التفاسير

< >
عرض

أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ
٣٣
وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ
٣٤
أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
٣٥
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ
٤٢
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
٤٣
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
٤٤
وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ
٤٧
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ
٤٨
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ
٤٩
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ
٥٠
وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ
٥١
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ
٥٢
وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ
٥٣
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ
٥٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ
٥٥
-النجم

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحداً منهم معيناً بسوء فعله.
قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - على دينه فعيَّره بعض المشركين وقالوا له: تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال: إنِّي خَشِيتُ عذاب الله فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذابَ الله، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } أي أدبر عن الإيمان "وأعطى" صاحبه "قَلِيلاً وأَكْدَى" بخل بالباقي. وقال السدي: نزلت في العاصِ بن وائل السّهمّي، وذلك أنه ربما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمدٌ إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } أي لم يؤمن به. ومعنى "أَكْدَى" أي قطع.
قوله: "وَأَكْدَى" أصله من أَكْدَى الحَافِر إذا حَفَرَ شيئاً فصادف كُدْيَةً منعته من الحفر، ومثله: أَجْبَلَ أي صادف جَبَلاً مَنَعَهُ من الحَفْرِ، وكَدِيَتْ أَصَابِعُهُ كَلَّتْ من الحفر، ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتمِّمه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخِرَه. قال الحطيئة:

4560- فَأَعْطَى قَلِيلاً ثُمَّ أَكْدَى عَطَاؤُهُ وَمَنْ يَبْذُلِ المَعْرُوفَ فِي النَّاسِ يُحْمَدِ

ويقال: كَدَى النبتُ إِذا قلّ ريعُهُ، وكَدَتِ الأَرْضُ تَكْدُو كُدُّوا فهي كَادِيَةٌ إذا أبطأ نباتها. عن أبِي زَيْدٍ.
وأَكْدَيْتُ الرَّجُلَ عن الشيء رَدَدْتُهُ. وأَكْدَى الرَّجُلُ إذَا قَلَّ خَيْرُهُ، فقوله: { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } أي قطع القليل.
و "أَرَأَيْتَ" بمعنى أخبرني. وقوله: "الَّذِي" يعود إلى الوليد (بنِ المُغِيرة) قال ابن الخطيب: والظاهر أنه يعود إلى المتولّي في قوله:
{ { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ } [النجم: 29].
فإن قيل: كان ينبغي أن يقول: الذين تولوا لأن (مَنْ) للعموم؟.
فالجواب: إن العود إلى اللفظ كقوله تعالى:
{ { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ } [الأنعام: 160] ولم يقل: فلهم.
قوله: "فَهُوَ يَرَى" هذه الجملة مترتبة على ما قبلها ترتّباً ظاهراً. وقال أبو البقاء: "فَهُوَ يَرَى" جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، والأصل: أعِنْده علمُ الغيب فَيَرَى، ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جواب الاستفهام، انتهى. وهذا لا حاجة إليه مع ظهور الترتيب بالجملة الاسمية. وقد تقدم له نظير هذا الكلام والردّ عليه.
ومعنى الآية أعند هذا المُكْدِي علمُ الغيب - أي علم ما غابَ عنه - من العذاب فهو يرى أي يعلم ما غاب عنه من أمر الآخرة وما يكون من أمره حتى يضمن حَمْلَ العذاب عن غيره وكفى بهذا جهلاً بأنه يرى ما غاب عنه ويعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه.
قوله: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } أي لم يخبر { بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ } يعني أسفار التوراة و "أم" منقطعة أي بل ألم ينبأ و "ما" في قوله "بِمَا" يحتمل أن يكون المراد جنس ما قبلها أي لم ينبأ بالتوحيد والحشر وغيره. ويحتمل أن يكون عين ما في التوراة لا جنسه. وعلى هذا فالكلام مع أهل الكتاب.
قوله: "وَإِبْرَاهِيمَ" عطف على "موسى"، أي وصحف إبراهيم، لقوله في سورة الأعلى:
{ { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 19].
وإنما خص هذين النبيين بالذكر، لأنه كان بين إبراهيم وموسى يؤخذ الرجلُ بجريرة غيره فأول من خالفهم إبراهيم قاله الهذيل بن شُرَحْبِيل. والعامة على وَفَّى بالتشديد. وقرأ أبو أُمامة الباهلي وسعيدُ بن جبير وابن السَّمَيْقَع: وَفَى مخففاً. وقد تقدم أن فيه ثلاثَ لغات. وأطلق التوفية والوفاء ليتناولا كل ما وفى به والمعنى تَمَّ وأكمل ما أُمِرَ به.
قال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة: عمل ما أمر به، وبلغ رسالةَ ربه إلى خلقه. وقال مجاهد: وفى بما فرض عليه. وقال الربيع: وفى رُؤْياه وقام بذبح ابْنه. وقال عطاء الخراساني: استكمل الطاعة. وقال أبو العالية: هو الإتمام في قوله تعالى:
{ { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] والتوفية الإتمام. وقال الضحاك: وفَّى المناسك. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إبرَاهِيمُ الَّذِي وَفَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ" .
قوله: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } "أن" مخففة من الثقيلة واسمها محذوف هو ضمير الشأن و "لاَ تَزِرُ" هو الخبر. وجيء بالنفي لكون الخبر جملة فعلية متصرفة غير مقرونة كما تقدم تحريره في المائدة. و "أن" وما في حيّزها فيها قولان:
أظهرهما: الجر بدلاً من "ما" في قوله { بما في صحف }.
والثاني: الرفع خبراً لمبتدأ مضمر أي ذَلِك أن لا تزرُ أو هو أن لا تزرُ. وهو جواب لسؤال مقدر؛ كأن قائلاً قال: وما في صحفهما؟ فأجيبَ بذلك.
قال شهاب الدين: ويجوز أن يكون نصباً بإضمار "أعني" جواباً لذلك السائل وكل موضع أضمر فيه هذا المبتدأ لهذا المعنى أضمر فيه هذا الفِعل.
فصل
معنى الآية: أنه لا تحمل نفسٌ حِمْلَ أخرى أي لا تُؤخَذُ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإِثم.
وروى عكرمة عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: كانوا قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأخذون الرجل بذنب غيره وكان الرجل يُقْتَلُ بقَتْل أبيه وابنه وأخواته حتى جاءهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل أن لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى.
فإن قيل: الآية مذكورة لبيان أن وِزْرَ الرجل لا يحمل عنه وبهذا الكلام لا تحصل هذه الفائدة، لأن الوَازِرَةَ تكون مثقلةً بوِزْرِها وكل أحد يعلم أنها لا تحمل شيئاً فلو قال: لا تحمل فارغة وزر أخرى كان أبلغ.
فالجواب: أن المراد من الوَازِرَةِ هي التي يتوقع منها الوزر والحمل لا التي وَزَرت وحَمَلَتْ.
ونقل القرطبي عن أبي مالك الغِفاريّ قال: قوله تعالى: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } إلى قوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } في صحف إبراهيم وموسى.
قوله تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أن هي المخففة أيضاً ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف. ومحلها الجر أو الرفع، أو النصب لعطفها على (أن) قبلها، وكذلك محل: "وَأَنَّ سَعْيَهُ". و "يُرَى" مبني للمجهول، فيجوز أن تكون من البَصَرِية أي يُبْصَر، وأن تكون من العِلْميَّة فيكون الثاني محذوفاً أي يرى حاضراً. والأول أوضح.
وقال مكي: وأجاز الزجاج: يَرَى بفتح الياء على إضمار الهاء؛ أي سَوْفَ يَرَاهُ ولم يُجِزْهُ الكوفيُّونَ لأن "سعيه" يصير قد عمل فيه أنّ، و "يَرَى". وهو جائز عند المبرِّد وغيرِهِ؛ لأنَّ دخولَ "أنّ" على "سَعْيَهُ" وعملها فيه، يدل على الهاء المحذوفة مِنْ "يُرَى"؛ وعلى هذا جوز البصريون: إنَّ زيداً ضَرَبْتَ بغير هاء.
قال شهاب الدين: وهو خلاف ضعيف توهموا أن الاسم توجه عليه عاملانِ مختلفان في الجنسية، لأن رأي بعضهم أن يعمل فِعْلاَنِ في معمول واحد، ومنه باب التنازع في بعض صوره، نحو: قَامَ وقَعَدَ زَيْدٌ وضَرَبْتُ وأكرمْتُ عَمْراً وأن يعمل عامل واحد في اسم وفي ضميره معاً نحو: زَيْداً ضَرَبْتُهُ في باب الاشتغال. وهذا توهم باطل؛ لأنا نقول: سَعْيَهُ منصوب "بأَنَّ" و "يُرَى" متسلط على ضميره المقدر فظاهر هذا أنه لم يقرأ به.
وقد حكى أبو البقاء أنه قرىء به شاذًّا، ولكه ضعفه من جهة أخرى فقال: وقرىء بفتح الياء، وهو ضعيف؛ لأنه ليس فيه ضمير يعودُ على اسم أنَّ وهو السَّعْي والضمير الذي فيه الهاء فيبقى الاسم بغير خبر وهو كقولك: إنَّ غُلاَمَ زَيْدٍ قَامَ وأنت تعني قام زيد، فلا خبر "لغُلاَمٍ".
وقد وُجِّه على أن التقدير سوف يَرَاهُ فتعود الهاء على السَّعي. وفيه بعد. انتهى.
قال شهاب الدين: وليت شعري كيف توهم المانع المذكور وكيف نظّره بما ذكر؟! ثم أي بعد في تقدير سوف يَرَى سَعْي نَفْسِهِ؟! وكأنه اطلع على مذهب الكوفيين في المنع إلا أن المُدْرَكَ غير المُدْركِ.
قوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } أي عَمِل، كقوله:
{ { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [الليل: 4]. وهذا أيضاً في صُحُف إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ) - هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله: { { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الطور: 21] فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء.
وقال عكرمة: كان ذلك لقَوم إبراهيم وموسى أما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لِمَا
"رُوِيَ أن امرأةً رَفَعَتْ صبيًّا لها فقالت يا رسول الله: ألهذا حَجٌّ؟ قال: نعم، ولكِ أجرٌ" .
"وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمّي قَتَلَتْ نفسها فهل لها أجر إن تصدّقت عنها؟ قال: نعم" .
قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تَيْمِيةَ: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة:
أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها، ثم لأهل الكبائر في الإخراج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
الثالث: أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير.
الرابع: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير.
الخامس: أن الله يُخْرج من النار من لم يعمل خيراً قطّ بمَحْض رحمته. وهذا انتفاع بغير عملهم.
السادس: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمَحْضِ عَمَل الغَيْرِ.
السابع: قال تعالى في قصة الغلامين اليتمين:
{ { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } [الكهف: 82]. فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما.
الثامن: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه، وبالعِتْق بنصِّ السّنة والإجماع، وهو من عمل غيره.
التاسع: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وَلِيِّه بِنَصِّ السُّنَّة وهو انتفاع بعمل الغير.
العاشر: أن الصوم المنذور والحجَّ المنذور يسقط عن الميت بعَمَلِ غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير الذي امتنع عليه الصلاة والسلام من الصلاة عليه حتى قضى دينَهُ أبو قَتَادَةَ، وقضى دَيْنَ الآخر عليُّ بن أبي طالب قد انتفع بصلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير.
الحادي عشر: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
"قال لمن صلَّى وحده: ألا رجل يتصدق على هذا الرجل فيصلي معه فقد حصل له فضل الجماعة بفضل الغير" .
الثاني عشر: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديوان الخَلْق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل غيره.
الثالث عشر: أن من عليه تبعاتٌ ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل غيره.
الرابع عشر: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، وهذا انتفاع بعمل الغير.
الخامس عشر: أن جليسَ أهلِ الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك بل لحاجةٍ عَرَضَتْ له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره.
السادس عشر: الصَّلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.
السابع عشر: أن الجُمعَة تحصل باجتماع العدد، وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعْضِ بالبَعْضِ.
الثامن عشر: أن الله قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام -:
{ { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33] وقال: { { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } [الفتح: 25] وقال { { وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [الحج: 40] فقد دفع الله العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير.
التاسع عشر: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن الرجل ينفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي له.
العشرون: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له، ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى فكيف يجوز أن يتناول الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟!.
والمراد بالإنسان العُمُوم.
وقال الربيع بن أنس: ليس للإنسان - يعني الكافر - وأما المؤمن فله ما سعى وما سُعي له. وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير.
ويروى: أن عبد الله بن أبي (ابن سلول) كان أعطى العَبَّاس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه ليكفن فيه فلم يبق له حسنةٌ في الآخرة يُثَابُ عَلَيْهَا.
وقوله: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } أي يرى في ميزانه يوم القيامة من أَرَيْتُهُ الشيءَ أي يعرض عليه ويكشف له.
فإن قيل: العمل كيف يرى بعد وُجوده ومُضِيِّه؟!.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: يرى على صورة جميلة إن كان العملُ صالحاً.
الثاني: قال ابن الخطيب: وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كلّ موجود يَرَى الله والله قادر على إعادة كل ما عُدِمَ فبعد الفعل فيرى. ووجه آخر وهو أن ذلك مجاز عن الثواب كقولك: "سترى إحسانك" أي جزاءه. وفيه نظر؛ لقوله بعد ذلك: { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ }.
قوله: "ثُمَّ يُجْزَاهُ" يجوز في الضمير وجهان:
أظهرهما: أن الضمير المرفوع يعود على الإنسان والمنصوب يعود على "سَعْيهُ" والجزاء مصدر مبيِّن للنوع.
والثاني: قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله: "الجَزَاءَ"، أو أبدله منه كقوله:
{ { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأنبياء: 3].
قال أبو حيان: وإذا كان تفسيراً للضمير المنصوب في "يُجْزَاهُ" فعلى ماذا يَنْتَصِبُ؟ وأما إذا كان بدلاً فهو من بدل الظاهر من المُضْمَر. وهو مسألة خلاف. والصحيح المنعُ.
قال شهاب الدين: العجب كيف يقول: فعلى ماذا ينتصب؟ وانتصابه من وجهين:
أظهرهما: أن يكون عطف بيان وعطف البَيَان يصدق عليه أنه مفسِّر. وهي عبارة شائعة.
الثاني: أن ينتصب بإضمار "أعْني" وهي عبارة شائعة أيضاً يسمون مثل ذلك تفسيراً.
وقد منع أبو البقاء أن ينتصب "الجَزَاءَ الأَوْفَى" على المصدر فقال: "الجَزَاءَ الأَوْفَى" هو مفعول "يُجْزَاهُ" وليس بمصدر؛ لأنه وصفه بالأَوْفَى وذلك من صفة المجزيّ به لا من صفة الفِعْلِ.
قال شهاب الدين: وهذا لا يبعد عن الغَلَط؛ لأنه يلزم أن يتعدى "يُجْزَى" إلى ثلاثة مفاعيل؛ لأن الأول قام مقام الفاعل والثاني "الهاء" التي هي ضمير السعي، والثالث "الجزاء الأوفى". وأيضاً فكيف ينتظم المعنى؟ وقد يجاب عنه بأنّه أراد أنه بدل من الهاء، كما تقدَّم عن الزمخشَريِّ.
ويصح أن يقال: هو مفعول "يُجْزَاه" فلا يتعدى لثلاثة حينئذ إلا أنه بعيدٌ عن غرضِهِ. ومثل هذا إلْغَازٌ.
وأما قوله: "وَالأَوْفَى ليس من صفات الفعل" ممنوعٌ، بل هو من صفاته مجازاً، كما يوصف المجزيّ به مجازاً فإن الحقيقة في كليها منتفيةٌ وإنما المتصف به حقيقة المجازى.
وقال ابن الخطيب: والجزاء يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى:
{ { وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } [الإنسان: 12] ويقال جزاك الله خيراً، ويتعدى إلى ثلاثة مفاعيل بحرف الجر، فيقال: جَزَاهُ الخَيْرَ عَلَى عَمَله الجَنَّة، وقد يحذف الجار ويوصل الفعل، فيقال: جَزَاهُ الخَيْرَ عَمَلَه الجَنَّة.
فصل
والمُرَادُ بالجَزَاء الأوفى: الأكمل والأتمَّ أي يُجْزَى الإِنسانُ سَعْيَهُ؛ يقال: جَزَيْتُ فلاناً سَعْيَهُ وبِسَعْيِهِ قال الشاعر:

4567- إنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ لَمْ أَجْزِهِ بِبَلاَءِ يَوْمٍ وَاحِدِ

فجمع بين اللغتين.
قال ابن الخطيب: والجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين؛ لأن جزاء الصالح وافرٌ، قال تعالى:
{ { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [الإسراء: 63] وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام، فهي في نفسها أوفى. فإن قيل: "ثُمَّ" لتراخي الجزاء أو لتراخي الكلام أي ثم نقول يُجْزَاهُ؟ فإن تكان لتراخي الجزاء فكيف يُؤَخَّر الجزاء عن الصالح وقد قلت: إن الظاهر أن المراد منه الصالحون؟!.
نقول: الوجهان محتملان وجواب السؤال أن الوصف بالأوفى يدفع ما ذكرت؛ لأن الله تعالى من أوّل زمان يتوبُ الصالح يجزيه خيراً ويؤخِّر له الجزاء الأوفى وهي الجنَّة.
أو نقول: الأوفى إشارة إلى الزيادة فصار كقوله تعالى:
{ { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ } [يونس: 26] وهي الجنة { { وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] وهي الرؤية، فكأنه تعالى قال: وأنَّ سعيه سوف يرى ثم يرزقُ الرؤيةَ. وهذا الوجه يليق بتفسير اللفظ، فإن الأوفى مطلقٌ غير مبيّن، فلم يقل: أوفى من كذا فينبغي أن يكون أوفى من كل وافٍ ولا يتصف به غير رؤية الله تعالى.
فصل
قال في حق المسيء: لاَ تزِرُ وَازِرَةٌ (وِزْرَ أُخْرَى) وهو لا يدل إلا على عدم الحمل عن الوَازرة، ولا يلزم من ذلك بقاء الوِزر عليها من ضَرُورة اللفظ؛ لجواز أن يسقط عنها، ويمحو الله ذلك الوِزر، فلا يبقى عليها ولا يحمل عنها غيرُها، ولو قال: لا تَزِرُ (وَازِرَةٌ) إلا وزر نفسها لكان من ضرورة الاستثناء أنها تزر. وقال في حق المحسن: { لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } ولم يقل: ليس له ما لم يَسْعَ؛ لأن العبارة الثانية ليس فيها أن له ما سعى وفي العبارة الأولى أن له ما سعى نظراً إلى الاستثناء فقال في حق المسيء بعبارة لا تقطع رجاءَه، وفي حق المحسن بعبارة تقطع خوفه، وكل ذلك إشارةٌ إلى سَبْق الرحمةِ الغَضَبَ.
قوله [تَعَالَى:] { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } العامة على فتح همزة "أَنَّ" وما عطف عليها بمعنى أن الجميع في صحف مُوسَى وإِبْرَاهِيمَ.
وقرأ أبو السَّمَّال بالكسر في الجميع على الابتداء ومعنى الآية: إن منتهى الخَلْق ومصيرَهم إليه فيجازيهم بأعمالهم. وقيل: منه ابتداء المنَّة وإليه انتهاء الآمَال. وروى أو هريرةَ مرفوعاً: تَفَكَّرُوا فِي الخَلْق وَلاَ تَفَكَّرُوا في الخَالِقِ، فَإن اللَّه لاَ يُحِيطُ بِهِ الفِكْرُ.
قال القرطبيُّ: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام:
"يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ ولْيَنْتَهِ" . ولهذا أحسن من قال (رحمة الله عليه ورضاه) (شعْراً):

4568- وَلاَ تُفَكِّرَنْ فِي ذَا العُلاَ عَزَّ وَجْهُهُ فَإِنَّكَ تُرْدَى إنْ فَعَلْتَ وتُخْذَلُ
وَدُونَكَ مَصْنُوعاتِهِ فَاعْتَبِرْ بِها وَقُلْ مِثْلَ مَا قَالَ الخَلِيلُ المُبَجَّلُ

وقيل: المراد من هذه الآية التوحيد.
وفي المخاطب وجهان:
أحدهما: أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل.
والثاني: أنه خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الأولى يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسليةً لقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فعلى الأولى أيضاً تكون اللام في "المُنْتَهَى" للعهد الموعود في القرآنِ.
وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كُلُّ مُنْتَهى.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه يكون مُنْتَهًى، وعلى الأول يكون "مُبْتدًى".
فالجواب: منتهى الإدراكاتِ والمُدْرَكَاتِ فإن الإنسان أولاً يُدْرِك الأشياء الظاهرة ثم يُمْعِنُ النظر فينتهي إلى الله فيقف عنده.
قوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } (أضحك وأبكى) ما بعده هذا يسميه البيانيون الطِّباق والتضاد وهو نوع من البديع، وهو أن يذكر ضِدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه.
و "أَضْحَك وَأَبْكَى" لا مفعول لهما في هذا الموضع؛ لأنها مسوقة لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور، فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل: فُلاَنٌ بِيَدِهِ الأخذُ والعَطَاءُ يُعْطِي ويمنع ولا يريد ممنوعاً ومُعْطًى.
فصل
اختار هذين الوصفين المذكورين لأنهما أمران لا يُعَلَّلان، فلا يقدر أحد من الطَّبِيعِيّينَ أن يُبْدِيَ في اختصاص الإنسان بالضَّحكِ والبكاء وجهاً وسبباً وإذا لم يعلل بأمر، فلا بد له من موجد فهو الله بخلاف الصِّحة والسَّقَم، فإِنهم يقولون: سببهما اعتلالُ المِزاج وخروجُه عن الاعْتِدَال.
ومما يدل على ما ذكرنا أنهم عللوا الضحك قالوا: لقوة التعجب وهو باطل، لأن الإنسان ربما يبهت عند رؤية الأمور العَجِيبة ولا يضحك. وقيل: لقوة الفرح؛ وليس كذلك؛ لأن الإنسان قد يبكي لقوة الفرح كما قال بعضهم (شعراً)

4569- هَجَمَ السُّرُورُ عَليَّ حَتَّى إنَّنِي مِنْ عِظَمِ ما قَدْ سَرَّنِي أَبْكَانِي

وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ.
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب.
فصل
إِذا قيل: بأن المراد بقوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يقول: بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول: بأنه موجب لا قادر فقال تعالى: هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي، والموت والحياة، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل.
وإن قيل: بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة.
فصل
هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي: أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرضَ بالنبات، وأبكى السماءَ بالمَطَر، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء.
فصل
"روى مسلمٌ عن عائشةَ - (رضي الله عنها) - قالت: والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله، ولكنه قال: إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً، وإن الله لهو أضحك وبكى، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى" .
وعنها قالت: "مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أصحابه وهم يضحكون فقال: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد: إن الله يقول لك: إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال: إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول: هُوَ أضحك وأبكى" أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء.
وقال بَسَّامُ بن عبد الله: أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [رحمه الله]:

4570- السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ

قيل: إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات. وقيل: إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المَقْدِسيُّ: أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ؟ فقال: ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ.
قوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي أمات في الدُّنْيَا، وأحيا للبعث. وقال القرطبي: قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خَلَقَ الموت والحياة. قاله ابن بحر. وقيل: أمات النُّطْفَة وأحيا النَّسمة، وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: أمات الكافر بالكفر، وأحيا المؤمن بالإيمان.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: معنى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت؟.
نقول: فيه وجوه:
أحدها: أنه على التقديم والتأخير كأنه قال: أَحْيَا وَأَمَاتَ.
ثانيها: هو بمعنى المستقبل، فإن الأمرَ قريبُ المُسْتَقْبل، يقال: كَأنّ فلاناً وصل والليلُ دَخَلَ، إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة.
ثالثها: أنه خلق الموت والجمود في العَنَاصر ثم ركَّبها و "أَحْيَا" أي خلق الحِسَّ والحركة فيها.
قوله: { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } أي من كل حيوان. ولم يرد آدمَ وحوّاء؛ لأنهما ما خُلقا من نطفة. وهذا أيضاً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم الطَّبِيعِيّ، والذي يقولونه من البرد والرطوبة في الأنثى فرُبَّ امرأةٍ أحر وأَيْبَسُ مزاجاً من الرّجُل.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: { وَأَنَّهُ خَلَقَ } ولم يقل: "وأَنَّهُ هُوَ خَلَقَ" كما قال: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ }؟
فالجواب: أن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنه بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد لكن ربما يقول به جَاهلٌ كما قال من حَاجَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام
{ { قَالَ أَنَاْ أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [البقرة: 258] فأكد ذلك بالفصل. وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحدٌ أنه بفعل واحدٍ من الناس، فلم يؤكد بالفصل، ألا ترى إلى قوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } حيث كان الإغناء عندهم غيرَ مسند إلى الله، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون: { { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [القصص: 78] وكذلك قال: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
واختلفوا في الذكر والأنثى هل هما اسمان وهما صفةٌ؟ أو اسمان ليسا بصفة؟ فالمشهور عند أهل اللغة أنهما اسمان ليسا بصفةٍ.
قال ابن الخطيب: والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات فالذكر كالحَسَنِ، والأنثى كالحُبْلَى والكُبْرَى.
قوله: { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } أي تُصَبُّ في الرَّحِمِ؛ يُقَالُ: مَنَى الرَّجُلُ وأمْنَى. قاله الضحاك وعطاء بن أبي رباح.
وقيل: تقدر، يقال: مَنَيْتُ الشَّيْءَ إذا قَدَّرْتهُ. وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة، لأن النطفة جسم متناسب الأجزاء يخلق اللَّهُ منها أعضاء مختلفةً، وطباعاً متباينةً، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون، ولهذا لم يَقْدِرِ أحد على أن يَدَّعِيَهُ كما لم يَقْدِر على أن يَدَّعِيَ خلق السموات، ولهذا قال تعالى:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25].
قوله: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة. قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد من قوله: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } هو نفخ الروح الإنسانية فيه كما قال تعالى:
{ { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [المؤمنون: 13 و 14] أي غير خلق النطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاماً. وبهذا الخلق الآخر وهو نفخ الروح تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات فكما قال هناك: { أنشأناه خلقاً آخر } بعد خلق النطفة قال ههنا: { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } فجعل خلق الروح نشأةً أخرى كما جَعَلَه هناك إِنشاءً آخَرَ.
فإن قيل: الإعادة لا تجب على الله، فما معنى قوله تعالى: "وأنَّ عَلَيْهِ"؟
فالجواب على مذهب المعتزلة يجب عليه عقلاً، فإن الجزاء واجب، وذلك لا يتم إلا بالحشر فتجب الإعادة عليه عقلاً، وأما على مذهب أهب السنة ففيه وجهان:
الأول: "عَلَيْهِ" بحكم الوعد، فإنه قال:
{ { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ } [يس: 12] "فَعَلَيْهِ" بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشَّرْع.
الثاني: "عليه" بحكم التعيين، فإن من حَضَرَ بين جمع وحاولوا أمراً وعجزوا عنه، يقال له: وَجَبَ عَلَيْكَ إِذَنْ أنْ تَفْعَلَه أي تَعَيَّنْتَ لَهُ.
فصل
قرىء النَّشْأَةَ على أنه مصدر كالضَّرْبَةِ على وزن فَعْلَةٍ وهي المَرَّة يقال: ضَرْبَةٌ وضَرْبَتَانِ يعني النشأة مرة أخرى عليه. وقرىء النَّشاءة - بالمد - على أنه مصدر على وزن فَعَالَةٍ، كالكَفَالَةِ. وكيفما قُرِىءَ فهي من "نَشَأَ"، وهو لازمٌ.
قوله: { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } قال أبو صالح: "أغنى" الناسَ بالأَمْوَالِ "وأقنى" أعطى القُنيَةَ وأصول الأموال وما يَدَّخِرُونَه بعد الكِفاية.
وقال الضحاك: "أغنى" بالذهب والفضة، وصنوف الأموال، "وأقنى" بالإبل والبَقَر والغنم، وقال الحسن وقتادة: أخْدَمَ. وقال ابن عباس - (رضي الله عنهما) أغْنَى وأَقْنَى أَعْطَى فَأَرْضَى. وقال مجاهد ومقاتل: أرضى بما أعطى وقنع. وقال الراغب: وتحقيقه أنه جعل له قنيةً من الرِّضا. وقال سُلَيْمَان التَّيْميّ: أغنى نفسه وأفقر خلقه إِليه. وقال ابن زيد: "أغنى" أكثر "وأقنى" أقلَّ، وقرأ:
{ { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الإسراء: 30].
وقال الأخفش: "أقنى": أفقر. وقال ابن كيسان: أوْلَدَ. قال الزمخشري: "أقنى" أعطى القُنْيَةَ، وهي المال الذي تأثَّلْته وعزمت أن لا يخرج من يدك. وقال الجَوْهَرِيُّ: "قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنًى" مثل "غَنِيَ يَغْنَى غِنًى"، ثم يتعدى بتغيير الحركة فيقال: قَنيتُ مالاً أي كَسَبْتُهُ، وهو نظير: شَتِرَتْ عَيْنُه - بالكسر - وشَتَرَها اللَّهُ - بالفتح - فإذا أدخلت عليه الهمزة أو التضعيف اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال: أَقْنَاهُ اللَّهُ مالاً، وقناه إياه أي أكْسَبَهُ إيَّاه، قال الشاعر:

4571- كَمْ مِنْ غَنِيٍّ أَصَابَ الدَّهْرُ ثَرْوَتَهُ وَمِنْ فَقِيرٍ تَقَنَّى بَعْدَ إِقْلاَلِ

أي تقنى مالاً، فحذف (المفعول الثاني). وحذف مفعولا "أغنى وأقنى"؛ لأن المراد نسبةُ هذيْنِ الفعلين إليه وحْدَهُ، وكذلك في باقيها، وألف "أقنى" عن ياءٍ، لأنه من القِنْية؛ قال:

4572- ألاَ إنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قِنْيَةً

ويقال: قَنِيتُ كَذَا وأَقْنَيْتُهُ، قال:

4573-.............................. قَنِيتُ حَيَائِي عِفَّةً وتَكَرُّمَا

قوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } والشِّعْرَى في لسان العرب كوكبان يسمى أحدهما الشعرى العبور وهو المراد في الآية الكريمة، فإِنَّ خُزَاعَةَ كانت تعبدها، وسن عبادتها أبو كبشة رجلٌ من سادتهم فعبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عَرْضاً والشِّعْرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدتها خُزَاعَةُ وحِميرُ وأبو كبشة أحد أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبَل أمهاته، وبذلك كان مشركو قريش يُسمونَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابن أبي كبشة حين دعا إلى الله، وخالف أدْيَانَهُمْ، فكانت قريشٌ تقولُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابْنَ أبي كبشة تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحْدَثَ ديناً غيرَ دِينهِمْ.
والشِّعرى العبور تطلع بعد الجوْزَاء في شدة الحر ويقال لها: مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار، ويسمى الشعرى اليمانية والثاني الشعرى الغُمَيْصَاء، وهي التي في الذّراع والمجرة بينهما وتسمى الشامية، وسبب تسميها بالغميصاء - على ما زعمت العرب في بعض خرافاتها - أنهما كانتا أختين لسُهَيْل فانحدر سُهَيْلٌ إلى اليمن فاتبعته الشّعرى العَبُور فعبرت المجرة فسُمِّيَت العبور، وأقامت الغميصاءُ تبكي لفَقْدِهِ، حتى غمصت عينها، ولذلك كانت أخفى من العبور. وقد كان من لا يعبد الشِّعرى من العرب يعلمها ويعتقد تأثيرها في العالم قال:

4574- مَضَى أَيْلُولُ وَارْتَفَعَ الحَرُورُ وَأَخْبَتْ نَارَها الشِّعْرَى العَبُورُ

فصل
وهذا الآية إشارة إلى فساده قولِ قوم آخرين؛ لأن بعض الناس يذهب إلى أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده، فمن كسب استغنَى، ومن كسل افْتَقَرَ، وبعضهم يذهب إلى أن ذلك بسبب الطالع وذلك بالنجوم فقال: هو أغنى وأقنى وإن قال قائل: إن الغنى بالنجوم فيقال: هو رَبّ النجوم ومُحَرِّكُها لقوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } لإنكارهم ذلك أُكِّد بالفصل.
قوله: { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } اعلم أن هذه الآية الكريمة من أشكل الآيات نقلاً وتوجيهاً.
قال شهاب الدين (رحمه الله): وَقَد يَسَّرَ الله تعالى تحرير ذلك بحَوْله وقوّته فأقول: إن القراء اختلفوا في ذلك على أربع رتب:
إِحْدَاها: قرأ ابن كثير وابنُ عامر والكوفيون "عَادٍ الأُولَى" بالتنوين مكسوراً وسكون اللام وتحقيق الهمزة بعدها. هذا كله في الوصل، فإِذا وقفوا على "عَادٍ" ابتدأوا بـ "الأولى" فقياسهم أن يقولوا الأولى بهمزة الوصل وسكون اللام وتحقيق الهمزة.
الثانية: قرأ قالون: عَاداً لُّؤْلَى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وهمز الواو هذا في الوصل، وأما في الابتداء بـ "الأولى" فله ثلاثة أوجه:
الأول: الُؤْلَى - بهزة وصل ثم بلام مضمومة ثم بهمزة ساكنة.
الثاني: لُؤْلَى - بلام مضمومة، ثم بهمزة ساكنة.
الثالث: كابتداء ابن كثير ومن معه.
الثالثة: قرأ ورشٌ عاداً لُّولى بإدغام التنوين في اللام ونقل حركة الهمزة إليها كقالون، إلا أنه أبقى الواو على حالها غير مبدلةٍ همزةً. هذا (كله) في الوصل وأما في الابتداء فله وجهان الُؤْلَى بالهمزة والنقل، ولُولَى بالنقل دون همزة وصل. والواو ساكنة على حالها في هذين الوجهين.
الرابعة: قرأ أبو عمرو كورشٍ وصلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ إلاّ أنه يزيد عليه في الابتداء بوجه ثالث وهو وجه ابن كثير وَمَنْ مَعَهُ.
فقد تحصل أن لكل من قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ وأن لورشٍ وَجْهَيْنِ؛ فتأمل ذلك، فإنَّ تحريره ضعيفُ المأخذ من كتب القراءات.
وأما توجيهها فيتوقف على معرفة ثلاثة أصول:
الأول: حكم التنوين إذا وقع بعده ساكن.
الثاني: حكم حركة النقل.
الثالث: أصل "أولى" ما هو.
أما الأول فحكم التنوين الملاقي أن يكسر لالتقاء الساكنين نحو: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٍ اللَّهُ } [الإخلاص: 1 - 2] أو يحذف تشبيهاً بحرف العلة كقراءة: { أَحدُ اللَّهُ الصَّمَدُ } وكَقَوْلِهِ:

4574- وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ

وهو قليل جداً. وقد مضى تحقيقه.
وأما الثاني: فإن للعرب في الحركة المنقولة مذهبين الاعتداد بالحركة، وعدم الاعتداد بها وهي اللغة الغالبة.
وأما الثالث: فأُولَى تأنيث "أَوَّل". وقد تقدم الخلاف في أصله في: "أَوَّل" فليُلْتَفَتْ إليه.
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة فأقول:
أما قراءة ابن كثير ومن معه فإنهم صرفوا "عاداً" إمّا لأنه اسم للحيّ أو الأب فليس فيه ما يمنعه، وإمَّا لأنه وإن كان مؤنثاً اسماً للقبيلة أو الأم إلا أنه مثل هنْد ودَعْد، فيجوز فيه الصرف وعدمه فيكون كقوله:

4576- لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزرِهَا دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ فِي العُلَبِ

فصرفها أولاً ومنعها ثانياً.
ولم ينقلوا حركة الهمزة إلى لام التعريف فالتقى ساكنان فكسروا التنوينَ لالتقائهما على ما هو المعروف من اللّغتين. وحذفوا همزة الوصل من الأولى للاستغناء عنها بحركة التنوين وصلاً، فإذا ابتدأوا بها احتاجوا إلى همزة الوصل فأتوا بها، فقالوا "الاولى" كنظيرها من همزات الوصل، وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الْغَفيرُ.
وأما قراءة من أدغم التنوين في لام التعريف - وهما نافع وأبو عمرو - مع اختلافهما في أشياء كما تقدم فوجهه الاعتدادُ بحركة النقل، وذلك أن من العرب من إذا نقل حركة الهمزة إلى ساكن قبلها كَلاَم التعريف عَامَلَها مُعَامَلَتَها ساكنةً، ولا يعتدُّ بحركة النقل فيكسر الساكن الواقع قبلها، ولا يُدْغِم فيها التنوين ويأتي قبلها بهمزة الوصل فيقول: لَمْ يَذْهَب الْحَمَرُ، ورأيت زياداً الْعَجَمَ من غير إدغام التنوين، والحمر والعجم بهمزة الوصل؛ لأن اللام في حكم السكون، وهذه هي اللغة المشهورة. ومنهم من يعتدّ بها فلا يكسر الساكن الأول ولا يأتي بهمزة الوصل ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقول: لم يذهبْ لحمرُ - بسكون الباء - "ولحمر ولعجم" من غير همز، وزياد لَّعْجعم بتشديد اللام وعلى هذه اللغة جاءت هذه القراءةُ.
هذا من حيث الإجمال وأما من حيث التفصيل فأقول:
أما قالونُ فإنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإن لم يكن من أصله النقل لأجل قصده التخفيف بالإدْغَام ولما نقل الحركة اعتدَّ بها؛ إذ لا يمكن الإدغام في ساكن ولا ما هو في حكمه.
وأما همزة الواو ففيها وجهان منقولان:
أحدهما: أن يكون "أولى" أصلها عنده وُؤْلَى من وَأَلَ أي نَجَا كما هو قول الكوفيين، ثم أبدل الواو الأولى همزة، لأنها واو مضمومة وقد تقدم أنها لغة مُطَّرِدَة. فاجتمع همزتان ثانيهما ساكنة فوجب قلبها واواً نحو: أومِنُ، فلما حذفت الهمزة الأولى بسبب نقل حركتها رجعت الثانية إلى أصلها من الهمز؛ لأنها إنما قلبت واواً من أجل الأولى وقد زالت. وهذا تكلف لا دليل عليه.
والثاني: أنه لما نقل الحركة إلى اللام صارت الضّمة قبل الواو كأنها عليهما؛ لأن حركة الحرف بين يديه فأبدل الواو همزة كقوله:

4577- أَحَبُّ المُؤقِدَيْنِ إلَيَّ مُؤْسَى

وكقراءة "يُؤقِنُونَ" وهمزة { السُّؤْقِ } [ص: 33] و{ سُؤْقِهِ } [الفتح: 29] كما تقدم تحريره. وهذا بناء منه على الاعتداد بالحركة أيضاً. وليس في هذا الوجه دليلٌ على أصل "أولى" عنده ما هو فيحتمل الخلاف المذكور جميعه.
وأما ابتداؤه الكلمة من غير نَقْل، فإنه الأصل، ولأنه إنما ثقل في الوصل لقصده التخفيف بالإدغام ولا إدغام في الابتداء فلا حاجة إلى النقل، ولأنه إنما ثقل في الوصل وأما الابتداء بالنقل فلأنه محمول على الوصل ليجري اللفظ فيهما على سَنَنٍ واحد.
وعلة إثبات ألف الوصل مع النقل في أحدِ وَجْهَيْنِ:
ترك الاعتداد بحركة اللام على ما هي عليه القراءة في نظائره مما وجد فيه النقل؛ إذ الغرض إنما هو جَرْي اللفظ في الابتداء والوصل على سَنَنٍ واحد وذلك يحصل بمجرد النقل وإن اختلفا في تقدير الاعتداد بالحركة وتركه. وعلة ترك الإتيان بألف في الوجه الثاني حمل الابتداء على الوصل في النقل والاعتداد بالحركة جميعاً ويقوِّي هذا الوجه رسمُ (الأولى) في هذا الموضع بغير ألف. والكلام في همز الواو مع النقل في الابتداء كالكلام عليه في الوصل كما تقدم.
وأما ورش فإن أصله أن ينقل حركة الهمزة على اللام في الوصل فنقل على أصله إلا أنه اعتد بالحركة ليصح ما قصده من التخفيف بالإدغام وليس من أصله الاعتداد بالحركة في نحو ذلك، ألا ترى أنه يحذف الألف في (سِيرَتِهَا الأولَى) [و] { وَيَتَجنُبهَا الأَشْقَى } [الأعلى:11] ولو اعتد بالحركة لم يحْذِفْهَا.
وأما ما جاز عنه في بعض الروايات: { قالوا لاَنَ جِئْتَ } [البقرة: 71]؛ فإنه وجه نادرٌ ومُعَلَّل باتِّباع الأثر والجمع بين اللغتين والابتداء له بالنقل على أصله في ذلك أيضاً والابتداء له بألف الوصل على ترك الاعتداد بالحركة إذْ لا حاجةَ إلى قصد ذلك في الابتداء وترك الإتيان له بالألف على الاعتداد له بالحركة حملاً للابتداء على الوصل وموافقة الرسم أيضاً ولا يبتدأ له بالأصل؛ إذ ليس من أصله ذلك، و "الأولى" في قراءته تحتمل الخلاف المذكور في أصلها.
وأما قراءة أبي عمرو فالعلة له في قوله في الوصل والابتداء كالعلة المتقدمة لقالونَ، إلا أنه يخالفه في همز الواو؛ لأنه لم يعطِها حكم ما جاورها، فليست عنده من "وَأَلَ" بل من غير هذا الوجه كما تقدم الخلاف في أول هذا الكتاب، ويجوز أن يكون أصلها عنده من "وَأَلَ" أيضاً، إلا أنه أبدل في حال النقل مبالغةً في التخفيف أو موافقة لحال ترك النقل.
وقد عاب هذه القراءة - أعني قراءةَ الإدْغَام - أبو عثمانَ وأبو العباس ذهاباً منهما إلى أن اللغة الفصيحة عدم الاعتداد بالعارض، ولكن لا التفات إلى ردِّها لثُبُوت ذلك لغةً وقراءةً وإن كان غيرها أفصح منها وقد ثبت عن العرب أنهم يقولون الَحْمَرَ ولَحْمَر بهمزة الوصل وعدمها مع النقل والله أعلم.
وقرأ أبيّ - وهِيَ في حَرْفِهِ - "عَادَ الأُولى" غير مصروف ذهاباً به إلى القبيلة أو الأم كما تقدم؛ ففيه العلمية والتأنيث، ويدل على التأنيث قوله "الأُولى" فوصفها بوصف المؤنث.
فصل
عاد الأولى هم قوم هود أهلكوا بريح صَرْصَر، وكان لهم عقب فكانوا عاداً الأخرى. قال القرطبي: سماها الأولى، لأنهم كانوا قبل ثمود. وقيل: إنّ ثمود من قبل عاد. وقال ابن زيد: قيل لها عاد الأولى لأنها أول أمة أهلكت بعد نوح - عليه الصلاة والسلام -. وقال ابن إسحاق: هما عَادانِ، فالأولى أهلكت بالريح الصرصر، ثم كانت الآخرة وأهلكت بصيحة. وقيل: عاد الأولى هي عاد بن إرَم بن عوص بن سام بن نوح وعاد الثانية من ولد عاد الأولى، والمعنى متقارب. وقيل: إن عاداً الآخرة هم الجبَّارون. وهم قوم هود.
قوله: { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } قد تقدم الخلاف في "ثَمُود" بالنسبة إلى الصرف وعدمه في سورة "هود". وفي انتصابه هنا وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على "عَاداً".
والثاني: أنه منصوب بالفعل المقدر أي "وَأَهْلَكَ". قاله أبو البقاء، وبه بدأ. ولا يجوز أن ينتصب بـ "أَبْقَى" لأن ما بعد "ما" الثانية لا يعمل فيها قَبْلَهَا، والظاهر أنّ متعلق "أبقى" عائد على من تقدم من عادٍ وثمود أي فما أبقى عليهم - أي على عادٍ وثمود - أو يكون التقدير: فما أبقى منهم أحداً، ولا عيناً تَطْرِفُ. ويؤيد هذا قوله:
{ { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [الحاقة: 8].
قوله: "وَقَوْمَ نُوحٍ" كالذي قبله و "مِنْ قَبْلُ" أي من قبل عادٍ وثمودَ.
وقوله: "إنَّهُمْ" يحتمل أن يكون الضمير لقوم نوح خاصةً، وأن يكون لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة.
قوله: "كانوا هم" يجوز في "هم" أن يكون تأكيداً، وأن يكون فصلاً. ويضعف أن يكون بدلاً. والمفضل عليه محذوف تقديره: من عادٍ وثمودَ على قولنا: إن الضمير لقوم نوح خاصةً، وعلى القول بأن الضمير للكل يكون التقدير: من غَيْرِهم من مُشْرِكي العَرَب، وإن قلنا: إن الضمير لقوم نوح خاصة والمعنى أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأطْغَى لطول دعوة نوح إياهم وعُتُوِّهِمْ على الله بالمعصية والتكذيب وهم الباقون بالظلم والمتقدمون فيه ومن سن سنة سيئة فعليه وِزْرها ووزرُ من عمل بها والبادىء أظلم وأما أطغى فلأنهم سمعوا المواعظ وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم ولا يدعو نبي على قومه إلا بَعْدَ الإصرار العظيم والظالم واضع الشيء في غير موضعه، والطَّاغِي المجاوز للْحَدِّ.
فإن قيل: المراد من الآية تخويف الظالم بالهلاك، فإذا قيل: إنهم كانوا في غايةِ الظلم والطُّغْيَان فأهلكوا (ويقول الظالم: هم كانوا أظلم فأهلكوا) لمبالغتهم في الظلم ونحن ما بالغنا، فلا نهلك، فلو قال: أهلكوا لظلمهم لخاف كل ظالم فما الفائدة في قوله: أظلم؟
فالجواب: أن المقصود بيان (شِدَّتِهِمْ) وقوة أجسامهم، فإنهم لم يقدموا على الظلم والطُّغْيَان الشديد إلا بتماديهم وطول أعمارهم ومع ذلك ما نجا أحدٌ منهم فما حال من هو دونهم في العمر. رُوِيَ أن الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه ينطلق به إلى قوم نوحٍ - عليه الصلاة والسلام - يقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه.
قوله: "وَالمُؤْتَفِكَةَ" منصوب بـ "أَهْوَى"؛ وقدم لأجل الفواصل. والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط "أَهْوَى" أسقط، أي أهواها جبريلُ - صلى الله عليه وسلم - بعد ما رفعها إلى السماء.
قوله: "فَغَشَّاهَا" أي ألْبَسَهَا الله "ما غشى" يعني الحجارة المصورة المسوَّمة. وقوله "مَا غَشَّى" كقوله "مَا أَوْحَى" في الإبهام وهو المفعول الثاني إن قلنا: إن التضعيف للتعدية، وإن قلنا: إنه للمبالغة والتكثير فتكون "ما" فاعله كقوله:
{ { فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78] والمؤتفكة المنقلبة. وقرىء: والْمُؤْتَفِكَاتُ.
فإن قيل: إذا كان معنى "المؤتفكة" المنقلبة ومعنى "أهوى" قلبها فيكون المعنى والمنقلبة قلبها وقلب المنقلبة تحصيل حاصل.
فالجواب: أن معناه المنقلبة ما انقلبت بنفسها بل الله قَلَبَها فانْقَلَبَتْ.
قوله: "فبأي" متعلق بـ "تتمارَى" والباء ظرفية بمعنى "فِي" والآلاء النعم واحدها إلْي وإلى وأَلاً.
والمعنى فبأي نعم ربك تشك، وقرأ ابن مُحَيْصِن ويعقوب: "تَمَارَى" بالحذف كقوله: "تَذَكَّرُونَ".
فصل
قيل: هذا أيضاً مما في الصحف. وقيل: هو ابتداء لكلام، والخطاب عام، والمعنى فبأي آلاء أي نعم ربك أيها الإنسان تتمارى تشك وتجادل. وقال ابن عباس (رضي الله عنهما): تكذب. وقيل: هذا خطاب مع الكافر.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقال: كيف يجوز أن يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - تتمارى؟ لأنا نقول: هو من باب:
{ { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر: 65] يعني لم يبق فيه إمكان الشك حتى أنّ فارضاً لو فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يشك أو يجادل في بعض الأمور الخفية لما كان يمكنه المراءُ في نعم الله تعالى. والصحيح العموم كقوله تعالى: { { يَٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [الانفطار: 6] وقوله: { { وَكَانَ ٱلإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } [الكهف: 54].