التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ
٥٦
أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ
٥٧
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ
٥٨
-النجم

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "هَذَا نَذِيرٌ" إشارة إلى ما تقدم من الآي، وأخبار المهلكين. وقيل: أي القرآن. قال ابن الخطيب: وهذا بعيد لفظاً ومعنى؛ أما معنى فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى، لأنه معجزة، وتلك لم تكن معجزة، وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون هذا يبقى على حقيقة التبعيض، أي هذا الذي ذكرناه بعض ما جرى أو يكون لابتداء الغاية أي هذا إنذار من المنذرين المتقدمين؛ يقال: هذا الكتاب وهذا الكلام مِنْ فُلاَن.
وقيل: إشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي هذا النذير من جنس النذر الأولى أي رسول من الرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم.
وقوله: "نذير" يجوز أن يكون مصدراً، وأن يكون اسمَ فاعل وكلاهما لا ينقاس، بل القياس في مصدره إنذار، وفي اسم فاعله مُنْذِر. والنُّذُر يجوز أن يكون جمعاً لنذير بمعنييه المذكورين، و "الأُوْلَى" صفة حملاً على معنى الجماعة كقوله:
{ { مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18].
قوله: "أَزفَت الآزِفَةُ" دَنَتِ الْقِيَامَةُ، واقتربت، والتقدير: الساعة الآزفة، كقوله:
{ { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر: 1] ويجوز أن تكون الآزفة على القيامة بالغَلَبَةِ.
قال ابن الخطيب: قوله "أَزِفَتِ الآزِفَةُ" كقوله تعالى:
{ { وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [الواقعة: 1]. ويقال: كانت الكائنةُ. وهَذَا الاستعمال على وجهين:
الأول: إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل، ثم فعله مرةً أخرى، يقال: فعله الفاعل كقوله: حَاكَه الحَائِكُ أي من شغله ذلك من قبل فعله.
الثاني: أن يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل، يقال: إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإذا غصب العين غاصبٌ ضَمِنَهُ، فقوله: أَزِفَت الآزِفَةُ يحتمل أن يكون من الأول أي قربت الساعة التي كل يوم تزداد قرباً فهي كائنة قريبة وزادت في القرب، ويحتمل أن يكون من الثاني كقوله: "وَقَعَت الْوَاقِعَةُ" أي قرب وقوعها. وفاعل أزفت في الحقيقة القيامة أو الساعة فكأنه قال: أزفت القيامة الآزفة أو السَّاعة الآزفة.
قال أبو زيد: قلت لأعرابيٍّ: مَا الْمُحْبَنْطِىءُ؟ قال: الْمُتَكَأْكىءُ، قلت: ما المتكأكىءُ؟ قال: الْمُتَآزِفُ؟ قلت: ما المتآزف؟ قال: أنْتَ أحْمَقُ وتركَنِي وَمَرَّ.
قوله: { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } يجوز أن يكون "كَاشِفَةٌ" وصفاً وأن يكون مصدراً، فإن كانت وصفاً احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف فقيل: تقديره: نَفْسٌ كَاشِفَةٌ أو حالٌ كَاشِفَةٌ.
فإن قيل: إذا قدرتها نفسٌ كاشفة، وقوله { مِن دُونِ ٱللَّهِ } استثناء على المشهور فيكون الله نفساً كاشفة؟
فالجواب من وجوه:
الأول: لا فساد في ذلك لقوله تعالى حكايةً عن عيسى - عليه الصلاة والسلام -
{ { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [المائدة: 116].
الثاني: ليس صريحاً في الاستثناء فيجوز أن لا يكون نفساً.
الثالث: الاستثناء الكاشف المُبَالِغ ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة كَرَاوية، وعَلاَّمَة ونَسَّابَة أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف.
وإن كانت مصدراً، فهي كالخَائِنَة والعَافِيَة والْعَاقِبَة، والمعنى ليس لها من دون الله كشفٌ أي لا يكشف عنها، ولا يظهرها غيره، فيكون من كشف الشيء أي عرف حقيقته، كقوله:
{ { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187] وإما من كشف الضر أي أزالهُ. والمعنى ليس لها من يزيلها ويردها إذا غَشِيَت الخَلْقَ أهْوالُها وشدائدُها لم يكشفها أحد عنهم غيره. وهذا قول عطاء وقتادة والضحاك. وتقدم الكلام على مادة "أَزِفَ" في غافر.
و "مِنْ" زائدة، تقديره ليس لها غيرُ الله كَاشفة، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه تقول: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ، ومَا جَاءنِي مِنْ أَحَدٍ، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير أي ليس لها من كاشفة دونَ الله فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف، ويحتمل أن تكون غير زائدة، والمعنى ليس لها في الوجود نفس تكشفها أي تخبر عنها كما هي من غير الله يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله كقولك: كَشَفْتُ الأَمْرَ مِنْ زَيْدٍ. و "دون" يكون بمعنى غير كقوله تعالى:
{ { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ ٱللَّهِ تُرِيدُونَ } [الصافات: 86] أي غير الله.