عمرو: "وأتْبَعْنَاهُمْ" بإِسناد الفعل إلى المتكلم نفسه. والباقون واتَّبَعَتْهُمْ بإسناد الفعل إلى الذرية وإِلحاق تاء التأنيث. وقد تقدم الخلاف في إِفراد ذرياتهم وجَمْعِهِ في سورة الأَعْرَافِ.
فصل
اختلفوا في معنى الآية، فقيل معناها: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم، والصغار بإيمان آبائهم، فإن الولد الصغير يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين.
وقوله: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تَكْرمَةً لآبائهم، لِتَقَرَّ بذلك أعينهم. وهي روايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عباس. وقيل: معناه { والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } البالغون { بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } الصِّغار الذين لم يبلغوا الإِيمان بإيمان آبائهم. وهو قول الضَّحَّاك في رواية العوفيّ عن ابن عباس. أخبر الله عز وجل أنه يَجْمَع لعبده ذُرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن يَنْقُصَ الآباء من أعمالهم شيئاً فذلك قوله: { وَمَآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ }.
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال:
"سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هما في النار، فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لَوْ رأيتِ مكانَهما لأَبْغَضْتِهِمَا. قالت يا رسول الله: فولدي منك قال: في الجنة. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّ المُؤْمِنِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي الجَنَّةِ وإِنَّ المُشْرِكِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي النَّارِ ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ" .
قوله: "وَمَا أَلَتْنَاهُمْ" قرأ ابن كثير ألِتْنَاهُمْ بِكَسْرِ اللام. والباقون بفتحها.
فأما الأُولى فمن أَلِتَ يَأْلَتُ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارغ كَعِلمَ يَعْلَمُ. وأما الثانية: فيحتمل أن تكون من أَلَتَ يَأْلِتُ كَضَرب يَضْرِبُ، وأن يكون من أَلاَتَ يُلِيتُ كَأَمَاتَ يُمِيتُ فألَتْنَاهُمْ كأَمَتْنَاهُمْ.
وقرأ ابْنُ هُرْمُزَ آلَتْنَاهُمْ - بألف بعد الهمزة - على وزن أفْعَلْنَاهُمْ، يقال: آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ. وعبد الله وأُبيّ والأعْمش وطلحةُ - وتُرْوى عن ابن كثيرٍ - لِتْنَاهُمْ بكسر اللام.
قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال، ولذلك أنكر آلَتْنَاهُمْ بالمد وقال: لا يدل عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ.
وليس كما زَعَمَ، بل نقلَ أهلُ اللغةِ آلَتَ يُؤْلِتُ.
وقرىء:- وَلَتْنَاهُمْ - بالواو - كَوعَدْنَاهُمْ نقلها هارُون. قال ابن خَالَوَيْهِ: فيكون هذا الحرف من لاَتَ يَلِيتُ ووَلَتَ يَلِيت وأَلِتَ يأْلَتُ وأَلَت يأْلِتُ وأَلاَتَ يُلِيتُ، وكلها بِمَعْنَى نَقَصَ.
ويقال: ألت بمعنى غلَّظَ وقام رجل إلى (أمير المؤمنين) عُمَرَ يَعِظُهُ فقال له رجل: لاَ تَأْلِتْ أَمِيرَ المؤمنين، أي لا تُغَلِّظْ عليه.
قال شهابُ الدِّين: ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تَنْقُصْ أمير المؤمنين حقه؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه.
وفي الضمير في "أَلَتْنَاهُمْ" وَجْهَانِ:
أظهرهما: أنه عائد على "المؤمنين".
الثاني: أنه عائد على "أَلَتْنَاهُمْ". قيل: ويقويه قوله تعالى: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ }.
قوله: { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } من شيء مفعول ثان لـ "ألتْنَاهُمْ" و "مِنْ" مزيدة؛ والأولى في محل نصب على الحال مِنْ (شَيْءٍ)؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قدمت نصبت حالاً. وجوز أبو البقاء أن يتعلق بِأَلَتْنَاهُمْ.
فصل
في قوله: "وَمَا أَلَتْنَاهُمْ" تطييب لقلبهم، وإزالة وَهَم المتَوهِّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوَالِدِ والوَلَدِ بل للوالد أجْر عَمَلِهِ، ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة. وقال: "مِنْ عملهم" ولم يقل: من أجرهم لأن قوله: وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إِليه، ولو قال: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل، ولأنه لو قال: مَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال: إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً.
فإِن قيل: ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله: "وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإِيمانٍ ألحقنا"؟.
فالجواب: (هو) إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإِيمان مخلصٍ كاملٍ. أو نقول: أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه، فإِن الإِيمانَ كاملاً لا يوجد في الولد، بدليل أنَّ من آمنَ له ولدٌ صغيرٌ حكم بإِيمانه، فإِذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التَّبَعِيَّة قيل: بأنه لا يكون مرتداً وتبيين بقوله أنه لم يُتْبَعْ. وقيل: بأنه يكون مرتداً؛ لأنه كفر بعدما حكم بإِيمانه كولد المسلم الأصلي. فإِذن تبين بهذا الخلاف أنَّ إيمانَه ليس بقويٍّ. ذكر هذين الوجهين الزمخشري.
ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوينُ للتعويض عن المضاف إِليه كقوله تعالى:
{ { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ } [الإسراء: 88] و [الزخرف: 67] { { وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [الحديد: 10] لأن التقدير: أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإِتباع ليس بإيمانٍ كَيْفَ كان وممَّنْ كَانَ وإِنما هو إِيمان الآباء، لكن الإِضافة تُنْبِىءُ عن تَقْييد، وعدم كون الإِيمان إيماناً على الإِطلاق، فإن قول القائل: ماءُ الشجر وماءُ الرمان فيصحّ، وإطلاق اسم "ماء" من غير إضافة لا يصح، فقوله: "بإيمانهم" يوهم أنه إيمان مضافٌ إليهم كقوله تعالى: { { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر: 85] حيث أثبت الإِيمان المضاف فلم يكن إيماناً فقطع الإِضافة مع إردتها ليعلم أنه إيمان صحيحٌ وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا يوجب الإيمان في الدنيا إلا إيمان الآباء. قال ابن الخطيب: وهَذا وجهٌ حَسَنٌ.
قوله: { كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } قال مقاتل: كل امرىء كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى:
{ { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ } [المدثر: 38 - 39]. قال الواحدي: هذا يعود إلى ذكر أهل النار. وهُو قولُ مُجَاهِدٍ أيْضاً.
وقال الزمخشري: هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهوناً عند الله بالكسب فإن كَسَبَ خيراً فك رقبته وإلا أغلق الرهن.
قال ابن الخطيب: وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهينُ فَعِيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى: كل امرىء بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً، وإن أساء ففي النار مخلداً؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العَرَض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات، وما عند الله باقٍ والباقي يبقى مع عمله.
قوله تعالى: { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ }، زيادة على ما كان لهم { وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } من أنواع اللّحْمَانِ. والمعنى زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهةُ واللحم، والمشروب الكأس. وفي هذا لطيفةٌ وهي أنه لما قال: مَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوىء، فقال: ليس عدم النقصان باقتصار على المساوىء؛ بل بالزيادة والإمداد.
قوله: "يَتَنَازَعُونَ" في موضع نصب على الحال من مفعول: "أمْدَدْنَاهُمْ" ويجوز أن يكون مستأنفاً.
وتقدم الخلاف في قوله: { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في البقرة. والجملة في موضع نصب صفة لكأسٍ. وقوله: فِيهَا أي في شَرَابِهَا. وقيل: في الجَنَّة. ومعنى يتنازعون أي يَتَعَاطَوْن. ويحتمل أن يقال: التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب مُلاَعَبَةٍ لا تَجاذُبَ مُنَازَعَة. وفيه نوع لذَّةٍ، قال الشاعر:

4534- نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الرَّاحِ الشَّمُولِ وَقَدْ صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي

وقوله: { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } قال قتادة: اللَّغْو: الباطل. وقال مقاتل بن حيّان: لا فضولَ فيها. وقال سعيد بن المسيب: لاَ رَفَث فيها. وقال ابن زَيْد: لا سبابَ ولا تخاصُمَ فيها.
وقال القُتَيْبِيُّ: لا يذهب عقولهم فيَلْغُوا أو يَرْفُثُوا "وَلاَ تَأْثيمٌ" أي لا يكون منهم ما يُؤْثِمُهُمْ. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السُّكْر. وقال الزجاج: لا يجري منهم ما يُلْغَى ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشَرَبَةِ الخَمْر.
وقيل: لا يأثمون في شُرْبِهَا.
قوله تعالى: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي يطوف عليهم بالخِدمة غلمانٌ لهم "كَأَنَّهُمْ" في الحسن والبياض والصَّفاء.
قوله: { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } صفة ثانية "لِغِلْمَانٍ". والمعنى يطوف عليهم بالكُؤُوس غلمانٌ لهم. وهم الوِلْدَان المُخَلَّدُون { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي مخزون مَصُونٌ لم تَمَسَّهُ الأَيْدِي.
قال سعيدُ بن جُبَيْر: يعني في الصِّدق، وقال عبد الله بن عمر: ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألفُ غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه.
"وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال: قَالُوا يا رسول الله: الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخْدُوم؟ قال: فَضْلُ المَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ لَيْلَةَ البدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَواكِبِ" .