التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
١٨
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ
١٩
تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ
٢٠
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
٢١
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٢٢
-القمر

اللباب في علوم الكتاب

ذكر ههنا: { فكيف كان عذابي ونذر } مرتين، فالأول سؤال، كقول المعلم للمتعلم: كَيْفَ المَسْأَلَةُ الفُلاَنِيَّةُ؟ ثم بين فقال: "إِنَّا أَرْسَلْنَا"، والثاني بمعنى التعظيم والتهويل.
فإن قيل: قال في قوم نوح: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ولم يقل في عاد: كَذَّبَتْ قَوْمُ هُودٍ؛ لأن التعريف كلما أمكن أن يؤتى به على وجه أبلغ فالأولى أن يؤتى به والتعريف بالاسم العلم أقوى من التعريف بالإِضافة؛ لأنك إذا قلت: "بَيْتُ اللَّهِ" لا يفيد ما يفيد قولك: الكَعْبَةُ، وكذلك إذا قلت: رَسُولُ اللَّهِ وقلت: محمد "فَعَادٌ" اسم علمٍ للقوم.
ولا يقال: قَوْم هُودٍ أعرف لوجهين:
أحدهما: أن الله تعالى وصف عاداً بقوم هود في قوله:
{ { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [هود: 60] ولا يوصف الأظهر بالأخفى، والأخصُّ بالأعمِّ.
ثانيهما: أن قوم هو (واحد وعَادٌ قيل:) إنه لفظٌ يقع على أقوام، ولهذا قال تعالى:
{ { عَاداً ٱلأُولَىٰ } [النجم: 50] لأنا نقول: أما قوله تعالى: { { لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } [هود: 60] فليس ذلك صفة، وإنما هو بدل ويجوز في البدل أن يكون دون المُبْدَل (منه) في المعرفة، ويجوز أن يبدل من المعرفة بالنكرة. وأما عاداً الأولى فهو لبيان تقدمهم أي عاداً الذين تقدموا، وليس ذلك للتمييز والتعريف كما تقول: مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ شَفِيعِي واللَّهُ الكَرِيمُ رَبِّي وَرَبُّ الكَعْبَة المُشَرَّفَة، لبيان الشرف، لا لبيانها وتعريفها بالشرف كقولك: دَخَلتُ الدَّار المَعْمُورَة مِنَ الدَّارَيْنِ، وخَدَمْتُ الرَّجُلَ الزَّاهِدَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ؛ فتبين المقصود بالوصف.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: فكذبوا هوداً كما قال فكذبوا عَبْدَنَا؟.
فالجواب: إِما لأن تكذيب قوم نوح أبلغُ لطول مقامه فيهم وكثرة عِنَادِهِمْ، وإما لأن قصة عادٍ ذكرت مُخْتَصَرَةً.
قوله: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصَّرْصَرُ الشَّديدة الصَّوْت من صَرْصَرَ البابُ أو القَلَمُ إِذَا صَوَّت.
وقيل: الشديدة البرد من الصَّرِّ وهو البرد وهو كله أصول عند الجمهور.
وقال مكي: أصله "صَرَّراً" من صَرَّ الشيءُ إِذا صوت، لكن أبدلوا من الراء المشددة صاداً، وهذه أقوال الكُوفِيِّين. ومثله: كَبْكَبَ وكَفْكَفَ. وتقدم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها.
وقال ابن الخطيب: الصرصر هو الدائمة الهبوب من أَصَرَّ عَلَى الشَّيْءِ إِذا دَامَ وَثَبَت.
فصل
{ يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } شديد دائم الشُّؤم استمر عليهم بنُحُوسِهِ، ولم يُبْقِ منهم أحداً إِلا أهلكه. قيل: ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر.
فإن قيل: إذا كان يوم الأربعاء يَوْمَ نَحْسٍ مستمر فكيف يستجاب فيه الدعاء؟! وقد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استجيب له فيه فيما بين الظهر والعصر.
فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أتاني جبريل فقال: إنَّ اللَّهَ يأمرك أَنْ تَقْضِي مع الشاهد" وقال: يَوْمُ الأربعاء يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ. ومعلوم أنه لم يرد أنه نحس على المصلحين بل على المفسدين، كما كانت الأيام النحسات على الكُفار، لا على نبيهم والمؤمنين.
واعلم أنه تعالى قال ههنا: إِنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً وقال في الذاريات:
{ { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلرِّيحَ ٱلْعَقِيمَ } [الذاريات: 41] فعرَّف الريح هناك، ونكَّرَها ههنا؛ لأن العقم في الريح أظهر من البَرْد الذي يضرّ النبات أو الشدة التي تَعْصِفُ الأشجار، لأن الريح العقيم هي التي لا تُنْشِىء سحاباً، ولا تُلَقِّح شجراً وهي كثيرة الوقوع، وأما الريح المهلكة الباردة فقلما تُوجَد فقال: الريح العقيم أي هذا الجنس المعروف.
ثم زاده بياناً بقوله:
{ { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَٱلرَّمِيمِ } [الذاريات: 42] فتميزت عن الريح العقيم، وأما الصرصر فقليلة الوقوع فلا تكون مشهورة فنكَّرها.
قوله: { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } العامة على إضافة يَوْم إلى نَحْسٍ - بسكون الحاء - وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من إضافة الموصوف إلى صفته.
والثاني - وهو قول البصريين - أنه صفة لموصوف محذوف أي يوم عذاب نحس.
وقرأ الحسن - ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) بتَنْوِينه ووصفه بنَحْسٍ ولم يقيِّده الزمخشري بكسر الحاء. وقيده أبو حيان. وقد قرىء قوله: { فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [فصلت:16]بسكون الحاء وكسرها، وتنوين "أيام" عند الجميع ما تقدم تقريره، و "مُسْتَمِرٍّ" صفة "ليوم" أو "نحس". ومعناه كما تقدم أي عليهم حتى أهلكهم، أو من المرارة. قال الضحاك: كان مراً عليهم وكذا حكى الكسائي أن قوماً قالوا هو من المرارة يقال: مَرَّ الشَّيْءُ، وأَمَرَّ أي كان كالشيء المر تكرهه النفوس، وقد قال:
{ { فَذُوقُواْ } [آل عمران: 106] والذي يُذَاقُ قَدْ يكونُ مُرًّا.
قوله: (تَنْزِعُ النَّاسَ) في موضع نصب إما نعتاً لـ "رِيحاً" وإما حالاً منها لتخصصها بالصفة؛ ويجوز أن تكون مستأنفة. وقال: "الناس" ليعم ذَكَرَهُمْ وأنثاهم، فأوقع الظاهر موقع المضمر لذلك فالأصل تَنْزِعُهُمْ.
فصل
قال تعالى هنا: { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } وقال في السجدة:
{ { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } [فصلت:16] وقال في الحاقة: { { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } [الحاقة: 7]. والمراد من اليوم هنا الوقت والزمان كما في قوله: { { يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [مريم: 33]. وقوله "مُسْتَمِرّ" يفيد ما يفيده الأيام؛ لأن الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عَنْهُ الأيام. والحكاية هنا مذكورة على سبيل الاختصار فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز.
قوله: "كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ" حال من الناس مقدرةً، و "مُنْقَعِرٍ" صفة للنَّخل باعتبار الجنس، ولو أنث لاعتبر معنى الجماعة كقوله:
{ { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7]. وقد مضى تحقيق اللغتين فيه.
وإنما ذكر هنا وأنث في الحاقة مراعاةً للفواصل في الموضعين. وقرأ أبو نُهَيْكٍ: "أَعْجُزُ" على وزن أفْعُلٍ نحو: ضَبُع وأَضْبُع.
وقيل: الكاف في موضع نصب بفعل مقدر تقديره: تَتْرُكُهْم كَأَنَّهم أَعْجَازٌ. قاله مَكِّي.
ولو جعل مفعولاً ثانياً على التضمين أي تصيرهم بالنزع كأنهم لَكَان أقرب.
والأعجاز جمع عَجُز وهو مؤخر الشيء، ومنه العَجْز، لأنه يؤدي إلى تأخر الأمور. والمُنْقَعِرُ: المنقلع من أصله (يقال) قَعَرْتُ النَّخْلَةَ قَلَعْتُهَا من أصلها فانْقَعَرَتْ. وقَعَرْتُ البئْرَ: وَصلتُ إِلى قَعْرِهَا وقَعَرْتُ الإِناء شَرِبْتُ ما فيه حتى وصلت إِلى قَعْرِهِ، وأَقْعَرْتُ البِئْرَ أي جَعَلْتُ له قَعْراً.
فصل
تنزع الناس تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فتدق رِقَابَهُمْ. وروي: أنها كانت تنزع الناس من قبورهم كأنهم أعجاز نخل. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أصولها. وقال الضحاك: أوراك نخل منقعر منقلع من مكانه ساقطٍ على الأرض وقال: أعجاز نخل وهي أصولها التي قلعت فروعها، لأن الكفّار تبين رؤوسهم من أجسادهم فتبقى أجسادهم بلا رؤوس. قال ابن الخطيب: تَنْزِعُهُمْ بعُنْف كأنهم أعجاز نخل منقعر فينقعروا.
وهذا إشارة إلى قوتهم وثباتهم على الأرض، ويكون ذلك إشارةً إلى عظم أجسادهم أو إلى ثباتهم في الأرض فكأنهم كانوا يجعلون أرجُلهمْ في الأرض ويقصدون المنع به على الرِّيح.
قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح قام سبعة نَفَر من عاد من أقواهُم وأحْسَمِهمْ منهم عمرو بنُ الحُلِيّ، والحارث بن شدّاد والهِلْقَامُ وابنا تِقْن وخَلْجَانُ بن سعد فألجأوا العِيَالَ في شِعْب بينٍ جَبَلَيْن ثم اصطفّوا على جانبي الشِّعْب ليردُّوا الريح عمن في الشِّعْب من العِيال فجعلت الريح تَجْعفُهُمْ رجلاً بعد رجلٍ، فقالت امرأة عاد:

4599- ذَهَبَ الدَّهْرُ بِعَمْرِو بْـ ـنِ حُلِيٍّ والهَنِيَّاتِ
ثُمَّ بالحَارِثِ والهِلْـ ـلقَام طلاَّعِ الثَّنِيَّاتِ
والَّذِي سَدَّ مَهَبَّ الرْ ـرِيحِ أَيَّامَ البَلِيَّاتِ

أو يكون إشارة إلى يُبْسِهِمْ وجفافهم بالريح، فهي كانت تقتلهم وتحرقهم ببردها المفرط فيقعون كأنهم أخشاب يابسة.
فصل
(قال) المفسرون: ذكر النخل هنا، وقال: "منقعر" وأنثه في الحاقّة، وقال: أعجاز نخل خاوية لأجل الفواصل كقوله: مُسْتَمِرّ، ومُنْهَمِر، ومُنْتَشِر.
وقيل: إِن النَّخْل لفظه لفظ واحد، ومعناه الجمع، فيقال: نَخْلٌ مُنْقَعِرٌ، ومُنْقَعِرَةٌ ومُنْقَعِرَاتٌ، ونَخْلٌ خاوٍ وخَاوِيةٌ وخَاوِيَاتٌ ونَخْلٌ بَاسِقٌ وبَاسِقَةٌ وبَاسِقَاتٌ.
فإِذا قيل: "منقعر أو خاو أو باسق" فبالنظر إلى اللفظ، وإذا قيل: مُنْقَعِرَاتٌ أو خاويات أو باسقاتٌ فلأجل المعنى.
قال أبو بكر بن الأنباري: سُئِلَ المُبَرِّدُ بحضرة القَاضي إسرفيل عن ألف مسألة هذه من جُمْلَتِهَا فقال: ما الفرق بين قوله تعالى:
{ { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً } [الأنبياء: 81] وقال: { { جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } [يونس: 22]، وقوله: { { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ }؟ فقال: كلّ ما ورد عليك من هذا القرآن، فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً.
قال ابن الخطيب: ذكر الله لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة، قال:
{ { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ } [ق: 10] وذلك حال عنها وهي كالوصف وقال: "نَخْلٍ خَاوِيَةٍ" و "نَخْلٍ مُنْقَعرٍ" فحيث قال: "مُنْقَعِرٍ" كان المختار ذلك، لأن المنقعر في حقيقة الأمر كالمَفْعُول؛ لأنه ورد عليه القَعْر، فهو مَقْعُورٌ، و "الخَاوِي والباسق" فاعل وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى، تقول: امْرَأَةٌ قَتِيلٌ. وأما الباسقاتُ فهي فاعلاتٌ حقيقة، لأن البُسُوقَ اسم قام بها، وأما الخاويةُ فهو من باب "حَسَنِ الوَجْهِ"؛ لأن الخاوي موضعها فكأنه قال: نَخْلٍ خَاوِيَةِ المَوَاضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.
قوله: { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } قال أكثر المفسرين:
إن "النُّذُر" ههنا جمع "نَذِير" الذي هو مصدر بمعنى الإِنذار فما الحكمة في توحيد العذاب حيث لم يقال: فكيف أنواعُ عَذَابِي وَقَالَ: إِنذاري؟!.
قال ابن الخطيب: هذا إشارة إِلى غَلَبَةِ الرحمة، لأن الإِنذار إِشفاقٌ ورحمةٌ فقال: الإنذاراتُ التي هي نِعَمٌ ورحمة تَوَاتَرَتْ، فلما لم ينفع وقع العذاب دفعة واحدة فكانت النعمُ كثيرةً والنقمةُ واحدةً.