التفاسير

< >
عرض

فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ
٢٩
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ
٣٠
قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ
٣١
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٣٢
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
٣٣
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٣٤
أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ
٣٥
أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ
٣٦
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ
٣٧
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٣٨
أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ
٣٩
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
٤٠
أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
٤١
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ
٤٢
أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٤٣
وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ
٤٤
-الطور

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } لما بين تعالى أن في الوجود قوماً يخافون الله، ويشفقون في أهلهم والنبي - عليه الصلاة والسلام - مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى: { { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق: 45] فوجب التذكير فلذلك ذَكَرَهُ بالفاء.
قوله: "بِنِعْمَةِ رَبِّكَ" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مقسم به متوسط بين اسم "ما" وخبرها. ويكون الجواب حينئذ محذوفاً لدلالة هذا المذكور عليه والتقدير: "وَنِعْمَةَ رَبّكَ مَا أَنْتَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ".
الثاني: أن الباء في موضع نصب على الحال، والعامل فيها: "بِكَاهِنٍ أوْ مَجْنُون" والتقدير: ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك. قاله أبو البقاء. وعلى هذا فهي حالٌ لازمة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يفارق هَذِهِ الحَالَ.
الثالث: أن الباء متعلقة بما دل عليه الكلام وهو اعتراض بين اسم "ما" وخبرها والتقدير: ما أنت في حال أذْكَارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون. قاله الحوفيّ. قال شهاب الدين: ويظهر وجه رابع وهو أن تكون الباء سببية وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية. وهذا هو مقصود الآية الكريمة. والمعنى انتفى عنك الكَهَانَةُ والجنونُ بسبب نعمةِ الله عليك كما تقول: مَا أَنْتَ بمُعْسِرٍ بحمْدِ اللَّهِ وَغِنائِهِ.
فصل
المعنى "فَذَكِّرْ" يا محمد أهل مكة بالْقُرْآنِ { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي برحمته وعصمته "بِكَاهِنٍ" مبتدع القول ومخبر بما في غد من غير وحي "وَلاَ مَجْنُونٍ" نزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ مكة يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكَهانةِ والسِّحر والجُنُون والشِّعر.
قوله: "أَمْ يَقُولُونَ" قال الثعلبي: قال الخليل: كل ما في سورة الطور من "أم" فاسْتِفْهَامٌ وليس بِعَطْفٍ.
وقال أبو البقاء: "أم" في هذه الآيات منقطعة. وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر بِبَلْ وحدَها أو بِبَلْ والهمزة أو بالهمزة وحدها. والصحيحُ الثاني.
وقال مجاهد في قوله: "إنْ تَأمُرهُمْ" تقديره بَلْ تَأمُرُهُمْ. وقرأ: { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } يدل: أم هُمْ قَوْمٌ.
قوله: "نَتَرَبَّصُ" في موضع رفع صفة لـ "شَاعِرٌ" والعامة على "نَتَرَبَّص" بإسناد الفعل لجماعة المتكلمين "رَيْبَ" بالنصب.
وزيد بن علي: يُتَرَبَّصُ - بالياء من تحت - على البناء للمفعول "رَيْبُ" بالرفع.
و "رَيْبُ المَنُونِ": حَوَادِثُ الدَّهْر، وتَقَلُّبَات الزَّمان؛ لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل. قال الشاعر:

4535- تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتُ خَلِيلُهَا

وقال أبو ذُؤَيْب:

4536- أَمِنَ الْمَنُونَ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

والمنون في الأصل الدهر. وقال الراغب: المَنُونُ: المنيّة؛ لأنها تَنْقُصُ العَدَدَ، وتَقْطَعُ الْمَدَدَ. وجَعَلَ من ذلك قوله: { أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [القلم:3] و [الانشقاق:25] و [التين:6] و [فصّلت:8] أي غير منقطع. وقال الزمخشري: وهو في الأصل: فعول من منه إذا قطعه لأن الموت قطوع، ولذلك سميت شعوب. و "رَيْبَ" وريبة مفعول به أي ننتظر به حوادث الدهر أو المنية.
فصل
المعنى: بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخَرَّاصين شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ به رَيْبَ المنون حوادث الدهر وصروفه وذلك أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء، فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون فقالوا: لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شِعْره وإنما نصبر وَنَتَربَّصُ موتَهُ ويَهْلِك كما هلك من قبله من الشعراء ويتفرق أصحابه وإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه. والمنون يكون بمعنى الدهر فيكون بمعنى الموت سُمِّيَا بذلك لأنَّهما يقطعان الأجل. أو يقال: إنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقول: إن الحَقَّ دين الله، وإنَّ الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر، وكتابي يُمْلَى إلى قيام الساعة فقالوا: ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهَلاَك فنتربص به ذلك. وَرَيْبُ المَنُون: هو اسم للموت فَعُولٌ من المَنِّ، وهو القطع.
ويحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذِهْنَهُ وتُورثُ وَهَنَهُ فيتبين لكل أحد فساد أمره وكساد شعره.
قوله: "قُلْ تَرَبَّصُوا" أي انتظروا بي الموت.
فإن قيل: هذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يُبِيحُه ويجوزه وتربصتم كان حراماً.
فالجواب: ليس ذلك بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا فإني متربصٌ الهلاك بكم كقول الغَضْبَانِ لعبده: افْعَلْ مَا شِئْتَ فإني لَسْتُ عَنْكَ بغافلٍ.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: تَرَبَّصوا أو لا تَتَرَبَّصُوا كما قال:
{ { ٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } [الطور: 16].
فالجواب: ليس كذلك، لأن ذلك يفيد عدم الخوف أكثر.
قوله: { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } أي أتربصُ هَلاَكَكُمْ، وقد أهلكوا يوم بدر وغيره من الأيَّام. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون معناه إذا قلنا: (إن) ريب المنون صروفُ الدهر فمعناه إنكار كَوْن صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول: أَنَا مِنَ المتربِّصين حتى أُبْصِرَ ماذا يأتي به الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يُصِيْبُنِي منه.
قوله: { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ } عقولهم { بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والإشارة بقوله: "بِهَذَا" إلى ما ظهر منهم عقلاً ونقلاً. وهو عبادة الأوثان وقولهم الهَذَيَان. وقيل: إشارة إلى قولهم: كَاهنٌ وشاعرٌ ومجنونٌ. وقيل إشارة إلى التربص وذلك أن الأشياء إما أن تَثْبُتَ بعقلٍ أو نقلٍ فقال: هل ورد أمرٌ سَمْعِيّ أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون مُفْتَرُونَ ويَقُولُونَ ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً؟ والطُّغْيَان مُجَاوَزَةُ الحَدِّ في العِصْيَانِ وكذلك كل شيء مكروهٌ ظاهرٌ، قال تعالى:
{ { لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ } [الحاقة: 11].
واعلم أن قوله: "أَمْ تَأمُرُهُمْ" متصل تقديره: أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا. وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وَفْق العقل لا ينبغي أن يقال؛ وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قولهُ عقلاً.
والأحلام جمع حِلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المَعْقُول لا يتحرك عن مكانه والحِلْم من الاحتلام، وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأن الحُلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلّفاً، فالله تعالى من لطيفِ حِكمته قَرَن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحِلْم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.
قوله: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي يخلق القرآن من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، والتَّقَوُّلُ تكلّف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } تقديره: كاهن أم يقولون تقوله بالمعنى ليس الأمر كما زَعَمُوا بل لا يؤمنون بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحُجَّة وأبطل جميع الأقسام فقال: { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أي القُرْآنِ ونظمه { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أنَّ محمداً تقوَّلهُ من قِبَلِ نفسه، ولما امتنع ذلك كَذَّبوا في الكُلّ.
قوله: "فَلْيأتُوا" الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى بهِ لِيَصحَّ كلامُهُم ويبطل كلامه. قال بعض العلماء: وهذا أمر تعجيزٍ قال ابن الخطيب: والظاهر أن الأَمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل: إيتوا مطلقاً بل قال: إيتوا إن كنتم صادقين فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يَجِبُ الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى:
{ { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } [البقرة: 258] وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم.
قوله: "بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ" العامة على تنوين "حَدِيثٍ" وَوَصْفِهِ بـ "مِثْلِهِ". والجَحْدَرِيُّ وأبو السَّمَّال "بحَدِيثِ مِثْلِهِ" بإضافة حديث إلى "المِثْل" على حذف موصوف أي بحديثِ رجلٍ مِثْلِهِ من جِنْسِهِ.
فصل
قالت المعتزلة: الحديث مُحْدَث، والقرآن سماه حديثاً فيكون مُحْدَثاً.
وأجيبوا: بأن الحديث اسمٌ مشترك يقال للمُحْدَث والمنقول وهذا يصح أن يقال: هذا حديث قديم أي متقادم العَهْد، لا بمعنى سبب الأزلية وذلك لاَ نِزَاع فِيهِ.
فإن قيل: الصّفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير والموصوف هنا: "حَدِيث" وهو مُنَكَّر، و "مِثْلِهِ" مضاف إلى "القرآن" والمضاف إلى القرآن مُعَرَّف فكيف هذا؟
فالجواب: أن "مِثْلاً" و "غَيْراً" لا يتعرَّفان بالإضافة، وكذلك كل ما هو مثله كشِبْهٍ، وذلك أن "غَيْراً ومِثْلاً" وأمثالهما في غاية التنكير؛ لأنك إذا قلت: "مِثْلُ زَيْدٍ" يتناول كل شيء، فإن كل شيء مثل زيد في شيء فالحِمار مثله في الجسم والحجم والإمكان والنباتُ مثله في النُّشُوء والنَّمَاء والذّبُول والفَنَاء، والحَيَوَان مثله في الحركة والإدراك وغيرها من الأوصاف. وأما "غَيْرُ" فهو عند الإضافة ينكَّر وعند قطع الإضافة ربَّما يَتَعرَّف؛ فإنك إذا قلت: غَيْر زيدٍ صار في غاية الإبهام، فإنه يتناول أموراً لا حصر لها، وأما إذا قطعتَ "غير" عن الإضافة فربَّما يكون الغَيْرُ والمُغَايَرَةُ من بابٍ واحد وكذلك التَّغيُّر فتجعل الغير كأسماء الجنس وتَجْعَلُهُ مبتدأ أو تريد به معنى معيَّناً.
قوله: "أَمْ خُلِقُوا" لا خلاف أن "أم" هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما وقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول: "أَخُلِقُوا مِنْ غير شيء".
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره: أَم خُلِقُوا من غير شيء أم هم الخالقون؟
قوله: { مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } يجوز أن تكون "من" لابْتِدَاء الغاية على معنى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شيء حَيٍّ كالجَمَادِ فهم لا يُؤْمَرُون ولا يُنْهَوْنَ كما الجَمَادَات، وقيل: هي للسَّبَبِيَّة على معنى من غير عِلَّةٍ، ولاَ لِغَايَةِ ثوابٍ ولا عقابٍ.
فصل
وجه تعلق الآية بما قبلها أنهم لما كذبوا النبي - عليه الصلاة والسلام - ونسبوه إلى الكَهَانَةِ والشِّعْر والجُنُونِ وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صِدْقِهِ إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم فكأنه يقول: كيف تكذبونَهُ وفي أنفسكم دليل صدقه، لأن قوله كانَ في ثلاثة أشياء، في التوحيدِ، والحَشْرِ، والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم صدقه وهو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما تقدم أنَّ:

فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الوَاحِدُ؟

وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني.
فصل
قال المفسرون: معنى الآية: أم خلقوا من غير شَيْءٍ فوُجِدُوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون { أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } لأنفسهم وذلك في البُطْلاَن أشدُّ؛ لأن ما لا وجودَ له كيف يخلق فإذا بَطَلَ الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً فليؤمنوا به. قال هذا المعنى أبو سليمان الخَطَّابِيُّ. وقال الزجاج: معناه أَخُلِقُوا باطلاً لا يُحَاسَبُون ولا يُؤْمِنُون وقال ابْنُ كَيْسَانَ: أخلقوا عبثاً وتركوا سُدًى لا يُؤْمَرُون ولا يُنهَوْن كقول القائل فعلت كذا وكذا (وقوله): { مِنْ غير شيء } لغير شيء { أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر.
وقيل: معناه أخلقوا من غير أبٍ وأُمٍّ.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: أم خلقوا من غير شيء أي أَلَمْ يُخْلَقُوا من ترابٍ أو من ماء لقوله تعالى:
{ { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [المرسلات: 20] ويحتمل أن يقال: الإستفهام ليس بنفي بل هو بمعنى الإثبات كقوله تعالى: { { أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [الواقعة: 59] و { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 64] و { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 72] كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال تعالى: { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } أي إنَّ الصادقَ هو الثاني وهذا حينئذ كقوله تعالى: { { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان: 1].
فإن قيل: كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟
نقول: والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه ونظرت إلى ابتداء أمره تجده مخلوقاً من غير شيء.
أو نقول: المراد أم خلقوا من غير شيء مذكوراً أو متغيراً وهو الماء المَهِينُ؟
قوله: { أَمْ خَلَقُواْ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ } قال الزمخشري: "لا يوقنون بأنهم خُلِقُوا" وهو في معنى قوله:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25] أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم.
وقيل: بل لا يوقنون بأن الله خالقٌ واحدٌ أي ليس الأمر كذلك وما خلقوا وإنما لا يوقنون بوَحْدَةِ الله. وقيل المعنى لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول كَقْولِكَ: فُلانٌ لَيْسَ بمُؤْمِنٍ وفُلاَنٌ كَافِرٌ لبيان مذهبه وإن لم يَنْوِ مفعولاً. والمعنى أنهم ما خلقوا السموات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل، بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية بدليل قوله تعالى بعد ذلك: { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ }. وهذه الآية دليل الآفاق وقوله من قَبْلُ دَليلُ الأنفس.
قوله: { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } قال عكرمة: يعني النبوة، وقال مقاتل: أَبِأَيْديهم مفاتيحُ ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا؟ وقال الكلبي: خَزَائِنُ المَطَر والرِّزق. وقيل: خزائن الرحمة.
قوله: { أَمْ هُمُ ٱلْمُصَيْطِرُونَ } وهذه تَتِمَّةُ الردِّ عليهم؛ لأنه لما (قَا) ل: { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } أشار على أنهم ليسوا بخزنة الله فعلموا خزائن الله لكن بمجرد انتفاء كونهم خزنة (لا) ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخَزَنَةِ، فإن العلم بالخَزَائنِ عند الخازن والكاتب بالخِزَانَة فقال: لستم بخَزَنَةٍ ولا بِكَتَبة الخزانة المسلطين عليها.
قال ابن الخطيب: ولا يبعد تفسير: "المُسَيْطِرِين" بكَتَبَةِ الخزائن؛ لأن التركيب يدل على السَّطْر وهو يستعمل في الكِتَابة.
قال أهل اللغة: المُسَيْطِرُ الغالب القاهر من سَيْطَرَ عليه إذا راقبه وَحَفظَهُ أو قَهَرَهُ. قال المفسرون: المسيطرون المسلطون الجَبَّارُون. وقال عطاء: أربابٌ قاهرونَ، فلا يكونوا تحت أمرٍ أو نهي يفعلون ما شَاؤُوا. ويجوز بالسين والصاد جميعاً.
وقرأ العامة: المُصَيْطِرُون بصاد خالصة من غير إشْمَامِها زاياً لأجل الطاء كما تقدم في: "صراط" [الفاتحة: 7].
وقرأ هشامٌ وقُنْبُلٌ من غير خلاف عنهما بالسين الخالصة التي هي الأصل وحفصٌ بخلافٍ عنه.
وقرأ خلاَّدٌ بصاد مشمَّةٍ زاياً من غير خلاف عنه. وقرأ خلادٌ بالوجهين أعني كخَلَفٍ والعامَّةِ. وتوجيه هذه القراءات واضحٌ مما تقدم في أول الفاتحة، ولم يأتِ على "مُفَيْعِلٍ" إلا خمسة ألفاظ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعل نحن مُهَيْمِن ومُبَيْقِر، ومُسَيْطرِ ومُبَيْطر وواحد اسم جبل - وقيل: اسم أرضٍ لبني فِزارة - وهو المُجَيْمِر قال امرؤ القيس:

4537- كَأَنَّ ذُرَى رَأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً مِنَ السَّيْلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

قوله: { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } أي مِرْقَاةٌ ومِصْعَد إلى السماء "يَسْتَمِعُونَ فِيهِ". وهذا أيضاً تتميم الدليل، فإن مَنْ لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال: أنتم لستم بخزنة ولا كَتَبَةٍ ولا اجتمعتم بهم، لأنهم ملائكة ولا صعود لكم.
قوله: "يَسْتَمِعُونَ فِيهِ" صفة "لسُلَّمٍ" و "فِيهِ" على بابه من الظرفية. وقيل: هي بمعنى "عَلَى". قاله الواحدي، كقوله تعالى:
{ { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71]. ولا حاجة إلَيْهِ.
وقدَّره الزمخشري متعلقاً بحال محذوفة تقديرها: صَاعِدِينَ فيه. ومفعول "يَسْتَمِعُونَ" محذوف فقدره الزمخشري يستمعون ما يوحى إلى الملائكة من عِلْم الغيب. وقدره غيره يستمعون الخبر بصحة ما يدعون من أنه شاعر، وأنَّ لِلَّهِ شركاءَ.
والظاهر أنه لا يقدر له مفعول بل المعنى يوقعون الاستماع أي هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول.
قوله: "فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ" إن ادَّعَوْا ذلك "بسلطان مبين" أي حجة وبينة.
فإن قيل كيف قال: "فَلْيَأتِ مُسْتَمِعُهُمْ" ولم يقل: فَلْيَأتُوا كما قال تعالى:
{ { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [الطور: 34]؟
فالجواب: أنه طلب منهم الأهون على تقدير صدقهم ليكون امتناعُه عليهم أدلَّ على بُطْلان قولهم، وقال هناك: فَلْيَأتوا أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله، فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارْتِقَاءُ في السلم بالاجتماع فمتعذِّر، لأنه يرتقي واحدٌ بعد واحد فلا يحصل في الدرجة العليا إلا واحد فقال: فَلْيَأتِ ذَلك الواحد بما سَمِعَهُ. وفيه لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه لكان الواحد أن يفتري ويقول: سَمِعْتُ كذا فقال: لاَ بل الواجب أن يأتي بدليل يَدُلُّ عليه.
قوله: { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } وهذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون كقوله تعالى:
{ { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ } [الصافات: 149].
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } جعلاً على ما جئتهم به ودعوتهم إليه { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي أثقلهم ذلك المَغْرَم الذي يسألهم، فيمنعهم ذلك عن الإسلام.
فإن قيل: ما الفائدة في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: أَمْ تَسْأَلَهُمْ ولم يقل: أَمْ تُسْأَلُونَ أجراً كما قال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ } { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } إلى غير ذلك؟
فالجواب: أنَّ فيه فائدتين:
إحداهما: تسلية قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم امتنعوا عن الاستماع صَعُبَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ربه: أَنْتَ أتيتَ بما عليك فلا يَضيقُ صدرُك حيث لم يُؤْمنوا، فأنت غير مُلْزَم، وإنما كنت تُلاَمُ إن كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأَثْقَلْتَهُمْ فلا حَرَجَ عليك إذَنْ.
الثانية: لو قال: أَمْ تُسْأَلُونَ ففي طلب الأجر مطلقاً وليس كذلك لأنهم كانوا مشركين مطالبين بالأجر من رؤسائهم وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتَ لا تسألهم أجراً فهم لا يَتَّبِعُونَك وغيرهُم يسألهم وهم يسألون ويتَّبِعون السائلين هذا غاية الضَّلاَل.
قوله: { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ } أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أن ما يخبرهم من أمر القيامة والبعث باطل. قال قتادة: هذا جواب لقوله: { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } يقول: أعندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم فهم يكتبون.
قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لبعد ذكره، أو لأن قوله تعالى: { قُلْ تَرَبَّصُواْ } متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذاك.
قال القُتَيْبِيّ: أي يحكمون والكِتَاب الْحُكم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين اللذين تخاصما إليه: أقضي بينكما بكِتَاب الله أي بحُكْمِ الله.
وقال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - معناه: أم عِنْدهُمُ اللَّوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويُخْبِرُون الناس به.
والألف واللام في { ٱلْغَيْبُ } لا للْعَهْد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول: اشْتَرِ اللَّحْمَ تريد بيان الحقيقة لا كلّ لحم ولا لحماً معيناً.
قوله { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } أي مكراً بك { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلْمَكِيدُونَ } أي المَخْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، أي إن ضَرَرَ ذلك يعود عليهم ويحيق مكرهم بهم لأنهم مكروا به في دَار الندوة فقُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
فصل
وجه التعلق إذا قيل بأن قوله: { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ } متصل بقوله تعالى: { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } فالمعنى أنهم لما قالوا: نتربص به ريب المنون قيل لهم: أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أَمْ تُرِيدُون كيداً فتقولون نقتله فيموت فقيل لهم: إن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنُّون أنّكم تقدرون عليه فأنتم غالِطُون فإن الله يَصُونُه ويَنْصُره عليكم.
وإن قيل بأن المراد أنه عليه الصلاة والسلام لا يسألكم عن الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لكونه من الغُيُوبِ ففي المراد بقوله: { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } وجهان:
الأول: أن المعنى أم يريدون أي من الشيطان فكأنه تعالى قال: أنتَ لا تَسْألهم أجراً وهم لا يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كَيْدَ الشيطان، وارتَضَوْا بإزاغَتِهِ.
والإرادة بمعنى الاختيار كقوله تعالى:
{ { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } [الشورى: 20] وقوله: { { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ } [الصافات: 86] وقوله: { { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [المائدة: 29].
الثاني: أن المراد أم يريدون كيداً، فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدونَ والمعنى أنه لم يبق لهم حجةٌ في الإعراض فهم يريدون نُزُول العذاب والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويَهْدِيهم إلى ما لاَ عِلْمِ لَهم به ولا كتابَ عندهم وهم معرضون فهم يريدون إذَنْ أن يهلكهم ويكيدهم، لأن الاستدراجَ كيدٌ، والإملاء لازدياد الإثْم كذلك ولا يقال: هذا فاسد، لأن الكيد والإساءة لا تطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقال: أسَاءَ اللَّهُ إلى الكافر ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً منهم شيء من ذلك، ثم يقال بعده مثله لفظاً في حق الله تعالى، كقوله تعالى:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]، { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194] { { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 54] { { يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [الطارق: 15 - 16]؛ لأنا نقول: الكيد (ما) يسُوءُ مَنْ نَزَلَ به، وإن حسن ممن وجد منه كقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } [الأنبياء: 57] من غير مقابلة. ونكر الكيد، إشارةً إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرُون، فكأنه قال: يأتيهم بَغْتة ولا يكون لهم علم بِعظمِهِ.
قوله: "فَالَّذِينَ كَفَرُوا" هذا من وقوع الظاهر موقع المضمر تنبيهاً على اتِّصافهم بهذه الصفة القبيحة، والأصل أَم يُريدُونَ كَيْداً فَهُم المكيدون، أو حكم على جنس هم نوع منه فيندرجون اندراجاً أوَّلِيًّا لتوغلهم في هذه الصفة.
قوله: { أَمْ لَهُمْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ } يرزقهم وينصرهم { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
قال الخليل: ما في هذه السورة من ذكر "أَمْ" كلمةُ استفهام وليس بعطف.
فصل
قَالَ أَهْلُ اللُّغَة: "سُبْحَانَ اللَّهِ" اسم علم على التسبيح، و "مَا" في قوله "عَمَّا يُشْرِكُونَ" يحتمل أن تكون مصدرية أي عن إشراكهم، ويحتمل أن تكون خبريةً أي عن الذين يشركون. وعلى هذا يحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون: لَهُ البَنَاتُ فقال: "سُبْحَانَ اللَّهِ عن البنات والبنين". ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة أي سبحانه الله عن مِثْل ما يعبدونه.
قوله تعالى: { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً } "إنْ" هذه شرطية على بابها. وقيل: هي بمعنى "لو". وليس بِشَيءٍ.
وقوله: "سَحَابٌ" خبر مبتدأ مضمر أي هذا سَحَابٌ، والجملة نَصْبٌ بالقول.
فصل
لما بين فَسَاد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنه لم يبق لهم عُذْرٌ، فإن الآيات والحُجَج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً } أي قطعةً { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ } أي ينكرون كونه آية. ومعنى الآية لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم يَنْتَهُوا عن كفرهم ويقولوا لمعاندتهم: هَذَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أي بعضه على بعض.
قوله: "سَاقِطاً" يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً كقولك: رَأَيْتُ زيداً عَالِماً، وأن يكون حالاً كقولك: ضربته قائماً.
والثاني أولى؛ لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكونُ بمعنى العلم، تقول: رَأَيْتُ هَذَا المَذْهَبَ صَحِيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى "رأي العين" في الأكثر، تقول: رأيت زيداً؛ قال تعالى:
{ { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر: 84] وقال: { { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً } [مريم: 26].
والمراد من الآية رؤية العين.
فصل
قولهم: "سَحَابٌ مَرْكومٌ" إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يعقلوا وقوع شيء على الأرض يَرْجِعون إلى التأويل والتَّخْييل، وقالوا: سَحَابٌ ولم يقولوا: هذا سحاب إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العِنَاد فأتوا بما لا شك فيه. وقالوا: "سحاب مركوم" وحذفوا المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقولون عند تكذيب الخلق إيّاهم: قُلْنَا سَحَابٌ مَرْكُومٌ شبهة أو مثلة. وإن مشى الأمر على عوامِّهم استمروا. وهذه طريق من يخاف من كلام لا يعلم هل يقبل منه أم لا فيجعل كلامه ذَا وَجْهَيْنِ. فإن رأى القبول صرح بمرادهِ، وإن أنكر عليه أحدهما فَسَّره بالآخَر.