التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ
٧٥
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
٧٦
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ
٧٧
فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ
٧٨
لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ
٧٩
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٨٠
أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ
٨١
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
٨٢
-الواقعة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ }.
قرأ العامة: "فَلاَ" لام ألف.
وفيه أوجه:
أحدها: أنها حرف نفي، وأنَّ النفي بها محذوف، وهو كلام الكافر الجاحد، تقديره: فلا حجة لما يقول الكُفَّار، ثم ذكر ابتداء قسماً بما ذكر.
وإليه ذهب كثير من المفسِّرين والنحويين.
قال الفرَّاء: "هي نفي، والمعنى: ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف [القسم]، كما تقول: "لا والله ما كان كذا" ولا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدم، أي: ليس الأمر كما ذكر، بل هو كذا".
وضعِّف هذا بأن فيه حذف اسم "لا" وخبرها.
قال أبو حيَّان: "ولا يجوز ولا ينبغي، فإنَّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ خبر القرآن وبحره عبد الله بن عباس.
ويبعد أن يقوله إلا بتوقيفٍ".
الثاني: أنَّها زائدة للتأكيد. والمعنى: فأقسم، بدليل قوله: وإنه لقسم، ومثله في قوله تعالى:
{ { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [الحديد: 29]، والتقدير: ليعلم.
وكقوله: [الطويل]

4706- فَلاَ وأبِي أعْدائِهَا لا أخُونُهَا

الثالث: أنها لام الابتداء، والأصل: فلأقسم، فأشبعت الفتحة، فتولّد منها ألف.
كقوله: [الرجز]

4707- أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ

قاله أبو حيَّان.
واستشهد بقراءة هشام: "أفئيدة".
قال شهاب الدين: "وهذا ضعيف جدًّا".
واستند أيضاً لقراءة الحسن وعيسى: "فلأقسم" بلام واحدة.
وفي هذه القراءة تخريجان:
أحدهما: أن "اللام" لام الابتداء، وبعدها مبتدأ محذوف، والفعل خبره، فلما حذف المبتدأ اتصلت "اللام" بخبره، وتقديره: "فلأنا أقسم" نحو: "لزيد منطلق".
قاله الزمخشري وابن جني.
والثاني: أنها لام القسم دخلت على الفعل الحالي، ويجوز أن يكون القسم جواباً للقسم، كقوله:
{ { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ } [التوبة: 107]، وهو جواب لقسم مقدر ويجوز أن يكون القسم كذلك وهذا هو قول الكوفيين، يجيزون أن يقسم على فعل الحال. والبصريون يأبونه، ويخرجون ما يوهم ذلك على إضمار مبتدأ، فيعود القسم على جملة اسمية.
ومنع الزمخشري أن تكون لام القسم.
قال: لأمرين:
أحدهما: أن حقها أن تقرن بالنون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيحٌ.
والثاني: أن "لأفعلن" في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
يعني أن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال.
وأمَّا قوله: "إنَّ حقَّها أن تقرن بها النون"، هذا مذهب البصريين أيضاً. وأمَّا الكوفيون فيجيزون التَّعاقب بين اللام والنون، نحو: "والله لأضرب زيداً" كقوله: [الطويل]

4708- لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَليْكُم بُيُوتكُمْ ليَعْلَمُ ربِّي أنَّ بَيْتِيَ واسِعُ

و "الله اضربن زيداً".
كقوله: [الكامل]

4709- وقَتِيلِ مُرَّة أثأَرَنَّ... ........................

وقد تقدم قريب من هذه الآية في قوله تعالى: { { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ } [النساء: 65]، ولكن هناك ما لا يمكن القول به هنا، كما أن هنا ما لا يمكن القول به هناك، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - قريب منه في "القيامة" في قراءة ابن كثير: { لأُقْسِمُ بِيَومِ القِيامَةِ } [القيامة: 1].
قال القرطبي: وقيل: "لا" بمعنى "ألاَ" للتنبيه، كقوله: [الطويل]

4710- ألا عِمْ صَبَاحاً أيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي .......................

ونبَّه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، فإنه ليس بشعر، ولا سحر، ولا كهانة كما زعموا.
وقرأ العامة: "بمواقع" جمعاً.
والأخوان: "بموقع" مفرداً بمعنى الجمع؛ لأنه مصدر فوحَّد.
ومواقعها: مساقطها ومغاربها. قاله قتادة وغيره.
وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة.
وقيل: المراد نجوم القرآن. قاله ابن عباس والسدي، ويؤيده: "وإنه لقسم" و "إنَّه لقُرآن كريم".
وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها.
وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت أهل الجاهلية، تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا.
وقال الماوردي: ويكون قوله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ } مستعملاً على الحقيقة من نفي القسم.
وقال القشيري: هو قسم، ولله أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله - تعالى - وصفاته القديمة.
قال القرطبي: "ويدلُّ على هذا قراءة الحسن: فلأقسم".
قوله: "وإنه قسم - لو تعلمون - عظيم".
الضمير عائد على القسم الذي تضمنه قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ }؛ لأن "أقسم" يتضمن ذكر المصدر، ولهذا توصف المصادر التي لم تظهر بعد الفعل فيقال: "ضربته قويًّا".
فإن قيل: جواب "لو تعْلَمُونَ" ماذا؟.
قال ابن الخطيب: ربما يقول بعض من لا يعلم بأن جوابه ما تقدم، وهو فاسد في جميع المواضع؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم؛ لأن عمل الحروف في معمولاتها لا يكون قبل وجودها، فلا يقال: زيداً إن قام.
فالجواب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقال: الجواب محذوف بالكلية بحيث لا يقصد لذلك جواب، وإنما يراد نفي ما دخلت "لو" فكأنه قال: وإنه لقسمٌ عظيم لو تعلمون.
وتحقيقه: أن "لو" تذكر لامتناع الشيء لامتناع غيره، فلا بُدَّ فيه من انتفاء الأول، فإدخال "لو" على "تعلمون" أفاد أن علمهم منتفٍ، سواء علمنا الجزاء أم لم نعلم.
وهذا كقولهم في الفعل المتعدِّي: فلان يعطي ويمنع، حيث لا يقصد منه مفعولاً، وإنما يراد إثبات القدرة.
الثاني: أنَّ جوابه مقدر، تقديره: لو تعلمون لعظَّمتموه، لكنكم ما عظَّمتموه، فعلم أنكم لا تعلمون، إذ لو تعلمون لعظم في أعينكم، ولا تعظيم فلا تعلمون.
قوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }.
هذا هو القسم عليه، وعلى هذا فيكون في هذا الكلام اعتراضان:
أحدهما: الاعتراض بقوله: "وإنه لقسم" بين القسم والمقسم عليه.
والثاني: الاعتراض بقوله: "لو تعلمون" بين الصفة والموصوف.
ومنع ابن عطية أن يجعل قوله: "وإنه لقسمٌ" اعتراضاً.
فقال: "وإنه لقسم" تأكيد للأمر، وتنبيه من المقسم به، وليس هذا باعتراض بين الكلامين، بل هذا معنى قصد التهكُّم به، وإنما الاعتراض قوله: { لَّوْ تَعْلَمُونَ }.
قال شهاب الدين: "وكونه تأكيداً ومنبّهاً على تعظيم المقسم به لا ينافي الاعتراض، بل هذا معنى الاعتراض وفائدته".
"والهاء" في "إنه لقرآن" تعود على القرآن، أي: إن القرآن لقسم عظيم.
قاله ابن عبَّاس وغيره.
وقيل: أي ما أقسم الله به عظيم { إنه لقرآن كريم } ذكر المقسم عليه، أي: أقسم بمواقع النجوم أن هذا القرآن قرآن ليس بسحرٍ ولا كهانة ولا بمفترى، بل هو قرآن كريم، محمود جعله الله معجزة نبيه، وهو كريم على المؤمنين؛ لأنَّه كلام ربهم وشفاء صدورهم، كريم على أهل السماء والأرض؛ لأنه تنزيل ربهم ووحيه.
وقيل: "كريم" أي: غير مخلوق.
وقيل: "كريم" لما فيه من كرم الأخلاق، ومعالي الأمور.
وقيل: لأنه يكرم حافظه، ويعظم قدره.
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب: "كريم" أي: لا يهون بكثرة التلاوة؛ لأن الكلام متى أعيد وكرر استهين به، والقرآن يكون إلى آخر الدهر، ولا يزداد إلاَّ عزاً. والقرآن إما كـ "الغُفْرَان"، والمراد به المفعول، وهو المقروء كقوله: [هَذَا خلقُ اللَّه] وإما اسم لما يقرأ كـ "القُرْبَان" لما يتقرب به، والحُلْوان لما يحلى به فم الكاهن، وعلى هذا يظهر فساد قول من رد على الفقهاء قولهم في باب الزَّكاة: يعطي شيئاً أعلى مما وجب ويأخذ الجبران أو شيئاً دونه، ويعطي الجبران لأن الجبران مصدر لا يؤخذ ولا يعطى، فيقال له: هو كالقرآن بمعنى المقرُوء.
فمعنى "كريم" أي: مقروء، قرىء: ويقرأ بالفتح، فإن معنى "كريم" أي: لا يهون بكثرة التلاوة، ويبقى أبد الدَّهر كالكلام الغضِّ، والحديث الطَّري.
وهو هنا يقع في وصف القرآن بالحديث، مع أنه قديم يستمد من هذا مدداً، فهو قديم يسمعه السَّامعون كأنه كلام [الساعة].
فصل
قوله: { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ }. مصون عند الله.
وقيل: "مَكْنُون" محفوظ عن الباطل، والكتاب هنا: كتاب في السَّماء.
قاله ابن عبَّاس.
وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضاً: هو اللوح المحفوظ.
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن.
وقال السدي: الزَّبُور.
وقال قتادة ومجاهد: هو المصحف الذي في أيدينا.
فصل في تفسير معنى الآية
قال ابن الخطيب: قوله تعالى: { فِي كِتَابٍ } يستدعي شيئاً مظروفاً للكتاب وفيه وجهان:
أحدهما: أنه القرآن، أي: هو قرآن في كتاب، كقولك: "فلان رجلٌ كريم في نفسه" لا يشك السامع بأن المراد منه أن في الدَّار قاعد، وأنه لا يريد به أنه رجل إذا كان في الدَّار غير رجل إذا كان خارجاً، ولا يشك أيضاً أنه لا يريد أنه كريم وهو في البيت، فكذلك هاهنا معناه: أنه كريم في كتاب.
فإذا قيل: "فلان رجل كريم في نفسه" يعلم كل أحد أن القائل لم يجعله رجلاً مظروفاً، وأن القائل لم يرد أنه رجل في نفسه قاعد أو قائم، وإنما أراد أن كرمه في نفسه، وكذا قوله: "قرآن كريم، في لوح" أي: أنه لم يكن كريماً عند الكُفَّار.
الثاني: أن المظروف هو مجموع قوله تعالى: { لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي: هو كذا في كتاب كقوله تعالى
{ { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } [المطففين: 19]، كتاب أي: في كتاب الله تعالى.
والمعنى: أن في اللوح المحفوظ مكتوب: إنه قرآن كريم.
فصل في معنى الكتاب
قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف سمي الكتاب كتاباً، والكتاب "فِعَال" وهو إما مصدر كالحِساب والقِيام ونحوهما، أو لما يكتب كاللِّباس ونحوه، وكيفما كان، فالقرآن لا يكون في القِرْطَاس؛ لأنه بمعنى المصدر، ولا يكون في مكتوب، وإنما يكون مكتوباً في لوح، أو ورق، فالمكتوب لا يكون في الكتاب، وإنما يكون في القرطاس؟.
وأجاب بأن اللوح لما لم يكن إلاَّ لأن يكتب فيه صح تسميته كتاباً.
وقوله: { فِي كِتَابٍ } إما خبر بعد خبر، وإما صفة لـ "كريم"، وإما معمول لـ "كريم".
والأصح أنَّ الكتاب المكنون هو اللوحُ المحفوظ، لقوله تعالى:
{ { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21، 22].
قوله: { لاَّ يَمَسُّهُ }.
في "لا" هذه وجهان:
أحدهما: أنها نافية، فالضمة في "لا يمسُّه" ضمة إعراب.
وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان:
أحدهما: أن محلها الجر صفة لـ "كتاب"، والمراد به: إما اللوح المحفوظ، و "المُطَهَّرون" حينئذ: الملائكة، أو المراد به المصاحف، والمراد بـ "المطهرين": المكلفون كلهم.
والثاني: أن محلها الرفع صفة لـ "قرآن". والمراد بـ "المطهرين": الملائكة فقط، أي: لا يطلع عليه، أو لا يمسّ لوحه، لا بد من هذين التجوزين؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر.
ويؤيد كون هذه نفياً قراءة عبد الله: "ما يمسّه" بـ "ما" النافية.
الوجه الثاني: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه، كقوله تعالى:
{ { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ } [آل عمران: 174] ولكنه أدغم، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب.
ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم.
وفي الحديث:
"إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عليك إلاَّ أنَّنَا حرمٌ" .
وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفاً، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهياً لكان يقال: "لا يمسّه" بالفتح؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل "الهاء" في هذا النحو، لا سيما على رأي سيبويه، فإنه لا يجيز غيره.
وقد ضعف ابن عطيَّة كونها نهياً بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك: "تَنْزِيل" صفة، فإذا جعلناه نهياً كان أجنبيًّا معترضاً بين الصِّفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره، وفي حرف ابن مسعود: "ما يمسه". انتهى.
وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول؛ لأنا لا نسلّم أن "تنزيل" صفة، بل هو خبر مبتدأ محذوف، أي: "هو تنزيل" فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض.
ولئن سلّمنا أنه صفة فـ "لا يمسّه" صفة أيضاً، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول، أي: نقول فيه: "لا يمسّه" كما قالوا ذلك في قوله:
{ { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } [الأنفال: 25] على أن "لا تُصِيبن" نهي.
وهو كقوله: [مشطور الرجز]

4711- جَاءُوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْت الذِّئْبَ قَط؟

وقد تقدم تحقيقه في "الأنفال".
وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المُحْدث المصحف، وهو مبني على هذا.
وقرأ العامة: "المُطَهَّرُونَ" بتخفيف الطَّاء، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول.
وعن سلمان الفارسي كذلك إلا أنه يكسر الهاء، اسم فاعل، أي: المطهرون أنفسهم، فحذف مفعوله.
ونافع وأبو عمرو في رواية عنهما، وعيسى بسكون الطاء، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من "أطْهَر زيد".
والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضاً: "المطَّهِّرون" بتشديد الطَّاء والهاء المكسورة، وأصله: "المُتطهرون" فأدغم.
وقد قرىء بهذا على الأصل أيضاً.
فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية
اختلفوا في المسّ المذكور في الآية، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون مَنْ هم؟.
فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمسّ ذلك إلاَّ المطهرون من الذنوب وهم الملائكة.
وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة، والرسل من بني آدم.
وقال الكلبي: هم السَّفرة، الكِرَام البررة، وهذا كله قول واحد، وهو اختيار مالك.
وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة "عبس" في قوله تعالى:
{ { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [عبس: 13 - 16].
وقيل: معنى "لا يمسّه" لا ينزل به إلا المطهرون، يعني: الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلاَّ الملائكة المطهرون.
ولو كان المراد طهر الحدث لقال: المتطهرون أو المطهرون بتشديد "الطاء".
والصحيح أن المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا؛ لما روى مالك وغيره: أن في كتاب عمرو بن حزم: "لا يمسّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ".
وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تمسَّ القُرآنَ إلاَّ وأنْتَ طاهرٌ" .
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } فقام واغتسل، وأسلم.
وعلى هذا قال قتادة وغيره: معناه: لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس.
وقال الكلبي: من الشِّرْك.
وقال الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.
وقال محمد بن فضيل وعبدة: لا يقرؤه إلا المطهرون، أي: إلاَّ الموحدون.
قال عكرمة: وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته.
وقال الفراء: لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون، أي: المؤمنون بالقرآن، وقال الحسين بن الفضل: معناه: لا يعرف تفسيره وتأويله إلاَّ من طهَّره الله من الشِّرْك والنفاق.
وقال أبو بكر الورَّاقُ: لا يوفق للعمل به إلا السُّعداء.
وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المعنى: لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون.
فصل في مس المصحف لغير المتوضىء
اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء.
فالجمهور على المَنْع من مسِّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعطاء، والزهري، والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشَّافعي.
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة.
فروي عنه أنه يمسّه المحدث، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه، وما ليس بمكتوب.
وأمَّا [الكتاب] فلا يمسّه إلاَّ طاهر.
قال ابن العربي: وهذا يقوي الحجة عليه؛ لأن جِرْمَ الممنوع ممنوع، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه.
وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلامة، ولا على وسادة.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك.
وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي: أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهراً أو محدثاً، إلاَّ أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى "قيصر"، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة.
والمراد بالقرآن: المصحف، سمي قرآناً لقرب الجوار على الاتِّساع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. أراد به المصحف.
قوله: { تَنزِيلٌ }.
قرأ العامة: بالرفع.
وقرأ بعضهم: "تنزيلاً" بالنصب، على أنه حال من النكرة، وجاز ذلك لتخصصها بالصفة.
وأن يكون مصدراً لعامل مقدر، أي: نزل تنزيلاً.
وغلب التنزيل على القرآن.
وقوله: "من ربّ" يجوز أن يتعلق به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكد لا يعمل، فيتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة له.
وأما على قراءة "تَنزِيلٌ" بالرفع، فيجوز الوجهان.
قال القرطبي: "تنزيل" أي: منزل، كقولهم: "ضَرْب الأمير، ونَسْج اليمن".
وقيل: "تنزيل" صفة لقوله تعالى: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }.
وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: هو "تنزيل".
قال ابن الخطيب: قوله "تنزيل" مصدر، والقرآن الذي في كتاب ليس بتنزيل، إنما هو منزل لقوله تعالى:
{ { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193]، فنقول: ذكر المصدر، وإرادة المفعول كثير، كقوله تعالى: { { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ } [لقمان: 11] وأوثر المصدر؛ لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر.
قوله: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } متعلق بالخبر، وجاز تقديمه على المبتدأ؛ لأن عامله يجوز فيه ذلك، والأصل: أفأنتم مدهنون بهذا الحديث، وهو القرآن.
ومعنى "مُدْهِنُون" أي: متهاونون كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه، ولا يتصلب فيه تهاوناً به، يقال: أدهن فلان، أي: لاين وهاود فيما لا يجمل عنه المدهن.
قال أبو قيس بن الأسلت: [السريع]

4712- الحَزْمُ والقُوَّةُ خَيْرٌ من الْـ إدْهَانِ والفَهَّةِ والهَاعِ

وقال الراغب: والإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ، كما جعل التَّقريد وهو نزع القراد عبارة عن ذلك.
قال القرطبي: "وأدهن وداهن واحد، وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت".
قال ابن عبَّاس: "مُدْهِنُون" أي: مكذبون. وهو قول عطاء وغيره.
والمدهن: الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبّه بالدهن في سهولة ظاهره.
وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: "مدهنون" كافرون، نظيره:
{ { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم: 9].
وقال المؤرِّج: المدهن: المنافق الذي يلين جانبه ليُخفي كفره.
والإدْهَان والمُداهنَة: التكذيب والكفر والنِّفاق.
وقال الضحاك: "مُدْهنون" معرضون.
وقال مجاهد: مُمَالِئُون الكُفَّار على الكفر به.
وقال ابن كيسان: المدهن: الذي لا يعقل ما حق الله عليه، ويدفعه بالعللِ.
وقال بعض اللغويين: "مُدْهنون": تاركُون للجزمِ في قبول القرآن.
قوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ }.
فيه أوجه:
أحدها: أنه على التهكم بهم، لأنهم وضعوا الشيء غير موضعه، كقولك: شتمني حيث أحسنت إليه، أي: عكس قضية الإحسان.
ومنه: [الرجز]

4713- كَأنَّ شُكْر القَوْمِ عندَ المِنَنِ كيُّ الصَّحِيحاتِ، وفقْءُ الأعيُنِ

أي: شكر رزقكم تكذيبكم.
الثاني: أن ثمَّ مضافين محذوفين، أي: بدل شكر رزقكم، ليصح المعنى.
قاله ابن مالك.
وقد تقدم في قوله تعالى:
{ { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [النجم: 9] أكثر من هذا.
الثالث: أنَّ الرزق هو الشكر في لغة "أزد شنوءة" يقولون: ما رزق فلان فلاناً، أي: ما شكره، فعلى هذا لا حذف ألبتة.
ويؤيده قراءة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وتلميذه عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: "وتَجْعَلُونَ شُكْركُمْ" مكان رزقكم.
قال القرطبي: "وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان الشُّكر لأنَّ شكر الرِّزق يقتضي الزيادة فيه، فيكون الشكر رزقاً لهذا المعنى".
قوله: { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }.
قرأ العامة: "تُكذِّبُونَ" من التكذيب.
وعلي - رضي الله عنه - وعاصم في رواية المفضل عنه: "تكْذبُونَ" مخففاً من الكذب.
ومعنى الآية: أنكم مكذبون بالرِّزق، أي؛ تضعون الكذب مكان الشُّكر، كقوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال: 35]، أي: لم يكونوا يصلون، ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصَّلاة.
قال القرطبي: وفيه بيان أن ما أصاب العباد من خير، فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً، بل ينبغي أن يروه من قبل الله - تعالى - ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة، أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذلُّلاً.
وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { وتجعلون شكركم أنكم تكذبون } خفيفة.
وعن ابن عباس أيضاً: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مُطِرْنَا بنوءِ كذا، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي "صحيح مسلم" عن ابن عبَّاس قال:
"مطر النَّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصْبَحَ من النَّاسِ شَاكِرٌ ومنهُمْ كَافرٌ.
فقال بعضهم: هذه رحمة الله؛ وقال بعضهم: لقد صدق نَوْء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } حتى بلغ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }"
.
وعنه أيضاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيْتُمْ إن دعوْتُ اللَّهَ لكُم فسُقيْتُمْ لعلَّكمْ تقولون: هذا المطرُ بنَوْءِ كذا، فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلّى ركعتين، ودعا ربه، فهاجتْ ريح، ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابةٌ من أصحابه برجل يغترف بقدح له، وهو يقول: سقينا بنوء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله، فنزلت: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }" .
أي: شكركم لله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا، كقولك: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ، وجعلت إنعامي إليك أن اتَّخذتني عدُوًّا.
قال الشَّافعي: لا أحب لأحدٍ أن يقول: مُطِرنَا بنوء كذا، وإن كان النَّوْءُ عندنا الوقت المخلوق لا يضر، ولا ينفع، ولا يمطر، ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحبّ أن يقول: مطرنا وقت كذا، كما تقول: مطرنا شهر كذا، ومن قال: مطرنا بنوءِ كذا، وهو يريد أن النَّوء أنزل الماء كما يقول بعض أهل الشِّرك فهو كافر، حلال دمه إن لم يَتُبْ.
وقيل: معنى قوله: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي: معاشكم وتكسبكم تكذيب محمد، كما يقال: فلان جعل قطع الطريق معاشه، فعلى هذا التَّكذيب عام، وعلى الأول التكذيب خاص والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق، كما يقال للمأكول: رِزْق، وللمقدور: قُدْرة وللمخلوق: خَلْق.