التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى
٣١
ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ
٣٢
-النجم

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } وهذا معترض بين الآية الأولى وبين قوله: { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ }.
واللام في قوله: "لِيَجْزِي" فيها أوجه:
أحدها: أن يتعلق بقوله:
{ { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ } [النجم: 26] ذكره مكّي. وهو بعيد من حيثُ اللَّفْظ ومن حيث المعنى.
الثاني: أن يتعلق بما دل عليه قوله: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } أي له ملكهما يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء ليجزي المُحْسِنَ والْمُسِيءَ.
الثالث: أن يتعلق بقوله: "بِمَنْ ضَلَّ، وَبِمَن اهْتَدَى" واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا. قال معناه الزمخشري.
الرابع: أن يتعلق بما دل عليه قوله:
{ { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } [النجم: 30] أي حفظ ذلك لِيَجْزِيَ. قاله أبو البقاء.
وقرأ زيد بن علي: لِنَجْزِي بنون العظمة والباقون بياء الغيبة. وقوله: "الَّذِينَ أحْسَنُوا" وحَّدُوا ربهم "بالْحُسْنَى" بالْجَنَّة. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان مالكاً فلذلك قال تعالى: { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ }.
قوله: "الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ" يجوز أن يكون منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً "لِلَّذِينَ [(أحْسَنُوا)".
فإن قيل: إذا كان بدلاً عن "الَّذِينَ] أحْسَنُوا" فَلِمَ خالف ما بعده بالمُضِيِّ والاستقبال حيث قال "الَّذِين أحْسَنُوا" وقال: "الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ" ولم يقل: اجْتَنَبُوا؟
فالجواب: هو كقول القائل: الَّذِينَ سَأَلُونِي أعْطَيْتُهُم الذين يترددون إليَّ سائلين أي الذين عادتهم التَّرداد للسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك ههنا أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة واحدة. ويجوز أن يكون الموصول منصوباً بإضمار "أَعْنِي"، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين، وهذا نعت للمحسنين.
وقد تقدم الكلام في كبائر وكبير الإثْم.
قوله: "إلاَّ اللَّمَمَ" فيه أوجه:
أحدها: أنه استثناء منقطع؛ لأن اللمم الصغائر فلم يندرج فيما قبلها. وهذا هو المشهور.
الثاني: أنه صفة، و "إلاَّ" بمنزلة غير كقوله:
{ { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22] أي كبائر الإثم والفواحش غيرَ اللَّمم.
الثالث: أنه متصل. وهذا عند من يفسر اللّمم بغير الصغائر، قالوا: إن اللَّمَمَ من الكبائر والفواحش قالوا: معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب وتقع الواقعة ثم ينتهي. وهو قول أبي هريرةَ ومجاهدٍ والْحَسَن ورواية عطاء عن ابْن عَبَّاس، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللَّمم ما دون الشرك.
قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عزّ وجلّ: إلاَّ اللَّمم فقلت: هو الرجل يلم الذنب ثم لا يُعَاودُه، فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أعانك عليها ملكٌ كريمٌ.
وروى ابن عباس -(رضي الله عنهما) في قوله: إلاَّ اللمم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

4562- إنْ تَغْفِر اللَّهُمّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا؟

وأصل اللمم ما قلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المسُّ من الجُنُون وألمَّ بالمكان قَلَّ لَبْثُهُ فيه، وأَلَمَّ بالطعام أي قل أكلُهُ منه.
وقال أبو العباس: أصل اللَّمَم أن يلمَّ بالشيء من غير أن يَرْكَبَهُ فقال: أَلَمَّ بكَذَا إذا قاربه، ولم يخالطه. وقال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في معنى الدُّنُوّ والقرب، وقال جرير: (رضي الله عنه وأرْضَاهُ):

4563- بنَفْسِي مَنْ تَجَنِّيهِ عَزِيزٌ عَلَيَّ وَمَنْ زِيَارَتُهُ لِمَامُ

وقال آخر:

4564- مَتَى تَأتِنَا تَلْمُمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا

وقال آخر:

4565- لِقَاء أَخْلاَءِ الصَّفَا لِمَامُ .......................

ومنه أيضاً لمّة الشعر لما دون الوَفْرة.
فصل
قال ابن الخطيب: الكبائر إشارة لما فيها من مقدار السيئة.
والفواحش في اللغة مختصة بالقبح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التأليف يدل عليه، فإنك إذا قلبتها وقلت: حَشَفَ كان فيه معنى الزيادة الخارجة عن الحد، فَإن الحَشَفَ أرذلُ التَّمر، وكذلك فَشَحَ يَدُلُّ عَلَى حَالَة رَديئةٍ، يُقَال: فَشَحَت النَّاقَةُ إذَا وَقَفَتْ على هيئةٍ مخصوصةٍ للبَوْلِ فالفُحْش يلازمه القبح، ولهذا لم يقل الفواحش من الإثم، وقال في الكبائر من الإثم؛ لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة في قوله: كَبَائِر الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش.
واختلفوا في الكبائر والفواحش؟ فقيل: الكبائر ما وعد الله عليه بالنار صريحاً وظاهراً والفواحش ما أوجب عليه حدًّا في الدنيا. وقيل: الكبائر: ما يُكَفَّرُ مستحلُّها. وقيل: الكبائر ما لا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو مذهب المعتزلة.
قال ابن الخطيب: كل هذه التعريفات تعريف للشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه. وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم والفواحش هي التي قبحها واضح، فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية.
فصل
اختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم: ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنهم كانوا بالأمس يعملون معاً فأنزل الله هذه الآية. وهذا قول زيدِ بنِ ثابت وزيدِ بن أسلم.
وقيل: هو صغار الذنوب كالنَّظرة والغَمْزَة، والقُبْلَة وما كان دون الزنا. وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروقٍ، والشَّعْبي ورواية طاوس عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"إنَّ اللَّهَ كَتَبَ علَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْن النَّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، والنَّفْسُ تَتَمَنَّى وتَشتهِي والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ" . وفي رواية: "والأُذُنَانِ زِنَاهُما الاسْتِمَاعُ، واليَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ والرِّجْلُ زِناها الخُطَى" .
وقال الكلبي: اللمم على وجهين:
[الأوّل]: كل ذنب لم يذكر الله عليه حداً في الدنيا ولا عذاباً في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائرَ والفواحشَ.
والوجه الآخر: هو الذنب العظيم يلمُّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه.
وقال سعيد بن المسيب: هو ما لَمَّ على القلب أي خَطَرَ. وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: اللَّمَمُ النظرةُ عن غير تعمد فهو مغفورٌ، فإن أعاد النظر فليس بلَمَم بل هُو ذنبٌ.
قوله: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ }، قال ابن عباس - (رضي الله عنه) - لمن يفعل ذلك وتاب. وههنا تَمَّ الكلام.
قوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } في تعلق الآية وجوه:
أحدها: هو تصوير لما قال من قبل، فإنه لو قال: هو أعلم بمن فعل كان القائل من الكفار يقول: نحن نعلم أموراً في جوفِ الليل المُظْلمِ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله؟ قال: ليس علمكم أخفى من أحوالِكم وأنتم أَجِنَّة في بطون أمهاتكم، فإنّ الله عالمٌ بتلك الأحوال.
الثاني: أنه إشارة إلى أن الضالَّ والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله فإنه عَلِمَ الحق وأنتم في بطون الأمهات فكتب على البعض أنه ضال، وكتب على البعض أنه مُهْتَد.
الثالث: أنه تأكيد لبيان الجزاء، لأنه لما قال: { لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } قال الكافرون هذا الجزاء لا يستحق إلا بالحشر وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيدٍ من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط، وذلك غير ممكن فقال تعالى هو عالم مماذا أنشأكم فيجمعها بعد ذلك على وفق علمه كما أنشأكم.
فصل
العامل في (قوله): "إذْ" يحتمل أن يكون "اذْكُرْ" فيكون هذا تقريراً لكونه عالماً ويكون تقديره هو أعلم بكم. وقد تم الكلام ثم يقول: إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب. وقد تقدم الكلام على قوله: { خلقكم من تراب } بأن كل أحد أصله من التراب، فإنَّه يصير غذاء، ثم يصير دماً ثم يصير نطفة.
فإن قيل: لا بدّ من صرف قوله { إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ } إلى آدم، لأن قوله: { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } عائد إلى غيره، فإنه لم يكنْ جنيناً. وإن قلت بأن قوله تعالى: { إِذْ أَنشَأَكُمْ } عائد إلى جميع الناس فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات وهو قول الفلاسفة؟
فالجواب: ليس كذلك، لأنا نقول: الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب، فقوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ } خطاب مع من حَضَر (وقت) الإنزال وهم كانوا أجنَّةً، وخلقوا من الأرض على ما قررناه.
قوله: "أجنة" جمع جنين وهو الحمل في البطن لاستتاره. و "جَنِينٌ، وأَجِنَّة" كسَرِيرٍ وأَسِرَّةٍ.
فإن قيل: الأجنة هم الذين في بطون الأمهات وبعد الخروج لا يسمى إلا ولداً أو سَقْطاً، فما فائدة قوله تعالى: { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ }؟
فالجواب: أن ذلك تنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطون الأمهات في غاية الظُّلْمَةِ ومن علم حالَ الجنين فيها لا يخفى عليه ما يظهر من حال العِبَادِ.
قوله: { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } قال ابن عباس - (رضي الله عنهما) -: لا تمدحوها. وقال الحسن: علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة { فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ } تُبَرِّئُوها عن الآثَام ولا تمدحوها بحسن أعمالها. وقال الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون: صلاتُنا وصيامُنا وحَجُّنا فأنزل الله هذه الآية. ثم قال: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } أيَ برَّ وأَطَاعَ وأَخْلَصَ الْعَمَلَ.
فصل
يحتمل أن يكون هذا خطاباً مع الكفار، فإنهم قالوا: كيف يعلمنا الله؟ فرد عليهم قولهم ويحتمل أن يكون خطاباً مع كل من كان في زمن الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار، ويحتمل أن يكون خطاباً مع المؤمنين وتقريره أن الله تعالى لما قال فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - قد علم كونك ومن تَبِعَك على الحق وكون الكفار على الباطل فأعرض عنهم ولا تقولوا نحن على الحق وأنتم على الضلال؛ لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك وفوض الأمر إلى الله، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى.
وعلى هذا قول من قال: "فأعرض" منسوخٌ أظهر، وهو كقوله تعالى:
{ { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [سبأ: 24] يعني الله أعلم بجملة الأمر.