التفاسير

< >
عرض

وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ
٤١
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ
٤٢
وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ
٤٣
لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ
٤٤
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ
٤٥
وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ
٤٦
وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
٤٧
أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ
٤٨
قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ
٤٩
لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ
٥٠
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ
٥١
لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ
٥٢
فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ
٥٣
فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ
٥٤
فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ
٥٥
هَـٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ
٥٦
-الواقعة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ }.
لما ذكر منازل أهل الجنة وسمَّاهم أصحاب اليمين، ذكر منازل أهل النَّار، وسمَّاهم أصحاب الشمال؛ لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاء والعذاب، فقال: { مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ فِي سَمُومٍ } وهي الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، والمراد بها حر النار ولهيبها.
وقيل: ريح حارة تهب فتمرض أو تقتل، وأصله من السم كسمّ الحية والعقرب وغيرهما.
قال ابن الخطيب: "ويحتمل أن يكون هو السّم، والسّم يقال في خرم الإبرة، قال تعالى:
{ { حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلْخِيَاطِ } [الأعراف: 40]؛ لأن سم الأفعى ينفذ في مسام البدن".
وقيل: السموم يختص بما يهبّ ليلاً، وعلى هذا فقوله: "سَمُومٍ" إشارة إلى ظلمة ما هم فيه.
و "الحَمِيم": هو الماء الحارّ الذي قد انتهى حره، فهو "فَعِيل" بمعنى "فاعل" من حَمِمَ الماء، أو بمعنى "مفعول" من حم الماء إذا سخنه.
وقوله: { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ }.
"اليَحْمُوم" وزنه "يَفْعُول".
قال أبو البقاء: "من الحمم، أو الحميم".
قال القرطبي: "هو" يَفْعُول، من الحم، وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل: مأخوذ من الحُمَم وهو الفحم.
و "اليَحْمُوم": قيل: هو الدُّخان الأسود البهيم.
وقيل: هو وادٍ في جهنم.
وقيل: اسم من أسمائها. والأول أظهر.
وقيل: إنه الظُّلمة، وأصله من الحمم، وهو الفَحْم، فكأنه لسواده فحم، فسمي باسم مشتق منه، وزيادة الحرف فيه لزيادة ذلك المعنى فيه، وربما تكون الزيادة فيه جامعة بين الزيادة في سواده، والزيادة في حرارته.
قال ابن الخطيب: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً؛ لأنهم إن تعرَّضوا لمهبّ الهواء أصابهم السَّمُوم، وإن استكنُّوا كما يفعله الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان في الكِنِّ يكون في ظل من يحموم، وإن أراد التبرُّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم، فلا انفكاك له من العذاب، أو يقال: إنَّ السموم يعذبه فيعطش، وتلتهب نار السَّموم في أحشائه، فيشرب الماء، فيقطع أمعاءهُ، فيريد الاستظلال بظلّ، فيكون ذلك الظلّ ظل اليَحْمُوم.
وذكر السموم دون الحميم دون النَّار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، كأنه قيل: أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرها.
قال الضَّحاك: النار سوداء، وأهلها سُود، وكل ما فيها أسود.
قوله: { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } صفتان للظلّ، كقوله: "مِنْ يَحْمُومٍ".
وفيه أنه قدم غير الصريحة على الصريحة، فالأولى أن تجعل صفة لـ "يحموم"، وإن كان السياق يرشد إلى الأول.
وقرأ ابن أبي عبلة: { لا بَارِدٌ ولا كريمٌ } برفعهما: أي: "هُوَ لا بَارِدٌ".
كقوله: [الكامل]

4692-....................... فَأبِيتُ لا حَرجٌ ولا مَحْرُومُ

قال الضَّحاك: "لا بَارِدٍ" بل حار؛ لأنه من دخان سعير جهنم، "ولا كَرِيم" عذب.
وقال سعيد بن المسيّب: ولا حسن منظره، وكل ما لا خير فيه، فليس بكريم.
وقيل: { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } أي: من النَّار يعذبون بها كقوله تعالى:
{ { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر: 16].
قال الزمخشري: "كرم الظل نفع الملهوف، ودفع أذى الحرّ عنه".
قال ابن الخطيب: ولو كان كذلك لكان البارد والكريم بمعنى واحد، والأقوى أن يقال: فائدة الظل أمران:
أحدهما: دفع الحر.
والآخر: كون الإنسان فيه مكرماً؛ لأن الإنسان في البرد يقصد الشمس ليدفأ بحرّها إذا كان قليل الثِّياب، وفي الحرّ يطلب الظِّل لبرده، فإذا كان من المكرمين يكون أبداً في مكان يدفع الحر والبرد عن نفسه، فيحتمل أن يكون المراد هذا.
ويحتمل أن يقال: الظل يطلب لأمر حسّي، وهو يرده، ولأمر عقلي وهو التّكرمة، وهذا معنى ما نقله الواحدي عن الفرَّاء بنفي كل شيء مستحسن، فيقولون: "الدار لا واسعة ولا كريمة".
قوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ }.
أي: إنما استحسنوا هذه العقوبة؛ لأنهم كانوا في الدنيا متنعّمين بالحرام.
و "المُتْرَف": المنعم.
قاله ابن عباس وغيره.
وقال السُّدي: "مُتْرَفينَ" أي: مشركين.
قوله: { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ }.
الحِنْثُ في أصل كلامهم: العدل الثقيل، وسمي به الذنب والإثم لثقلهما، قاله الخطابي.
وفلان حَنِثَ في يمينه، أي لم يَفِ به؛ لأنه يأثم غالباً، ويعبر بالحِنْثِ عن البُلُوغ، ومنه قوله: "لَمْ يَبْلغوا الحِنْثَ".
وإنما قيل ذلك؛ لأن الإنسان عند بلوغه إيَّاه يؤاخذ بالحنث، أي: بالذنب، وتَحَنَّثَ فلان، أي جانب الحِنْث.
وفي الحديث:
"كَانَ يَتَحَنَّثُ بِغَارِ حِرَاءَ" ، أي: يتعبّد لمُجانبته الإثم، نحو: "تَحَرَّجَ" فتفعَّل في هذه كلِّها للسَّلْب.
فصل في تفسير الآية
قال الحسن، والضحاك، وابن زيد: { يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي: يقيمون على الشرك.
وقال قتادة ومجاهد: الذَّنْب العظيم الذي لا يتوبون منه.
وقال الشَّعبي: هو اليمين الغَمُوس، وهي من الكبائر، يقال: حنث في يمينه، أي: لم يبرّها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أنْداد الله فذلك حنثهم.
فصل في الحكمة من ذكر عذاب هذه الطائفة
قال ابن الخطيب: والحكمة في ذكره سبب عذابهم، ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين، وذلك تنبيه على أن ذلك الثواب منه فضل، والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه، أو لم يذكره لا يتوهّم بالمتفضل نقص وظلم.
وأمَّا العدل إن لم يعلم سبب العقاب، يظن أن هناك ظلماً، ويدلّ على أنه تعالى لم يقل في أصحاب اليمين:
{ { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الواقعة: 24] كما قاله في السَّابقين؛ لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل، بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
واعلم أن المترف هو المنعم، وذلك لا يوجب ذمًّا، وإنما حصل لهم الذم بقوله: { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ }، فإن صدور المعاصي ممن كثرت النِّعم عليه [من] أقبح القبائح، فقال: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ }، ولم يشكروا نعم الله، بل أصروا على الذنب العظيم.
وفي الآية مبالغة؛ لأن قوله: { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } يقتضي أن ذلك عادتهم، والإصرار على مُدَاومةِ المعصية والحنث أبلغ من الذنب؛ لأن الذنب يطلق على الصغيرة، ويدل على ذلك قولهم: "بَلَغَ الحِنْثَ" أي: بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة.
وأما الصغيرة فتلحقُ الصغير، فإن وليَّهُ يعاقبه على إسَاءَة الأدب، وترك الصلاة، ولأن وصفه بالعظيم مبالغة. قاله ابن الخطيب.
قوله تعالى: { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا } الآية.
هذا استبعاد منهم للبعث وتكذيب له، وقد تقدّم الكلام على ذلك في "والصَّافات"، وتقدم الكلام على الاستفهامين في سورة "الرَّعْد".
فإن قيل: كيف أتى بـ "اللام" المؤكدة في قوله تعالى: { لَمَبْعُوثُونَ }، مع أن المراد هو النفي، وفي النفي لا تدخل "اللام" في خبر "إنَّ"، تقول: "إنَّ زيداً ليجيء، وإنَّ زيداً لا يجيء" فلا تذكر "اللام"، ومرادهم بالاستفهام: الإنكار، بمعنى إنا لا نبعث؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: عند التصريح بالنفي وصيغته، يجب التصريح بالنفي وصيغته.
والثاني: أنهم أرادوا تكذيب من يخبر عن البعث، فذكروا أن المخبر عنه يبالغ في الإخبار، ونحن ننكر مبالغته وتأكيده، فحكوا كلام المخبر على طريقة الاستفهام والإنكار، ثم إنهم أشاروا في الإنكار إلى أمور اعتقدوها مقررة لصحة إنكارهم، فقالوا: "أئِذَا مِتْنَا" ثم لم يقتصروا عليه، بل قالوا بعده: { وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } أي: وطال عهدنا بعد كوننا أمواتاً حتى صارت اللحوم تراباً، والعظامُ رفاتاً ثم زادوا وقالوا: مع هذا يقال لنا: إنكم لمبعوثون بطريق التأكيد من ثلاثة أوجه:
أحدها: استعمال "إنَّ".
ثانيها: إثبات "اللام" في خبرها.
ثالثها: ترك صيغة الاستقبال، والإتيان بالمفعول كأنه كائن، ثم زادوا وقالوا: { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } فقال الله تعالى لهم: "قُلْ" يا محمد { إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ } من آبائكم، و { وَٱلآخِرِينَ } منكم { لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } يعني: يوم القيامة.
ومعنى الكلام: القسم ودخول "اللام" في قوله تعالى: { لَمَجْمُوعُونَ } هو دليل القسم في المعنى، أي: إنكم لمجمُوعون قسماً حقًّا، بخلاف قسمكم الباطل.
قوله: { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ } عن الهدى { ٱلْمُكَذِّبُونَ } بالبعث { لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ }، وهو شجر كريه المَنْظَر كريه الطعم، وهو المذكور في سورة "والصَّافَّات".
وهذا الخطاب عامّ، وقيل: لأهل "مكة"، وهو من تمام كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقدم هنا الضَّالين على المكذبين في آخر السورة، قال:
{ { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } [الواقعة: 92]، فقدم المكذبين على الضَّالين؛ لأنهم هنا أصرُّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل، ثم كذبوا الرسول، وقالوا: "أئذا مِتْنَا".
وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص، أو يقال: إنَّ الكلام هنا مع الكُفَّار وهم ضلوا أولاً، وكذبوا ثانياً، وفي آخر السورة الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فقدم التكذيب به إظهاراً للعناية به صلى الله عليه وسلم.
قوله: { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ }. فيه أوجه:
أحدها: أن تكون "من" الأولى لابتداء الغاية، والثانية للبيان، أي: مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم.
الثاني: أن تكون "من" الثَّانية صفة لـ "شجر" فيتعلق بمحذوف أي: مستقر.
الثالث: أن تكون الأولى مزيدة، أي: لآكلون شجراً، و "من" الثانية على ما تقدم من الوجهين.
الرابع: عكس هذا، وهو أن تكون الثانية مزيدة، أي: لآكلون زقُّوماً، و "من" الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من "زقّوم" أي: كائناً من شجر، ولو تأخَّر لكان صفة.
الخامس: أن "من شجر" صفة لمفعول محذوف، أي: لآكلون شيئاً من شجر و "مِنْ زقُّومٍ" على هذا نعت لـ "شجر" أو لشيءٍ محذوف.
السادس: أن الأولى للتبعيض، والثانية بدل منها.
قوله: { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ }.
الضمير في "منها" عائد على الشجر، وفي "عليه" للشجر أيضاً.
وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه، وأنهما لغتان.
وقيل: الضمير في "عليه" عائد على "الزَّقُّوم".
وقال أبو البقاء: للمأكول.
وقال ابن عطية: "للمأكول أو الأكل" انتهى.
وفي قوله: "الأكْل" بُعْد.
وقال الزمخشري: "وأنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في "منها" و "عليه"، ومن قرأ: { مِن شَجَرَةٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم؛ لأنه تفسيرها".
فصل في تحرير معنى الزقوم
قال ابن الخطيب: "اختلفت أقوال الناس في "الزقوم"، وحاصل الأقوال يرجع إلى كون ذلك في الطَّعم مرًّا، وفي اللمس حارًّا، وفي الرائحة منتناً، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يَسيغهُ.
والتحقيق اللغوي فيه أن الزَّقوم لغة عربية، ودلنا تركيبه على قبحه؛ لأن "ز ق م" لم يجتمع إلا في مهمل، أو في مكروه.
يقال منه: مَزَقَ يَمْزقُ، ومنه: زَمَقَ شعره إذا نتفه، ومنه "القَزْمُ" للدَّناءة واللؤم.
وأقوى من هذا أن "القاف" مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه، فالقاف مع "الميم" كـ "القمامة والتَّقَمْقُم والقُمْقُمة"، وبالعكس "المقامق" لتغليظ الصوت، و "المَقْمَقَة" هو الشق.
وأما القاف مع الزاي فـ "الزق" رمي الطائر بذرقه، والزَّقْزقة: للخفة، وبالعكس - القزنوب - فينفر الطَّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقُبْح، ثم قرن بالأكل، فدلَّ على أنه طعام ذو غُصَّة.
وأما ما يقال: بأن العرب تقول: "زَقَمْتَنِي" بمعنى: أطعمتني الزّبد والعسل واللَّبن، فذلك للمجانة، كما يقال: ارشقني بثوب حسن، وارجمني بكيس من ذهب".
وقد تقدم الكلام على الزَّقُوم في "والصَّافات".
وقوله: { فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ }.
بيان لزيادة العذاب، أي: لا يكتفى منكم بنفس الأكل، كما يكتفى ممن يأكل الشَّيء لتحلّة القسم، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون.
وقوله: "البُطُون" إما مقابلة الجمع بالجمع، أي: يملأ كل واحد منكم بطنه.
وإما أن يكون لكل واحد بطون، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء، والأول أظهر، والثاني أدخل في التعذيب.
قوله: { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي: على الأكل، أو على الزَّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار.
قوله: { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ }.
وهذا أيضاً بيان لزيادة العذاب، أي: لا يكون شربكم كمن شرب ماء حارًّا مُنْتِناً، فيمسك عنه، بل يلزمون أن يشربوا منه مثل ما يشرب الأهْيم، وهو الجمل العطشان، فيشرب ولا يروى.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة: بضم الشين من "شُرْب".
وباقي السبعة بفتحها.
ومجاهد وأبو عثمان النهدي: بكسرها.
فقيل: الثلاث لغات في مصدر "شرِبَ"، والمقيس منها إنما هو المفتوح، والمضموم والمكسور اسمان لما يشرب كـ "الرَّعْي" و "الطَّحْن".
قال القرطبي: "تقول العرب: "شَرِبْتُ شُرْباً وشَرْباً وشِرْباً وشُرُباً" بضمتين".
قال أبو زيد: سمعت العرب تقول: بضم الشِّين وفتحها وكسرها.
والفتح هو المصدر الصحيح؛ لأن كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله "فَعْل"؛ ألا ترى أنك تردّه إلى المرة الواحدة، فتقول: "فَعْلَة" نحو "شَرْبة".
وقال الكسائي يقال: "شربت شُرْباً وشَرْباً".
ويروى قول جعفر: "أيَّامُ مِنى أيَّام أكْلٍ وشَرْب".
ويقال: بفتح الشين، والشرب في غير هذا اسم للجماعة الشَّاربين.
قال: [البسيط]

4693- كأنَّهُ خَارِجاً مِنْ جَنْبِ صَفْحَتِهِ سَفُّودُ شَرْبٍ نَسُوهُ عندَ مُفتأدِ

و "الهِيْم" فيه أوجه:
أحدها: أنه جمع "أهْيَم أوْ هَيْمَاء"، وهو الجمل والنَّاقة التي أصابها الهيام، وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت، أو تسقم سقماً شديداً. والأصل: "هُيْم" - بضم "الهاء" - كـ "أحْمر وحُمْر، وحَمرَاء وحُمْر" فقلبت الضمة كسرة لتصح "الياء"، وذلك نحو "بِيض" في "أبْيَض".
وأنشد لذي الرّمة: [الطويل]

4694- فأصْبَحْتُ كالهَيْمَاءِ، لا المَاءُ مُبْرِدٌ صَداهَا، ولا يَقْضِي عليْهَا هُيَامُهَا

الثاني: أنَّه جمع "هَائِم وهَائمة" من "الهيام" أيضاً، إلا أن جمع "فَاعِل وفاعِلَة" على "فُعل" قليل، نحو: "نَازِل ونُزُل، وعائذ وعُوذ".
ومنه: [الطويل]

4695-....................... عُوذٍ مَطَافِلِ

وقوله: "العوذ المطافيل".
وقيل: هو من "الهيَام" وهو الذهاب؛ لأن الجمل إذا أصابه ذلك هَامَ على وجهه.
الثالث: أنه جمع "هَيَام" بفتح الهاء، وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً، فيكون مثل "سَحَاب وسُحُب" - بضمتين - ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصحّ "الياء" كما فُعِلَ بالذي قبله.
[الرابع: أنه جمع "هُيَام" - بضم الهاء - وهو الرمل المتماسك، مبالغة في "الهيام" بالفتح. حكاها ثعلب.
إلا أن المشهور الفتح، ثم جمع على "فُعُل" نحو: "قَرَاد وقُرُد"، ثم خفف وكسرت فاؤه] [لتصح "الياء"].
وفي "الصحاح": "والهُيَام - بالضَّم - أشدّ العطش، و "الهيام" كالجنون من العشق، و "الهَيْمَاء" أيضاً: المفازة لا ماء بها، و "الهِيَام" - بالكسر - العطاش".
والمعنى: أنَّهم يصيبهم من الجُوع ما يلجئهم إلى أكل الزَّقُّوم، ومن العطش ما يضطرهم إلى شُرْب الهيم.
وقال الزمخشري: "فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات واحدة، وصفتان متفقتان، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟.
قلت: ليستا متفقتين من حيث إن كونهم شاربين على ما هو عليه من تناهِي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الماء أمر عجيب أيضاً، فكانتا صفتين مختلفتين". انتهى.
يعني قوله: { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ }.
وهو سؤال حسن، وجوابه مثله.
وأجاب بعضهم عنه بجواب آخر، وهو أن قوله: { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } تفسير للشرب قبله.
ألا ترى أنَّ ما قبله يصلح أن يكون [مثل] شرب الهيم، ومثل شرب غيرها، ففسره بأنه مثل شرب هؤلاء البهائم أو الرمال، وفي ذلك فائدتان:
إحداهما: التنبيه على كثرة شربهم منه.
والثانية: عدم جَدْوى الشرب، وأن المشروب لا ينجع فيهم كما لا ينجع في الهِيْمِ على التفسيرين.
وقال أبو حيَّان: ""والفاء" تقتضي التعقيب في الشربين، وأنهم أولاً لما عطشوا شربُوا من الحميم ظنًّا منهم أنه ليسكن عطشهم، فازدادوا عطشاً بحرارة الحميم، فشربوا بعده شرباً لا يقع بعده ريٌّ أبداً، وهو مثل شرب الهيم، فهما شربان من الحميم لا شرب واحد اختلفت صفتاه فعطف، والمقصود: الصفة، والمشروب منه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ ٱلْهِيمِ } محذوف لفهم المعنى، تقديره: فشاربون منه" انتهى.
قال شهاب الدين: "والظَّاهر أنه شرب واحد، بل الذي يعتقد هذا فقط، وكيف يناسب أن يكون زيادتهم العطش بشربة مقتضية لشربهم منه ثانياً".
قوله: { ٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ ٱلدِّينِ }.
قرأ العامة: "نُزُلُهُمْ" بضمتين.
وروي عن أبي عمرو من طرق.
وعن نافع وابن محيصن: بضمة وسكون، وهو تخفيف.
و "النُّزُل": ما يعدّ للضيف.
وقيل: هو أول ما يأكله، فسمي به هذا تهكّماً بمن أعد له.
وهو في المعنى كقول أبي الشعر الضَّبي: [الطويل]

4696- وكُنَّا إذا الجَبَّارُ أنْزَلَ جَيْشَهُ جعلنَا القَنَا والمُرهفاتِ لَهُ نُزْلا

ومعنى الآية: هذا أول ما يلقونه من العذاب يوم القيامة كالنُّزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، [وفيه] تهكم، كقوله تعالى: { { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 34].