التفاسير

< >
عرض

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ
٣٣
إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ
٣٤
نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ
٣٥
وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِٱلنُّذُرِ
٣٦
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٧
وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ
٣٨
فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ
٣٩
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ
٤٠
-القمر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِٱلنُّذُرِ } أخبر عن قوم لوط لما كذبوا لوطاً. ثم قال: { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } والحاصب فاعل من حصب إذا رَمَى بالحَصَا وهي الحجارة. وقال النَّضْرُ: الحَاصِبُ الحَصْبَاءُ في الرِّيح. وقال أبو عبيدة: الحاصب الحِجارة. وفي الصِّحاح: الحَاصِبُ الريح الشديدة التي تثير الحَصْبَاء، وكذلك الحَصْبَةُ، قال لَبيدٌ:

4608- جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا أَذْيَالَها كُلُّ عَصُوفٍ حَصِبَهْ

(يقال): عَصَفَتِ الرِّيحُ أي اشتدت فهي ريحٌ عَاصِفٌ وعَصُوفٌ. وقال الفرزدق:

4609- مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنَا بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ

قوله: { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه متصل ويكون المعنى: أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله، فإنه لم يرسلْ عليهم.
والثاني: أنه منقطع. قال شهاب الدين: ولا أدري ما وَجْهُهُ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، وهذا داخلٌ ليس إلاَّ.
وقال أبو البقاء: هو استثناء منقطع. وقيل: متصل؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهَلَكُوا إلا آلَ لوط. وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط. انتهى. وهو كلام مُشْكِلٌ.
فصل
قال ابن الخطيب: الحاصب رامي الحَصْبَاء، وهي الحجارة؛ كقوله:
{ { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [الحجر: 74] وقول الملائكة: { { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات: 33] مع أنَّ المرسلَ عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى: لنرسل عليهم ريحاً حاصباً بالحجارة. ويجوز تذكير الرِّيح؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن (أَرْسَلْنَا) يدل على مُرسلِ وهو مرسل الحجارة وحاصبها، وأفرد للجنس. وقوله: "إنَّا أَرْسَلْنَا" كأنه جواب من قال: كَيْفَ كَانَ أَمْرُهُمْ؟ والاستثناء في قوله: { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } من الضمير في "عَلَيْهِمْ" وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أن آلَهُ كَذَّبُوا، لكن قد يكون أهله قليلاً فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصودَ بيانُ هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلامٍ مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامًّا، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصوداً وغيرهم، كالأطفال والدَّوَابِّ.
والمراد بآل لوط: من تبع على دينه إلا بِنْتَاهُ.
قوله: "نَجَّيْنَاهُمْ" تفسير وجواب لقائل يقول: فَمَا كان من شأن آلِ لوط؟ كقوله تعالى:
{ أَبَىٰ } [البقرة: 34] بعد قوله: "إلاَّ إبْلِيسَ". وقد تقدم في البقرة.
قوله: "بِسَحَرٍ" الباء حالية أو ظرفية، وانصرف "سَحَرٌ" لأنه نكرة، ولو قصد به وقتٌ بعينه لمنع (مِنَ) الصَّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور.
وزعم صَدْرُ الاَفَاضِلِ أنه مبني على الفتح كَأَمْسِ مبنياً على الكسر.
و "نِعْمَةً" إما مفعولٌ له، وإما مصدرٌ بفِعلٍ من لفظهما أو من معنى "نَجَّيْنَاهُمْ"؛ لأن تنجيتهم إنعامٌ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر. و "مِنْ عِنْدِنَا" إما متعلق بنعْمةٍ، وإما بمحذوفٍ صفةً لها.
والكاف في "كَذَلِكَ" نعت مصدر محذوف أي مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ نَجْزِي.
فصل
قال الأخفش: إنّما جُرَّ سَحَر، لأنه نكرة، ولو أراد يوماً بعينه لم يَجُرَّه. وكذا قال الزجاج: سحرٌ إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف، نقول: سَحرُنَا هذا، وأتيته بسَحَرٍ، والسَّحَرُ هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل بِبَيَاضِ النهار؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل النهار.
{ نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا } إنعاماً على لوط وابْنَتَيْهِ.
{ كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ }، أي كما جازينا لوطاً وأهله بالإنجاء، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه.
قال المفسرون: هو وعد لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - بأنه يصونهم عن الهلاك العام.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يقال: هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب؛ لقوله تعالى:
{ { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي ٱلشَّاكِرِينَ } [آل عمران: 145].
قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } هي العذاب الذي أصابهم، أو هي عذاب الآخرة، لقوله:
{ { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } [الدخان: 16]، وقوله: "فَتَمَارَوا بِالنُّذُرِ" أي فشكُّوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه، وهو تَفَاعَلُوا من المِرْيَة. وهذه الآية تدل على أن المراد بالنذر الإنذارات.
قوله تعالى: { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } المراودة من الرَّوْدِ، يقال: رَاوَدْتُهُ عَلَى كَذَا مُرَاوَدَةً، ورَواداً أيْ أَرَدْتُهُ. وَرادَ الكَلأَ يَرُودُهُ رَوْداً وَرِياداً، وارْتَادَهُ أيضاً أي طَلَبَهُ. وفي الحديث:
"إذَا بَالَ أَحَدكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ" أي يطلب مكاناً ليناً أو منْحَدراً. قال ابن الخطيب: ومنه الإرادة وهي المطالبة غَيْرَ أن المطالبة تستعمل في العين، يقال: طَالَبَ زَيْدٌ عَمْراً بالدَّرَاهِمِ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل، فيقال: رَاوَدَهُ عَنِ الْمُسَاعَدَةِ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثانٍ والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوطٌ باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك: أَخْبِرْنِي عَنْ أَمْرِ زَيْدٍ وأَخْبِرْنِي بأَمْر زَيْدٍ، وكذا قوله: "أَخْبَرَنِي زَيْدٌ عَنْ مَجِيءِ فُلاَنٍ" وقوله: "أَخْبَرَنِي بمجيئه"؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه، وأخبرني بمجيئه، لا يكون إلا عن نفس المجيء.
والضيف يقع على الواحد والجماعة، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة.
قوله: "فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ" قرأ العامّة فَطَمسنَا مخففاً. وابن مِقْسِم مشدَّداً على التكثير، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه.
والضمير في: "رَاوَدُوهُ" عائد على قومِ لوط. وأسند إليهم لأن جميعهم راضٍ بذلك، والمراد الذين دخلوا عليه. روي أن جِبْرِيلَ - عليه الصلاة والسلام - ضربهم بجناحه فَعَمُوا. وقيل: صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شِقّ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تَسْفِي عليهم من التراب، وقال الضحاك: بل أعماهم الله تعالى فلم يَرَوا الرسل. وقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم. وهذا قول ابن عباس.
فإن قيل: قال ههنا: فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ، وقال في يس:
{ { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } [يس: 66] فما الفرق؟
فالجواب: هذا يؤيد قول ابن عباس: بأن المراد من الطمس الحَجْبُ عن الإدراك، ولم يجعل على بصرهم شيء. وفي "يس" أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو أَلْزَقَ أحد الجَفْنَيْن بالآخَرِ فتكون العينُ جلدةً.
وروي أنهم صارت أعينهم مع وجودهم كالصفحة الواحدة.
قوله: { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } الخطاب لهم، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا، وهو خطاب كل مكذب، أي إنْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ فَذُوقُوا.
قال القرطبي: والمراد من هذا الأمر الخبر أي: فَأَذَقْتُهُمْ عَذَابي الذي أنذرَهُمْ به لوطٌ.
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله: "عذابي" هو العذاب العاجل، وبقوله: "ونُذُر" هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زَمَانٍ واحد فكيف قال: ذوقوا؟
فالجواب: أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى:
{ { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [نوح: 25].
قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } انصرف "بكرةً"؛ لأنه نكرة ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف. وهذا كما تقدم في "غَدْوَةٍ".
ومنعها زيدُ بن عليٍّ الصرف، ذهب بها إلى وقتٍ بعينه.
قال صاحب المختصر: انتصب بُكْرَة على الظرف أي بكرة من البكر كقوله:
{ { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } [الإسراء: 1]. قال الزمخشري: والتنكير يدل على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ: مِنَ اللِّيْلِ. قال ابن الخطيب: وهو غير ظاهر، والأظهر أن يقال: بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تَعْيِينَ الوقت ليس بمقصود للمتكلم، كقوله: خَرَجْنَا فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ مَعَ أن الخروج لا بدّ وأن يكون في بعضِ الأوقات، وكذلك قوله: "صَبّحَهُمْ بُكْرَةً" أي بكرة من البكر، و { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1] أي ليلاً من الليالي.
ومعنى صبحهم قال لهم: عِمُوا صباحاً، كقوله:
{ { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21]. والمراد بقوله: بكرة أول أزمنة الصبح. أو انتصب "بُكْرَةً" على المصدر كقولك: ضَرَبْتُهُ سَوْطاً؛ لأن الضرب يكون بالسَّوْطِ وغيره، وكذلك الصبح يكون بكرةً وبَعْدَها.
ومعنى "مستقر" أي ثابت عليهم لا يدفعه أحد عنهم، أو دائم لأنهم انتقلوا منه إلى عذاب الجحيم، وهو دائم، أو بمعنى قدر الله عليهم وقوعه ولم يصبهم بطريق الاتفاق وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم، وجعل أعلاها أسْفَلَهَا.
وقوله: { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي العذاب الذي نزل بهم من طَمْسِ الأَعْيُن غير العذاب الذي أهلكوا به، فلذلك حسن التكرير.