التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ
٤
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ
٥
-القمر

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ ٱلأَنبَآءِ } يعني أهل مكة من أخبار الأمم المكذبة والقرآن { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي مَنَاهِي.
قوله: "مزدجر" يجوز أن يكون فاعلاً بـ "فيه" لأن "فيه" وقع صلة وأن يكون مبتدأ، و "فِيهِ" الْخبر. و "الدال" بدل من تاء الافتعال، وأصله مُزْتَجَرٌ، فقُلبت التاء دالاً.
وقد تقدم أن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد الزاي، والدال، والذال؛ لأن الزاي حرف مجهور والتاء حرف مهموس، فأبدلوها إلى حرف مجهورٍ قريب من التاء، وهو الدال. و "مزدجر" هنا اسم مصدر أي ازدجاراً، أو اسم مكان أي موضع ازدجار. ومعناه فيه نهي وعظة، يقال: زَجَرْتُهُ وازْدَجَرْتُهُ إذا نهيته عن السوء. وقرىء: مُزَّجَر بِقلب تاء الافتعال زاياً ثم أدغم. وزيد بن علي: مُزْجِر اسم فاعل من أَزْجَرَ صار ذا زَجْرٍ، كَأَعْشَبَ أي صار ذا عُشْبٍ.
والأنباء هي الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد
{ { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [النمل: 22]، لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخبر، وقال تعالى: { { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } [الحجرات: 6] أي بأمر غريب. وإنما يجب التثبُّت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال، وقال تعالى: { { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } [هود: 49]. والمراد بالأنباء هنا أخبار المهلكين المكذّبين.
وقيل: المراد القرآن.
قال ابن الخطيب: وفي (ما) وجهان:
الأول: أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مُزْدَجَرٌ.
الثاني: أنها نكرة موصوفة أي جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر.
قوله: "حكمة" فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدل من { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } كأنه قيل: ولقد جاءهم حكمة بالغة من الأنباء، وحينئذ يكون بدل كل من كل، أو بدل اشتمال.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هو حكمة بالغةٌ، أي ذلك الذي جاءهم من إرسال الرسل وإيضاح الدلائل، والإنذار لمن مضى، أو إشارة لما فيه الأنباء أنه حكمة، أو إشارة إلى الساعة المقتربة. وقد تقدم أنه يجوز على قراءة أبي جعفر وزيد أن يكون خبراً لـ
{ { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } [القمر: 3]. وقرىء "حِكْمَةً" بالنصب حالاً من "ما".
قال الزمخشري: فإن قلت: إن كانت "ما" موصولة ساغ لك أن تنصب "حكمة" حالاً فكيف تعمل إن كانتْ موصوفة وهو الظاهر؟
قلت: تَخَصُّصها بالصفة فيحسن نصب الحال عنها. انتهى.
وهو سؤال واضح؛ لأنه يصير التقدير: جاءهم من الأنْبَاء شيء فيه ازدجار فيكون منكراً، وتنكير ذِي الحال قبيحٌ.
قوله: { فَمَا تُغْنِـي ٱلنُّذُرُ } يجوز في "ما" أن تكون استفهامية، وتكون في محل نصب مفعولاً مقدماً أي أَيَّ شَيْء تُغْنِي النذر؟ وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً.
والنذر جمع نَذِير؛ والمراد به المصدر أو اسم الفاعل كما تقدم في آخر النجم. وكتب "تغن" إتباعاً للفظ الوصل، فإنها ساقطة لالتقاء الساكنين.
قال بعض النحويين: وإنما حذفت الياء من "تغني" حملاً لها على "لَمْ" فجزمت كما تجزم "لَمْ". قال مكي، وهذا خطأ، لأن "لم" تنفي الماضي وترُدُّ المستقبل ماضياً، و "ما" تنفي الحال، فلا يجوز أن يقع إحداهما موقع الأخرى لاختلاف مَعْنَيَيْهِمَا.
فصل
المعنى أن القرآن حكمة بالغة تامة قد بلغت الغاية. وقوله: { فَمَا تُغْنِـي ٱلنُّذُرُ } إن كانت "ما" نافية فالمعنى أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الإيمان، وإنما أرسلوا مبلغين كقوله تعالى:
{ { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [الشورى: 48] ويؤيد هذا قوله: "فَتَولَّ عَنْهُمْ" وإن كانت استفهامية فالمعنى: وأي شيءٍ تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم؟ كقوله: { { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101] أي إنك أتيت بما عليك من الدعوى فكذبوا بها وأنذرتهم بما جرى على المكذبين، فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر؟ فتول عنهم.