التفاسير

< >
عرض

وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ
٦٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٣
مُدْهَآمَّتَانِ
٦٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٥
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ
٦٦
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٧
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ
٦٨
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٦٩
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ
٧٠
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧١
حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ
٧٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٣
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ
٧٤
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٥
مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ
٧٦
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
٧٧
تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ
٧٨
-الرحمن

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }.
أي: من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنَّتان في المنزلة وحسن المنظر، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين، وقيل: بالعكس، ورجحه الزمخشري.
وقال: قوله: { مُدْهَآمَّتَانِ } مع قوله في الأوليين:
{ { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [الرحمن: 48] يدل على أن مرتبة هاتين دونهما، وكذلك قوله في الأوليين: { { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [الرحمن: 50] مع قوله في هاتين: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }؛ لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأوليين: { { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } [الرحمن: 52] مع قوله في هاتين: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ }، وقوله في الأوليين: { { فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن: 54] حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها، وعدم إدراك العقول إياها، مع قوله في هاتين: "رفرفٍ خُضرٍ" دليل عليه.
وقال القرطبي: لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما، فقال في الأوليين:
{ { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ } [الرحمن: 52] وفي الأخريين: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ولم يقل: من كل فاكهة.
وقال في الأوليين:
{ { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن: 54] وهو الدِّيباج.
وفي الأخريين: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } [الرحمن: 76] و "العَبْقَرِي": الوشْي، والديباج أعلى من الوشي.
والرفرف: كسرُ الخباء، والفرش المعدة للاتِّكاء عليها أفضل من كسر الخباء.
وقال في الأوليين في صفة الحور:
{ { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } [الرحمن: 58].
وفي الأخريين: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ }، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقال في الأوليين:
{ { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [الرحمن: 48].
وفي الأخريين: { مُدْهَآمَّتَانِ } أي: خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله - تعالى - بهم ولأتباعهم لا لهم، وإنما جعلها لهم إنعاماً عليهم، أي: هاتان الأخريان لكم، أسكنوا فيهما من تريدون.
وقيل: إن المراد بقوله: { وَمِن دُونِهِمَا } أي: دونهما في المكان، كأنهم في جنتين، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين، بدليل قوله تعال:
{ { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الزمر: 20].
وقال ابن عباس: ومن دونهما في الدّرج.
وقال ابن زيد: ومن دونهما في الفضل.
وقال ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين: النخل والشجر وفي الأخريين: الزرع والنبات.
وقيل: المراد من قوله: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث.
وقال ابن جريج: هي أربع جناتٍ منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان، وعينان تجريان، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان.
وقال أبو موسى الأشعري: جنتان منها للسَّابقين، وجنتان من فضَّة للتابعين.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"جَنَّتانِ من فضَّةٍ، آنيتُهمَا وما فيهمَا، وجنَّتانِ مِنْ ذهبٍ آنيتُهُمَا وما فِيهَما، وما بَيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أن يَنْظرُوا إلى ربِّهِمْ إلاَّ رِدَاءُ الكِبرياءِ على وجْهِهِ في جنَّة عدْنٍ" .
وقال الكسائي: { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي: أمامهما وقبلهما.
قال البغوي: "يدلّ عليه قول الضحاك: الجَنَّتان الأوليان من ذهب وفضّة، والأخريان من ياقُوت وزمرّد، وهما أفضل من الأوليين".
وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول"، وقال: "ومعنى { ومن دونهما جنتان } أي: دون هذا إلى العرش، أي: أقرب وأدنى إلى العرش".
وقال مقاتل: الجنَّتان الأوليان: جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان: جنة الفردوس، وجنة المأوى.
قوله تعالى: { مُدْهَآمَّتَانِ } أي: خضراوان. قاله ابن عبَّاس وغيره.
وقال مجاهد: مسودتان.
والإدْهَام في اللغة: السواد وشدة الخضرة، جُعلتا مدهامتان لشدة ريِّهما، وهذا مشاهد بالنظر، ولذلك قالوا: سواد "العراق" لكثرة شجره وزرعه.
ويقال: فرس أدهم وبعير أدهم، وناقة دهماء، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جَوْن، وادهمَّ الفرس ادهماماً أي صار أدهم.
وادْهَامَّ الشيء ادهيماماً: أي: اسوداداً، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد، ويقال للأرض المعمورة: سواد يقال: سواد البلد.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"عَليْكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ، ومن كَثَّرَ سوادَ قَوْمٍ فهُو مِنْهُمْ" .
قال ابن الخطيب: والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السَّواد، فإنَّ الأبيض يقبل كل لون، والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان.
قوله تعالى: { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }.
قال ابن عباس: فوَّارتان بالماء والنَّضْخُ - بالخاء المعجمة - أكثر من النَّضْحِ - بالحاء المهملة - لأن النَّضْح بالمهملة: الرَّشُّ والرشحُ، وبالمعجمة: فورانُ الماء.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد: المعنى نضَّاختان بالخير والبركة.
وعن ابن مسعود وابن عباس أيضاً وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر.
وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء.
قوله تعالى: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ }.
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وهذا ظاهر الكلام، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما.
وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النَّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلاً له كقوله تعالى:
{ { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 98].
وقوله تعالى:
{ { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [البقرة: 238].
قال شهاب الدين: وهذا يجوز؛ لأن "فاكهة" عامًّا؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، وإنما هو مطلق، ولكن لما كان صادقاً على النخل والرمان قيل فيه ذلك.
وقال القرطبي: إنما كررهما؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البُرِّ عندنا؛ لأن النخل عامةُ قوتهم، والرُّمان كالتمرات، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثِّمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما، وكثرتهما عندهم في "المدينة" إلى "مكّة" إلى ما والاها من أرض "اليمن"، فأخرجهما في الذكر من الفواكه، وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل: أفردا بالذكر؛ لأن النخل ثمرة: فاكهة وطعام.
والرُّمان: فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكّه.
ومنه قال أبو حنيفةرحمه الله : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رماناً، أو رطباً لم يحنث.
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال ابن الخطيب: قوله: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } كقوله تعالى:
{ { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [الرحمن: 52]؛ لأن الفاكهة أرضية وشجرية، والأرضية كالبطِّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة، والشجرية كالنَّخْل والرمان وغيرهما من الشجريات، فقال: { مُدْهَآمَّتَانِ } بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية، وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب؛ لأنهما متقابلان.
أحدهما: حلو، والآخر: حامض.
وأحدهما: حار، والآخر: بارد.
وأحدهما: فاكهة وغذاء، والآخر: فاكهة ودواء.
وأحدهما: من فواكه البلاد الباردة، والآخر: من فواكه البلاد الحارة.
وأحدهما: أشجار في غاية الطول والكبر، والآخر: أشجاره بالضّد.
وأحدهما: ما يؤكل منه بارز، وما لا يؤكل كامن، فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى:
{ { رَبُّ ٱلْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ ٱلْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن: 17].
فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة
قال ابن عباس: الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المُقَتَّب.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجَنة: جذوعها زمرد أخضر، وكرمُها ذهب أحمر، وسعفُها كسوة لأهل الجنة، فيها (مقطعاتهم) وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدِّلاء، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزُّبد، ليس له عجم.
وفي رواية: كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود: اثنا عشر ذراعاً.
قوله تعالى: { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }.
في "خيرات" وجهان:
أحدهما: أنه جمع "خَيْرة" من الخير، بزنة "فعْلة" - بسكون العين - يقال: "امرأة خَيْرة وأخرى شَرّة".
والثاني: أنه جمع "خيرة" المخفف من "خَيِّرة"، ويدل على ذلك قراءة ابن مقسم والنهدي، وبكر بن حبيب: "خيّرات" بتشديد الياء.
قال القرطبي: "وهي قراءة قتادة، وابن السميفع، وأبي رجاء العطاردي".
وقرأ أبو عمرو: "خَيَرَات" بفتح الياء، جمع "خَيَرة"، وهي شاذة؛ لأن العين معلة، إلا أن بني "هُذَيل" تعامله معاملة الصحيح، فيقولون: "حورات وبيضات".
وأنشد: [الطويل]

4661- أخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأوِّبٌ رَفِيقٌ بِمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ

فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: "الخيرات الحسان" يعني النِّساء، الواحدة "خيرة" على معنى "ذوات خير".
وقيل: "خيرات" بمعنى "خيِّرات"، فخفف كـ "هَيِّن وليِّن".
روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
"قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن قوله: خَيْراتٌ حِسَان قال: خَيراتُ الأخلاقِ حسانُ الوُجوهِ" .
وقال أبو صالح: لأنَّهُنَّ عَذَارى أبْكَارٌ.
وقال الحكيم الترمذي: فـ "الخيرات"، ما اختارهنّ الله فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين، ثم قال: "حِسَانٌ" فوصفهن بالحسن؛ فإذا وصف الله خالق الحسن شباباً بالحسن، فانظر ما هناك.
وقال ابن الخطيب: "في باطنهن الخير، وفي ظاهرهنّ الحسن".
قوله تعالى: { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ }.
معنى "مقصورات": أي: محبوسات ومنه القصر؛ لأنه يحبس من فيه.
ومنه قول النحاة: "المقصور"، لأنه حبس عن المد، وحبس عن الإعراب أو حبس الإعراب فيه، والنساء تمدح بملازمتهن البيوت كما قال قيس بن الأسلت: [الطويل]

4662- وتَكْسَلُ عَنْ جِيرَانِهَا فَيَزُرنهَا وتغْفُلُ عَنْ أبْيَاتِهِنَّ فتُعْذَرُ

ويقال: امرأة مقصورة وقصيرة، وقصورة بمعنى واحد.
قال كثير عزة فيه: [الطويل]

4663- وأنْتِ الَّتِي حبَّبْتِ كُلَّ قصيرةٍ إليَّ، ولَمْ تَعْلَمْ بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قِصاراتِ الحِجَالِ ولمْ أردْ قِصَارَ الخُطَا، شرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ

و "الخيام": جمع "خَيْمة"، وهي تكون من ثُمام وسائر الحشيش، فإن كانت من شعر، فلا يقال لها: خيمة، بل بيت.
قال جرير: [الوافر]

4664- مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ سُقيتِ الغَيْثَ أيَّتُهَا الخِيَامُ

فصل في أن جمال الحور يفوق الآدميات
اختلفوا أيهما أكثر حسناً وأتم جمالاً الحور أو الآدميات.
فقيل: الحور لما ذكر من صفتهن في القرآن والسُّنة،
"ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنائز: وأبْدِلْ لَهُ دَاراً خَيْراً مِنْ داره، وأبْدِلْ لَهُ زَوْجاً خَيْراً من زَوْجِه" .
وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، روي ذلك مرفوعاً.
وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النَّبيِّين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة. قاله الحسن البصري.
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هن مخلوقات في الجنة؛ لأن الله تعالى قال: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.
فصل في جمال الحور العين
"الحور": جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين مع سوادها.
و "المقصورات": المحبوسات المستورات في الخيام، وهي الحجال، لسن بالطَّوافات في الطرق، قاله ابن عباس.
وقال عمر رضي الله عنه: "الخيمة": درّة مجوفة. وقاله ابن عباس.
وقال: وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في قوله تعالى: { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ }: بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش، فخلقن من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصُورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين.
وقال مجاهد: قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبتغين بدلاً.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"لوْ أنَّ امْرأةً مِنْ نساءِ أهْلِ الجنَّة اطَّلعَتْ على أهْلِ الأرْضِ لأضاءَتْ ما بينَهُما، ولمَلأتْ ما بَيْنهُمَا ريحاً" .
وتقدَّم الكلام على قوله تعالى: { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ }.
قوله تعالى: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ }.
"الرفرف": جمع رفرفة فهو اسم جنس.
وقيل: بل هو اسم جمع. نقله مكي، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري: "والرفرف": ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة: رَفرفة.
واشتقاقه: من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطَّيران، ورفرف السحاب هبوبه.
ويدلّ على كونه جمعاً وصفه بالجمع.
وقال الراغب: رفيف الشجر: انتشار أغصانه، ورفيف الطائر نشر جناحيه، رَفَّ يَرِفُّ - بالكسر - ورفَّ فرخه يرُفُّه - بالضم - يفقده، ثم استعير للفقدِ، ومنه: "ما له حاف ولا رافّ"، أي: من يحفه ويتفقده، والرفرف: المنتشر من الأوراق.
وقوله: { عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ } ضرب من الثياب مشبه بالرياض.
وقيل: الرفرف طرف الفُسْطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد.
وذكر الحسن: أنه البُسُط.
وقال ابن جبير، وابن عباس أيضاً: رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن.
وقال ابن عيينة: هي الزَّرابي.
وقال ابن كيسان: هي المرافق.
وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب.
وقيل: الفرش المرتفعة.
وقيل: كل ثوب عريض عند العرب، فهو رفرف.
قال القرطبي: "وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: فرُفِعَ الرَّفْرَفُ فَرأيْنَا وَجْهَهُ كأنَّهُ ورقَةٌ تُخَشْخِشُ".
أي: رفع طرف الفسطاط.
وقيل: أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضًّا نضيراً.
قال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز: رفّ يرفّ رفيفاً. حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرَّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به، وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذّذ به مع أنيسه، قاله الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول".
قال: فالرفرف أعظم خطراً من الفرش، فذكر في الأوليين
{ { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن: 54].
وقال هنا: { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ }.
فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح.
ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاء الرفرف فتناوله من جبريل، وطار به إلى سند العرش، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي، ثم لما كان الانصراف تناوله، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى آواه إلى جبريل - عليه السلام -.
فـ "الرفرف": خادم من الخدم بين يدي الله - تعالى - له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدَّانيتين هو مُتَّكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه.
فصل في الكلام على قوله: خضر
قوله تعالى: "خُضْرٍ". نعت هنا بـ "خضر"؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله:
{ { وَٱلنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ق: 10] وحسن جمعه هنا جمع "حِسَان".
وقرأ العامة: "رفرف" وقرأ عثمان بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم: "رفَارِفَ خُضْرٍ" بالجمع وسكون الضاد.
وعنهم أيضاً "خُضُر" بضم الضاد، وهي إتباع للخاء.
وقيل: هي لغة في جمع "أفْعَل" الصفة.
قال القرطبي: وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: { متَّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان }. ذكره الثعلبي، وضم الضاد من "خُضُر" قليل.
وأنشد لـ "طرفة": [الرمل]

4665- أيُّهَا الفِتْيانُ في مَجْلِسنَا جَرِّدُوا مِنهَا وِرَاداً وشُقُرْ

وقال آخر: [البسيط]

4666- ومَا انتميْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُفٍ ولا لِئَامٍ غَداةَ الرَّوْعِ أوْزاعِ

وقرءوا: "وعَباقِريَّ" - بكسر القاف وتشديد الياء - مفتوحة على منع الصرف، وهي مشكلة.
إذ لا مانع من تنوين ياء النَّسب، وكأن هذا القارىء توهم كونها في "مفاعل" تمنع من الصرف.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "عباقريّ" منوناً ابن خالويه.
وروي عن عاصم: "رَفَارِف" بالصَّرف.
وقد يقال في من منع "عَبَاقِري": إنه لما جاور "رَفارِف" الممتنع امتنع مشاكلة.
وفي من صرف "رَفارف": إنه لما جاور "عباقِريًّا" المنصرف صرفه للتناسب، كقوله:
{ { سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً } [الإنسان: 4]. كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويًّا: "خُضَّار" كـ "ضُرَّاب" بالتشديد، و "أفْعَل، وفُعَّال" لا يعرب.
قوله: "وعَبْقريّ حِسَان".
الجمهور على أن "عبقري" منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنها بلد الجن.
قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن "عَبْقَرَ" قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.
وقال الخليل: كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر - رضي الله عنه -:
"فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه" .
وقال أبو عمرو بن العلاء، وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه" ؛ فقال: رئيس قوم وجليلهم.
وقال زهير: [الطويل]

4667- بِخَيْلٍ عليْهَا جنَّةٌ عبْقريَّةٌ جَدِيرُونَ يوماً أن ينَالُوا فَيستعْلُوا

وقال الجوهري: "العَبْقَري" موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن؛ قال لبيد: [الطويل]

4668-.................. كُهُولٌ وشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ

ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته، فقالوا: "عبقري" وهو واحد وجمع.
وفي الحديث:
"أنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ على عَبْقَرِيّ" وهو البُسُط التي فيها الأصباغ، والنقوش، والمراد به في الآية: قيل: البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل: الزَّرابي.
وقيل: الطَّنافس.
وقيل: الدِّيباج الثَّخين.
"عَبْقَرِي" جمع عبقرية، فيكون اسم جنس كما تقدم في "رفرف".
وقيل: هو واحد دالّ على الجمع، ولذلك وصف بـ "حِسَان".
قال القرطبي: وقرأ بعضهم: "عَباقِريٌّ حِسَان" وهو خطأ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته.
وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل: "كُرسيِّ وكَراسِيّ، وبُختيِّ وبخاتِي".
قوله: { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ }.
قرأ ابن عامر: "ذُو الجلالِ" بالواو، جعله تابعاً للاسم، وكذا هي مرسومة في مصاحف الشَّاميين.
قال القرطبي: "وذلك يقوي كون الاسم هو المسمّى".
والباقون: بالياء، صفة للربّ، فإنه هو الموصوف بذلك، وأجمعوا على أن الواو في الأولى إلا من استثنى فيما تقدم.
فصل في تحرير معنى تبارك
"تبارك" تفاعل من "البركة".
قال ابن الخطيب: وأصل التَّبارك من التَّبرك، وهو الدوام والثبات، ومنه برك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون فيها دائماً.
والمعنى: دام اسمه وثبت، أو دام الخير عنده؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات، لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه: علا وارتفع شأنه.
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السُّورة، فقال: "الرحمن" فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه
{ { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [الرحمن: 29] ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان، ثم قال في آخر السورة: { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي: هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله فرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض، والخليقة، والخلق، والجنة والنَّار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه فقال: { تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ }، ثم قال: { ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله.
روى الثعلبي عن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لِكُلِّ شَيءٍ عروسٌ، وعرُوسُ القرآنِ سُورةُ الرَّحمنِ، جل ذكرهُ" .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ سُورة الرَّحْمَنِ رحِمَ الله ضعفهُ، وأدَّى شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عليه" .
والله - سبحانه وتعالى - الموفق الهادي إلى الخيرات، اللهم ارحمنا برحمتك.