التفاسير

< >
عرض

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ
٢٦
وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٢٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٢٨
يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
٢٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٠
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ
٣١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٢
يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
٣٣
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٤
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ
٣٥
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٦
فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ
٣٧
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٣٨
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
٣٩
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٠
يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ
٤١
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٢
هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ
٤٣
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ
٤٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٤٥
-الرحمن

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } غلب من يعقل على غيره، وجميعهم مراد.
والضمير في "عليها" للأرض.
قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر، كقوله:
{ { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [ص: 32].
ورد هذا بأنه قد تقدم ذكرها في قوله:
{ { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا } [الرحمن: 10].
وقيل: الضمير عائد إلى الجارية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض. فنزلت
{ { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88] فأيقنت الملائكة بالهلاك. وقاله مقاتل.
ووجه النعمة في فناء الخلق: التسوية بينهم في الموت.
وقيل: وجه النِّعمة أن الموت سبب النَّقل إلى دار الجزاء والثواب.
قوله: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجود ذاته سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الوجه عبارة عنه، كما قال { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }.
ويقال: هذا وجه الأمر، ووجه الصواب، وعين الصواب، ومعنى { ذو الجلال والإكرام } أي: هو أهل لأن يكرم، وهذا خطاب مع كل سامع.
وقيل: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: كيف خاطب الاثنين بقوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا }.
وخاطب هاهنا الواحد فقال: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ }، ولم يقل: "وجْه ربِّكُمَا"؟.
فالجواب: أن الإشارة هاهنا وقعت إلى فناء كل أحد، فقال: { ويبقى وجه ربك } أيها السامع ليعلم كل أحد أن غيره فانٍ، فلو قال: ويبقى وجه ربكما، لكان كل أحد يخرج نفسه، ورفيقه المخاطب عن الفناء.
فإن قيل: فلو قال: "ويبقى وجه الرّب" من غير خطاب، كان أدَلَّ على فناء الكل؟.
فالجواب: إن كان الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضع موضع بيان اللطف، وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب.
قوله تعالى: { ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }.
العامة على "ذو" بالواو صفة للوجه، وأبي، وعبد الله: "ذي" بالياء صفة لـ "ربّك". وسيأتي خلاف القراء في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
و "الجلال": العظمة والكبرياء.
و "الإكرام": يكرم أنبياء وأولياءه بلُطفه مع جلاله وعظمته.
قوله تعالى: { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف.
والثاني: أنه حال من "وجه"، والعامل فيه "يبقى" أي يبقى مسئولاً من أهل السموات والأرض.
وفيه إشكال؛ لأنه لما قال: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض؟.
قال ابن الخطيب: والجواب من وجوه.
الأول: أنهم يفنون بالنظر إليه، لكنهم يبقون بإبقاءِ الله، فيصح أن يكون الله مسئولاً.
الثاني: أن يكون مسئولاً معنًى لا حقيقة؛ لأنهم إذا فنوا فهم يسألونه بلسان الحالِ.
الثالث: أن قوله: "ويبقى" للاستمرار فهو يبقى ويعيد من كان في الأرض، ويكون مسئولاً.
الرابع: أنَّ السَّائلين هم الملائكة الذين هم في الأرض فأنهم فيها، وليسوا عليها، ولا يضرّهم زلزلتها، فعندما يفنى من عليها يبقى الله تعالى، ولا يفنى في تلك الحال الملائكة، فيسألونه ماذا نفعل؟ فيأمرهم بما يريد.
فصل في تحرير السؤال المقصود
وهذا السُّؤال إما استعطاف، وإما استعطاء، فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه.
قال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً.
قال ابن جريج: تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء، وأهل الأرض لأهل الأرض.
قال القرطبي: وفي الحديث:
"إنَّ مِنَ الملائكةِ ملكاً لهُ أربعةُ أوجهٍ، وجهٌ كوجْهِ الإنسانِ وهو يَسْألُ اللَّه الرِّزْقَ لِبَنِي آدَمَ، ووجهُ كوجْهِ الأسَدِ وهو يسألُ الله الرِّزْقَ للسِّباع، ووجْه كوجه الثَّوْر وهو يسألُ الله الرِّزْق للبهَائِمِ، ووجْه كوجْهِ النَّسْر وهو يَسْأَلُ الله الرِّزْق للطَّيْرِ"
. وقال ابن عطاء: إنهم يسألونه القوة على العباد.
قوله تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ } منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر، وهو قوله: "فِي شأن".
والشأن: الأمر.
فصل في تفسير هذه الآية
روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كُلَّ يوم هُوَ في شأنٍ قال: مِنْ شَأنِه أن يَغْفِرَ ذَنْباً، ويُفَرِّجَ كُرْبَةً، ويرفعَ أقواماً، ويضع آخرين" .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } قال: يَغْفِرُ ذَنْباً، ويكْشِفُ كَرْباً ويُجِيْبُ داعياً.
وقيل: من شأنه أنه يُحْيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويرزق ويمنع.
وقال ابن بحر: الدّهر كله يومان:
أحدهما: مدة أيام الدنيا.
والآخر: يوم القيامة، فشأنه - سبحانه وتعالى - في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة: الجزاء والحساب والثواب والعقاب.
والظَّاهر أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.
وقال عمرو بن ميمون: في قوله تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } من شأنه أن يميت حيًّا، ويحيي ميّتًا ويقرّ في الأرحام، ويعز ذليلاً، ويذلّ عزيزاً.
وقيل: من شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النَّهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مُبْتلى، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويفقر غنيًّا، ويغني فقيراً.
وقال الكلبي: هو سوق المقادير المواقيت.
وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي قوله تعالى:
{ { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة.
وقوله تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:
{ { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39] فما بال الإضعاف؟.
فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله خصّ هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم.
وقيل: إن ندم "قابيل" لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله.
وأما قوله تعالى:
{ { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39]، فمعناه: ليس له إلاَّ ما سعى عدلاً، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً.
وأما قوله تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فإنها شُئُون يبديها ولا يبتديها، فقام عبد الله بن طاهر وقَبَّلَ رأسه، وسوغ خراجه.
قوله تعالى: { سَنَفْرُغُ }.
قرأ: "سيفرغ" - بالياء - الأخوان، أي سيفرغ الله تعالى. والباقون من السبعة: بنون العظمة، والرَّاء مضمومة في القراءتين، وهي اللغة الفصحى لغة "الحجاز".
وقرأها مفتوحة الراء مع النون الأعرج، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من "فَرَغَ" بفتح الراء في الماضي، وفتحت في المضارع لأجل حرف الحَلْق.
والثاني: أنه سمع فيه "فَرِغَ" - بكسر العين - فيكون هذا مضارعه، وهذه لغة "تميم" وقرأ عيسى بن عمر وأبو السمال: "سَنِفْرَغُ" - بكسر حرف المضارعة وفتح الراء. وتوجيهها واضح مما تقدم في "الفاتحة".
قال أبو حاتم: هذه لغة سفلى "مضر".
والأعمش وأبو حيوة وإبراهيم: "سَيُفْرَغُ" - بضم الياء - من تحت مبنيًّا للمفعول.
وعيسى - أيضاً - بفتح نون العظمة، وكسر الراء.
والأعرج - أيضاً - بفتح الياء، ويروى عن أبي عمرو.
فصل في الكلام على فرغ
قال القرطبي: "يقال: فرغتُ من الشغل أفرغُ فُرُوغاً وفَرَاغاً، وتفرَّغْتُ لكذا، واستفرغتُ مجهودي في كذا، أي: بذلته، وليس لله - تعالى - شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذن أتفرغ لك، أي: أقصد قصدك".
وأنشد ابن الأنباري لجرير: [الوافر]

4640- ألانَ وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا

وأنشد الزجاج والنحاس: [الطويل]

4641- فَرَغْتُ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحِجْلِ

ويدل عليه قراءة أبيِّ رضي الله عنه: "سَنفْرُغُ إليْكُمْ" أي سنقصد إليكم.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم
"أنه لما بايع الأنصار ليلة العقبةِ، صاح الشيطان: يا أهل الجباجب هذا مُذمَّمٌ يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أزَبّ العقبة، أما والله لأتفرَّغن لك" . أي: أقصد إلى إبطال أمرك.
وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما.
قال ابن الأثير: الأزَبُّ في اللغة: الكثير الشعر، وهو هاهنا شيطان اسمه "أزب العقبة" وهو الحيّة.
وقيل: إن الله - تعالى - وعد على التقوى، وأوعد على الفُجُور، ثم قال: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي: مما وعدناكم، ونوصل كلاًّ إلى ما وعدناه، أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن، ومقاتل، وابن زيد.
قوله تعالى: { أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ }. تقدم الكلام في قراءة "أيُّهَا" في "النور" [النور: 31] وهو منادى، والحكمة في نداء المُبْهَم هي تنبيه كل سامع، ثم يخصص المقصود بعد ذلك، فيكون فيه اهتمام بالمنادى.
وأيضاً يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام، وزيد معه هاء التي للتَّنبيه عوضاً عن الإضافة؛ لأن المبهم يضاف.
و "الثَّقلان" الجنّ والإنس، سُمِّيَا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف.
وقيل: سمّوا بذلك؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتاً.
قال تعالى:
{ { وَأَخْرَجَتِ ٱلأَرْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة: 2].
ومنه قولهم: أعطهِ ثقله أي وزنه.
وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قَدْر ووزن ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام: ثقل، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به.
وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين؛ لأنهم مثقلان بالذنوب.
وقيل: الثَّقَل الإنس لشرفهم، وسمّي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغليب كالعَمريْن والقَمريْن والثَّقَل: العظيم الشريف.
قال عليه الصلاة والسلام:
"إنِّي تاركٌ فيكم ثقلينِ: كتاب اللَّهِ وعترتِي" .
فصل في سبب التثنية بعد الجمع
جمع في قوله تعالى: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } ثم قال: { أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ }؛ لأنهما فريقان، وكل فريق جمع، وهذا كقوله تعالى: { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ }، ولم يقل "إن استطعتما"؛ لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى:
{ { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } [النمل: 45].
وقوله تعالى:
{ { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } [الحج: 19]، ولو قال: سنفرغ لكما، أو قال: استطعتما، لجاز.
وقرأ أهل "الشَّام": "أيُّهُ الثَّقلانِ" بضم الهاء، والباقون: بفتحها.
فصل في أن الجن مكلفون
هذه الآيات التي في "الأحقاف"، و
{ قُلْ أُوحِيَ } [الجن: 1] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم.
قوله تعالى: { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ } [الرحمن: 33] الآية. لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، كأن قائلاً قال: فلم أخر عذابهم؟.
فأجيب: بأن الجميع في قبضته، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت، والجميع في قبضة الله - تعالى - فلا يفوتونه.
و "المعشر": الجماعة العظيمة؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلاَّ بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد، تقول: أحد عشر، واثنا عشر وعشرون، وثلاثون، أي ثلاث عشرات، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى:
{ { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } [الإسراء: 88]؟.
فالجواب: أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان، فقدم في كل موضع ما يليق به.
فصل في المراد بالآية
معنى الآية: إن استطعتم أن تنفذوا: تجوزوا وتخرجوا بسرعة.
والنفوذ: الخروج وقد تقدم في أول "البقرة" أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر، قال تعالى: { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ } فاهربوا واخرجوا منها، وهذا أمر تعجيز، والمعنى: حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال تعالى:
{ { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ } [النساء: 78] وهو قول الضحاك.
وروى جويبر عن الضحاك أيضاً قال: يقال لهم هذا يوم القيامة، يعني: إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى، وأينما تولوا فثمَّ ملك الله.
وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عز وجل وعنه أيضاً لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم وقال قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل: الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ.
وقيل معناه: لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه: لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم.
قوله تعالى: { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }. حال أو متعلق بالفعل قبله.
والسلطان: القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان، يريد: حيث ما توجهتم كنتم في ملكي.
قوله تعالى: { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ }.
قرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل: "صِوَار" من البقر، و "صُوَار" وهو القطيع من البقر.
و "الشُّواظ": قيل: اللَّهب معه دخان.
وقال ابن عباس وغيره: هو اللهب الخالص الذي لا دُخان له.
وقيل: اللَّهب الأحمر.
وقيل: هو الدخان الخارج من اللهب.
وقال رؤبةرحمه الله : [الرجز]

4642-..................... ونَارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظَا

وقال حسَّان رضي الله عنه: [الوافر]

4643- هَجَوْتُكَ فاختضَعْتَ لَهَا بِذُلٍّ بِقَافِيةٍ تأجَّجُ كالشُّوَاظِ

وقال مجاهد: "الشُّواظ": اللَّهب الأخضر المنقطع من النَّار.
وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من دخان اللَّهب ليس بدخان الحطب. وقاله سعيد بن جبير.
وقيل: "الشُّواظ": النَّار والدخان جميعاً. قاله ابن عمر، وحكاه الأخفش عن بعض العرب.
و "يُرْسَل" مبني للمفعول وهي قراءة العامة، وزيد بن علي "نرسل" بالنون شُواظاً ونحاساً بالنصب، و "من نار" صفة لـ "شواظ" أو متعلق بـ "يرسل".
قوله: "ونُحَاس".
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بجره عطفاً على "نار".
والباقون: برفعه عطفاً على "شُواظ".
و "النُّحَاس": قيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله - تعالى - ويعذبهم به.
وقيل: الدخان الذي لا لهب معه.
قال الخليل: وهو معروف في كلام العرب.
وأنشد للأعشى: [المتقارب]

4644- يُضِيءُ كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِيـ ـطِ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ فيهِ نُحَاسَا

قال المهدوي: من قال: إن الشواظ النار والدخان جميعاً، فالجر في "نُحَاس" على هذا بين.
فأما الجر على قول من قال: إن الشواظ اللَّهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: "يرسل عليكما شواظ من نار، وشيء من نحاس" فـ "شيء" معطوف على شواظ، و "من نحاس" جملة هي صفة لشيء، وحذف "شيء" وحذفت "من" لتقدم ذكرها في "من نار" كما حذفت "على" من قولهم: على من تنزل أنزل أي: وعليه، فيكون "نُحَاس" على هذا مجروراً بـ "من" المحذوفة، وتضم نونه وتكسر، وبالكسر قرأ مجاهد، وطلحة والكلبي، ونقله القرطبي عن حميد أيضاً، وعكرمة، وأبي العالية.
وقرأ ابن جندب: "ونَحْسٌ"، كقوله تعالى:
{ { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } [القمر: 19] وابن أبي بكرة، وابن أبي إسحاق: "ونَحُسُّ" بضم الحاء والسين مشددة من قوله تعالى: { { إِذْ تَحُسُّونَهُم } [آل عمران: 152] أي: ونقتل بالعذاب، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً: "ونَحس" بضم الحاء وفتحها وكسرها وجر السين، والحسن والقاضي: "ونُحُسٍ" بضمتين وجر السين.
وتقدمت قرأة زيد: "ونُحَاساً" بالنَّصْب لعطفه على "شُواظاً" في قراءته.
و "النِّحاس" أيضاً بالكسر: الطبيعة والأصل.
يقال: فلان كريم النحاس و "النُّحاس" أيضاً بالضم، أي: كريم النِّجار.
قال ابن مسعود: النحاس: المهل وقال الضحاك: هو دُرْديّ الزَّيت المغلي.
وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة.
قوله تعالى: { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } أي: لا ينصر بعضكم بعضاً، يعني الجن والإنس.
وثنّى الضمير في "عَلَيْكُمَا"؛ لأن المراد النوعان، وجمع في قوله: "إن اسْتَطعْتُمْ"؛ لأنه خطاب للمعشر، وكذا قوله تعالى: { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } خطاب للحاضرين، وهم نوعان.
قوله تعالى: { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } جوابه مقدر، أي: رأيت هولاً عظيماً، أو كان ما كان.
وقوله: "فَكَانَت ورْدَةً" أي: مثل وردة.
فقيل: هي الزهرة المعروفة التي تشمّ شبهها بها في الحمرة.
وأنشد قول الشاعر: [الطويل]

4645- فَلَوْ كُنْتُ وَرْداً لونُهُ لَعشِقْتَنِي ولكِنَّ ربِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا

وقيل: هي من لون الفَرَس الورد يكون في الربيع إلى الصُّفرة، وفي الشتاء إلى الحُمْرة، وفي شدة البرد إلى الغبرة، فشبه تلوّن السماء بتلون الوردة من الخَيل.
وقرأ عمرو بن عبيد: "وَرْدَةٌ" بالرفع.
قال الزمخشري: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى التَّجريد؛ كقوله: [الكامل]

4646- فَلَئِنْ بَقِيتُ لأرحلنَّ بِغَزْوَةٍ تَحْوِي الغَنائمَ أو يَمُوتَ كَرِيمُ

قوله: "كالدِّهان" يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون نعتاً لـ "وَرْدَة"، وأن يكون حالاً من اسم "كانت".
وفي "الدِّهَان" قولان:
أنه جمع "دُهْن" نحو: قُرْط وقِرَاط، ورُمْح ورِمَاح، وهو في معنى قوله تعالى:
{ { تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } [المعارج: 8] وهو: دردي الزيت.
والثاني: أنه اسم مفرد.
فقال الزمخشري: "اسم ما يدهن به كالحزام والإدام"؛ وأنشد: [الطويل]

4647- كأنَّهُمَا مَزادَتَا مُتَعَجِّلٍ فريَّان لمَّا تُدهَنَا بدِهَانِ

وقال غيره: هو الأديم الأحمر؛ وأنشد للأعشى: [الوافر]

4648- وأجْرَدَ مِنْ كِرامِ النَّخْلِ طَرْفٍ كأنَّ على شَواكِلِه دِهَانَا

أي: أديماً أحمر، وهذا يحتمل أن يكون جمعاً، ويؤيده ما أنشده منذر بن سعيد: [الطويل]

4649- تَبِعْنَ الدِّهَانَ الحُمْرَ كُلَّ عَشِيَّةٍ بمَوْسمِ بَدْرٍ أو بِسُوقِ عُكَاظِ

فقوله: "الحمر" يحتمل أن يكون جمعاً، وقد يقال: هو كقولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض، إلاَّ أنه خلاف الأصل.
وقيل: شبهت بالدهان وهو الزيت لذوبها ودورانها.
وقيل: لبريقها.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: قوله تعالى: { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ } انصدعت يوم القيامة، { فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ }.
قال مجاهد والضحاك، وغيرهما: "الدهان": الدهن، والمعنى: صارت في صفاء الدّهن، والدهان على هذا جمع دهن.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حُمْرة الورد، وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقّتها وذوبانها.
وقيل: الدهان: الجلد الأحمر الصرف. ذكره أبو عبيدة والفراء. أي: تصير السماء كالأديم لشدّة حر نار جهنم.
وعن ابن عباس: المعنى: فكانت كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر، وفي الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتاً أغْبر.
وقال الفراء: أراد الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إلى الصُّفرة، فإذا اشتد البرد كانت وردة؛ فإذا كان بعد ذلك كانت وردةً إلى الغبرة، فشبه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل.
وقال الحسن: "كالدِّهان" أي: كصبّ الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً.
وقال زيد بن أسلم: المعنى: أنها تصير كعكر الزيت.
وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء.
قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان.
وهذا قريب مما تقدم من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها، والورد أيضاً: يطلق على الأسد.
وقال قتادة: إنها اليوم خضراء، وسيكون لها لون أحمر. حكاه الثعلبي.
قال المارودي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السَّماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة يرى لونها أزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء حمرة الدم، وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحاً، فإنَّ السماء لقربها من النَّواظر يوم القيامة، وارتفاع الحواجز ترى حمراء؛ لأنها أصل لونها. والله أعلم.
قوله تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ } التنوين عوض من الجملة، أي: فيومئذ انشقَّت السَّماء، والفاء في "فيومئذٍ" جواب الشرط.
وقيل: هو محذوف، أي: فإذا انشقت السَّماء رأيت أمراً مهولاً ونحو ذلك.
والهاء في "ذنبه" تعود على أحد المذكورين، وضمير الآخر مقدر، أي: ولا يسأل عن ذنبه جانّ أيضاً؛ وناصب الظرف "لا يسأل" و "لا" غير مانعة.
وقد تقدم الخلاف فيها في الفاتحة وتقدمت قراءة "جأنٌّ" بالهمزة فيها أيضاً.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال المفسرون: هذه الآية مثل قوله تعالى:
{ { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [القصص: 78].
وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض، ولا يسأل في بعض. وهذا قول عكرمة.
وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقرُّوا في النَّار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم؛ لأن الله - تعالى - حفظها عليهم، وكتبتها الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس.
وعن الحسن ومجاهد أيضاً: لا تسأل الملائكة عنهم؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم.
دليله قوله تعالى: { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ }، رواه مجاهد عنه أيضاً في قوله تعالى:
{ { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر: 92]، وهو قوله تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }.
قال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، ولكنهم يسألهم لم عملتموها؟ سؤال توبيخ.
وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم.
وقال قتادة: يسألون قبل الختم على أفواههم، ثم يختم على أفواههم، وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
قوله تعالى: { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ }.
قرأ حماد بن أبي سليمان: "بِسِيمائِهِمْ" بالمد.
قوله تعالى: { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي } الآية.
"يُؤخذ" متعدّ، ومع ذلك تعدى بالباء؛ لأنه ضمن معنى "يسحب". قاله أبو حيان.
و "يسحب" إنما يتعدى بـ "على"، قال تعالى:
{ { يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [القمر: 48] فكان ينبغي أن يقول: ضمن معنى يتعدى "يدعون أو يدفعون".
وقال مكّي: "إنما يقال: أخذت الناصية، وأخذت بالناصية، ولو قلت: أخذت الدَّابة بالناصية، لم يجز.
وحكي عن العرب: أخذت الخِطَام، وأخذت بالخِطَام. بمعنى.
وقد قيل: إن تقديره: فيؤخذ كل واحد بالنَّواصي، وليس بصواب؛ لأنه لا يتعدى إلى مفعولين أحدهما: بالباء، لما ذكرنا، وقد يجوز أن يتعدى إلى مفعولين: أحدهما بحرف جر غير الباء، نحو: أخذت ثوباً من زيد، فهذا المعنى غير الأول، فلا يحسن مع الباء مفعول آخر إلاَّ أن تجعلها بمعنى "من أجل"، فيجوز أن تقول: "أخذت زيداً ثوباً بعمرو" أي: من أجله وبذنبه". انتهى.
وفيما قاله نظر، لأنك تقول: "أخذت الثوب بدرهم" فقد تعدّى بغير "من" أيضاً بغير المعنى الذي ذكره.
وقال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف عدي الأخذ بالباء وهو متعد بنفسه قال تعالى:
{ { لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } [الحديد: 15] وقال: { { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [طه: 21]؟.
فالجواب أن الأخذ تعدى بنفسه كما تقدم، وبالباء كقوله تعالى:
{ { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [طه: 94] لكن التدقيق فيه أن المأخوذ إن كان مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ، فكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه، فيذكر الخوف ويدل على هذا استعمال القرآن، فقال تعالى: { { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } [طه: 21]، وقال تعالى { { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ } [النساء: 102] وأخذ الألواح إلى غير ذلك مما هو المقصود بالأخذ غيره، وأسند الأخذ إلى النواصي دون ضمير المجرمين إشارة إلى استيلاء الآخذين على المأخوذين وكثرتهم وكيفية الأخذ.
و "أل" في "النَّواصي والأقْدَام" ليست عوضاً من ضمير عند البصريين، فالتقدير: بالنواصي منهم، وهي عند الكوفيين عوض.
والنَّاصية: مقدم الرأس، وقد تقدم هذا مستوفى في "هود" وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "مَا لَكُم لا تَنُصُّونَ مَيَّتَكُمْ" أي: لا تمدُّون ناصيته.
و "النَّصيّ": مرعى طيب، فقولهم: فلان ناصية القوم، يحتمل أن يكون من هذا، يعنون أنه طيب منتفع، أو مثل قولهم: هو رأسُ القَوْمِ انتهى.
فصل في سيما المجرمين
قال الحسن: { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي بسواد الأوجه، وزرقة الأعين قال تعالى:
{ { وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } [طه: 102].
وقال تعالى:
{ { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106].
فقوله: { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } أي: يأخذ الملائكة بنواصيهم، أي: بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار.
و "النَّواصي": جمع ناصية.
وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره حتى يندقَّ ظهره، ثم يلقى في النّار.
وقيل: يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه، وأكثر لتشويهه.
وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النَّار، تارةً تأخذ بناصيته، وتجرّه على وجهه، وتارةً تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
فإن قيل: ما وجه إفراد "يُؤخَذ" مع أن المجرمين جمع، وهم المأخوذون؟.
فالجواب من وجهين: الأول: أن قوله: "يُؤخَذُ" متعلق "بالنواصي"، كقولك: ذهب يزيد.
والثاني: أن يتعلق بما يدلّ عليه "يؤخذ"، فكأنه قال: يؤخذ المأخوذون بالنواصي.
قوله تعالى: { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } أي يقال لهم: هذه جهنّم.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: معناه هذه صفة جهنم، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف، وقد يكون المشار إليه هو ما تقدم.
قال: والأقوى أن يقال: الكلام تم عند قوله تعالى: { بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ }، وقوله تعالى: { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ } لقربها، كما يقال: هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه، فكأنه قال: جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، ويؤيده قوله: "يُكَذِّبُ"؛ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال، لقال تعالى لهم: (هذه جهنم التي كذب بها المجرمون)؛ لأن في ذلك اليوم لا يبقى تكذيب.
قوله تعالى: "يَطُوفُونَ".
قراءة العامة: "يَطُوفون" من "طاف"، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن: "يُطَافُونَ" مبنيًّا للمفعول، من أطافهم غيرهم.
والأعمش وطلحة وابن مقسم: "يُطَوِّفُون" بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، أي يطوفون أنفسهم.
وقرأت فرقة: "يَطَّوَّفُونَ" بتشديد الطَّاء والواو، والأصل: "يتطوّفون".
قوله تعالى: { حَمِيمٍ آنٍ } أي: حَارّ متناهٍ في الحرارة، وهو منقوص كـ "قاض" يقال: "أتَى يَأتِي فهو آتٍ" كـ "قَضَى يَقْضِي فهو قَاضٍ". وقد تقدم في "الأحزاب".
قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الحميم والجحيم.
و "الحميم": الشّراب. وفي قوله تعالى: "آنٍ" ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الذي انتهى حرّه وحميمه. قاله ابن عبَّاس، وسعيد بن جبير، والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني: [الوافر]

4650- وتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وخَانَتْ بأحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ

وقال قتادة: "آن" طبخ منذ خلق الله السموات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك.
وعن كعب: أنه الحاضر، وعنه أيضاً: "آن" اسم واد من أودية جهنّم.
وقال مجاهد: إنه الذي قد آنَ شربه، وبلغ غايته.
ثم قال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
فإن قيل: هذه الأمور ليست نعمة، فكيف قال: بأي آلاء؟.
فالجواب من وجهين.
أحدهما: أن ما وصف من هَوْلِ القيامة، وعقاب المجرمين فيه زَجْر عن المعاصي، وترغيب في الطَّاعات وهذا من أعظم النعم.
"روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على شاب في الليل يقرأ: { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَٱلدِّهَانِ } فوقف الشَّاب، وخنقته العبرة، وجعل يقول: ويحي من يوم تنشقُّ فيه السماء وَيْحِي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك يا فتى، يأتيني مثلها، فوالذي نَفْسِي بيدهِ لقَدْ بَكَتْ ملائكةُ السَّماءِ منْ بُكائِكَ" .
الثاني: أن المعنى كذبتم بالنعم المتقدمة ما استحقيتم هذه العقوبات، وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.