التفاسير

< >
عرض

مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١١
يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
-الحديد

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }. وقد تقدم في "البقرة".
ندب إلى الإنفاق في سبيل الله.
وقال ابن عطية: هنا بالرَّفع على العطف، أو القطع والاستئناف.
وقرأ عاصم: "فيُضَاعفه" بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام، وفي ذلك قلقٌ.
قال أبو علي: لأن السؤال لم يقع على القرضِ، وإنما وقع عن فاعل القَرْض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ } بمنزلة قوله: "أيقرض الله أحدٌ". انتهى.
وهذا الذي قاله أبو علي ممنوع، ألا ترى أنه ينصب بعد "الفاء" في جواب الاستفهام بالأسماء، وإن لم يتقدم فعل نحو: أين بيتك فأزورك ومثل ذلك: من يدعوني فأستجيب له، ومتى تسير فأرافقك، وكيف تكون فأصحبك، فالاستفهام إنما وقع عن ذات الدَّاعي، وعن ظرف الزَّمان، وعن الحال لا عن الفعل.
وقد حكى ابن كيسان عن العرب: "أين ذهب زيدٌ فنتبعه، ومن أبوك فنكرمه".
فصل في المقصود بالقرض
ندب الله تعالى إلى الإنفاق في سبيل الله، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً: "قد أقرض".
كما قال بعضهم رحمة الله عليه: [الرمل]

4719- وإذَا جُوزيتَ قَرْضاً فاجزه إنَّما يَجزي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ

وسماه قرضاً؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل، أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة.
قال الكلبي: "قرضاً" أي: صدقة.
"حسناً" أي: محتسباً من قلبه بلا منٍّ ولا أدى.
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }: ما بين سبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف.
وقيل القَرْض الحسن هو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقال زيد بن أسلم: هو النَّفقة على الأهل.
وقال الحسن: التطوُّع بالعبادات.
وقيل: عمل الخير.
وقال القشيري: لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة:
الأول: أن يكون من الحلال، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاةً بِغَيْرِ طهُورٍ، ولا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ" .
الثاني: أن يكون من أكرم ما يمكنه؛ ولا يخرج الرديء كقوله تعالى: { { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ } [البقرة: 267].
الثالث: أن يتصدق به وهو يحبّه، ويحتاج إليه لقوله تعالى:
{ { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92] وقوله: { { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } [البقرة: 177].
وقال عليه الصلاة والسلام
"أفْضَلُ الصَّدقةِ أنْ تُعْطيَهُ وأنْتَ صَحيحٌ شَحِيحٌ تأمْلُ العَيْشَ ولا تمهلُ حتَّى إذا بلغتِ التَّراقي قُلْتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كَذَا" .
الرابع: أن تصرف صدقته إلى الأحوج فالأحوج، ولذلك خص تعالى أقواماً بأخذها، وهم أهل المبهمات.
الخامس: أن تخفي الصَّدقة لقوله تعالى:
{ { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 271].
السادس: ألاَّ يتبعها منًّا ولا أذى، لقوله تعالى:
{ { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة: 264].
السابع: أن يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يُرائِي لقوله تعالى:
{ { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ } [الليل: 20].
الثامن: أن يستحقر ما يعطي وإن كثر؛ لأن الدُّنيا كلها قليلة، قال تعالى:
{ { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [المدثر: 6] في أحد التأويلات.
التاسع: أن يكون من أحبّ الأموال إليه، وأن يكون كثيراً لقوله عليه الصلاة والسلام
"أفْضَلُ الرِّقابِ أغْلاهَا وأنفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا" .
العاشر: ألا يرى عزَّ نفسه، وذُلّ الفقير، بل يكون الأمر بالعكس.
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني الجنَّة.
قوله تعالى: { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
فيه أوجه:
أحدها: أنه معمول للاستقرار العامل في "له أجر" أي: استقر له أجر في ذلك اليوم.
الثاني: أنه مضمر، أي: اذكر، فيكون مفعولاً به.
الثالث: أنهم يُؤجَرُون "يوم ترى" فهو ظرف على أصله.
الرابع: أن العامل فيه "يسعى" أي: يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله.
الخامس: أن العامل فيه "فيُضَاعفه". قالهما أبو البقاء.
قوله: "يَسْعَى" حال؛ لأن الرُّؤية بصرية، وهذا إذا لم تجعله عاملاً في "يوم"، و "بين أيديهم" ظرف للسعي، ويجوز أن يكون حالاً من "نورهم".
قوله: "وبأيمانهم"، أي: وفي جهة أيمانهم.
وهذه قراءة العامة، أعني بفتح الهمزة جمع يمين.
وقيل: الباء بمعنى "عن" أي: عن جميع جهاتهم، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات.
وقرأ أبو حيوة وسهل بن شعيب: بكسرها.
وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله، والباء سببية، أي: يسعى كائناً وثابتاً بسبب أيمانهم.
وقال أبو البقاء: تقديره: وبأيمانهم استحقُّوه، أو بأيمانهم يقال لهم: بُشْرَاكُم.
فصل في المراد بهذا اليوم
المراد من هذا يوم المُحاسبة.
واختلفوا في هذا النور.
فقال الحسن: هو الضياء الذي يمرون فيه "بين أيديهم" أي: قدَّامهم.
"وبأيمانهم"، قال الفرَّاء: "الباء" بمعنى "في" أي: في أيمانهم، أو بمعنى: "عن أيمانهم".
وقال الضحاك: النور هُداهم، وبأيمانهم كتبهم، واختاره الطبري.
أي: يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم، فـ "الباء" على هذا بمعنى "في"، ويجوز على هذا أن يوقف على "بين أيديهم" ولا يوقف إذا كانت بمعنى "عن".
وعلى قراءة سهل بن شعيب وأبي حيوة: "وبإيمانهم" بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكُفر، وعطف ما ليس بظرف على الظَّرف لأن معنى الظرف الحال، وهو متعلق بمحذوف.
والمعنى: يسعى كائناً بين أيديهم، وكائناً بأيمانهم.
وقيل: أراد بالنور: القرآن.
وعن ابن مسعود: "يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنَّخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره على إبهام رجله، فيطفأ مرة ويوقد أخرى".
قال الحسن: ليَسْتَضيئُوا به على الصِّراط.
وقال مقاتل: ليكون لهم دليلاً إلى الجنَّة.
قوله: { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ }.
"بُشْرَاكم" مبتدأ، و "اليوم" ظرف، و "جنَّات" خبره على حذف مضاف أي: دخول جنَّات وهذه الجملة في محل نصب بقول مُقدَّر، وهو العامل في الظرف، يقال لهم: بُشراكم اليوم دخول جنَّات.
قال القرطبي: "ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف؛ لأن البُشْرَى حدث، والجنة عين، فلا تكون هي هي".
وقال مكي: وأجاز الفراء نصب "جنَّات" على الحال، ويكون "اليوم" خبر "بشراكم" قال: "وكون "جنَّات" حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فعل، وأجاز أن يكون "بُشْرَاكم" في موضع نصب على "يبشرونهم بالبُشْرَى"، وينصب "جنات" بالبشرى وكله بعيد، لأنه يفصل بين الصلة والموصول باليوم". انتهى.
وعجيب من الفرَّاء كيف يصدر عنه ما لا يتعقّل، ولا يجوز صناعة، كيف تكون جنات حالاً، وماذا صاحب الحال؟.
وقوله: { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الدخول المحذوف، التقدير: بشراكم اليوم دخول الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار مقدرين الخلود فيها.
قال القرطبي: "ولا تكون الحال من "بشراكم" لأن فيه فصلاً بين الصلة والموصول، ويجوز أن تكون مما دلّ عليه البشرى كأنه قال: يبشرون خالدين فيها، ويجوز أن يكون الظَّرف الذي هو "اليوم" خبراً عن "بشراكم"، و "جنات" بدلاً من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم، و "خالدين" حال حسب ما تقدم".
فصل في العامل في قوله: "خالدين"
قال شهاب الدِّين: "خالدين" نصب على الحال، والعامل فيها المضاف محذوف، إذ التقدير: بُشْرَاكم دخولكم جنات خالدين فيها، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب، [وأضيف المصدر لمفعوله، فصار دخول جنات]، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف فيه مقامه في الإعراب، ولا يجوز أن يكون "بشراكم" هو العامل فيها؛ لأنه مصدر، وقد أخبر عنه قبل ذكر متعلقاته، فيلزم الفصل بأجنبي، وظاهر كلام مكي أنه عامل في الحال، فإنه قال: "خالدين" نصب على الحال من الكاف والميم، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها فيلزم أن يكون "بشراكم" هو العامل، وفيه ما تقدم من الفصل بين المصدر ومعموله.
فصل في كون الفاسق مؤمناً أم لا
قال ابن الخطيب: تقدم في الكلام البشارة عند قوله:
{ { وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ } [البقرة: 25]. وهذه الآية تدل على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.
قال الكعبي: هذه الآية تدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن؛ لأنه لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنَّة؛ [ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن].
أجاب ابن الخطيب: [بأنا نقطع بأن الفاسق من أهل الجنة]، لأنه إما أن يدخل النار، أو أنه ممن دخلها، لكنه سيخرج منها، وسيدخل الجنة، ويبقى فيها أبد الآباد، فإذن يقطع بأنه من أهل الجنة، فسقط الاستدلال.
قوله: "ذلك الفوز" هذه الإشارة عائدة إلى جميع ما تقدم من النور والبشرى بالجنَّات المخلدة.
قوله: { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ }.
العامل في "يوم"ذلك الفوز العظيم".
وقيل: "هو بدل من اليوم الأول".
وقال ابن الخطيب منصوب بـ "اذْكر" مقدًّرا.
واعلم أنه لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين، فقال: يوم يقول.
قوله: { لِلَّذِينَ آمَنُواْ }. "اللام" للتبليغ.
و { انظرونا نقتبس من نوركم } قراءة العامة: "انْظُرونَا أمر من النَّظر".
وحمزة: "أنْظِرُونا" بقطع الهمزة، وكسر الظَّاء من الإنظار بمعنى الانتظار.
وبها قرأ الأعمش، ويحيى بن وثَّاب، أي: انتظرونا لنلحق بكم، فنستضيء بنوركم.
والقراءة الأولى يجوز أن تكون بمعنى هذه، إذ يقال: نظره بمعنى انتظره، وذلك أنَّه يسرع بالخواص على نُجُب إلى الجنة، فيقول المنافقون: انتظرونا لأنَّا مُشَاة لا نستطيع لحوقكم، ويجوز أن يكون من النظر وهو الإبصار؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيضيء لهم المكان، وهذا أليق بقوله: { نقتبس من نوركم }. قال معناه الزمخشري.
إلاَّ أن أبا حيان قال: إن النَّظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشِّعر، إنما يتعدى بـ "إلى".
قوله: { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي: نستضيء من نوركم.
و "القَبَس": الشعلة من النار أو السِّراج.
قال ابن عبَّاس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة.
قال الماوردي: أظنّها بعد فصل القضاء، ثم يعطون نوراً يمشون فيه.
قال المفسّرون: يعطي الله كل أحد يوم القيامة نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين [نوراً خديعة لهم، بدليل قوله تعالى:
{ { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142].
وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة] دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه. قاله ابن عباس.
وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.
وقال الكلبي: بل يستضيء المنافق بنور المؤمنين، [فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قول المؤمنين]:
{ { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم: 8] خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة، فإنهم لا يبصرون مواضع أقدامهم، قالوا للمؤمنين: { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }. قيل: ارجعُوا "وراءكم"، أي: إلى المواضع التي أخذنا منها النور، فاطلبوا هناك نوراً لأنفسكم، فإنكم لا تقتبسون من نورنا، فلما رجعوا وانعزلوا في طلبِ النور "ضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ".
وقيل: معناه هلاَّ طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا؟.
قوله: "وراءكم" فيه وجهان:
أظهرهما: أنه منصوب بـ "ارجعوا" على معنى ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور، فالتمسوا هناك ممن يقتبس، أو ارجعوا إلى الدُّنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه، وهو الإيمان، أو يكون معناه: فارجعوا خائبين وتنحّوا عنَّا فالتمسوا نوراً آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور.
والثاني: أن "وَرَاءكُم" اسم للفعل فيه ضمير فاعل، أي: ارجعوا "رجوعاً" قاله أبو البقاء.
ومنع أن يكون ظرفاً لـ "ارجعوا".
قال: لقلّة فائدته؛ لأن الرُّجوع لا يكون إلاَّ إلى وراء.
قال شهاب الدين: "وهذا فاسد؛ لأن الفائدة جليلة كما تقدم شرحها".
قوله: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ }.
العامة على بنائه للمفعول، والقائم مقام الفاعل يجوز أن يكون "بِسُورٍ" وهو الظاهر، وأن يكون الظرف.
وقال مكي: "الباء" مزيدة، أي: ضرب سور. ثم قال: "والباء متعلقة بالمصدر أي: ضرباً بسور".
وهذا متناقض، إلاَّ أن يكون قد غلط عليه من النساخ، والأصل: والباء متعلقة بالمصدر، والقائم مقام الفاعل الظرف، وعلى الجملة هو ضعيف، والسور: البناء المحيط وتقدم اشتقاقه في أول البقرة.
قوله: "لَهُ بابٌ". مبتدأ وخبر في موضع جرّ صفة لـ "سُور".
وقوله: { بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ } هذه الجملة يجوز أن تكون في موضع جر صفة ثانية لـ "سور"، ويجوز أن تكون في موضع رفع صفة لـ "باب"، وهو أولى لقربه، والضمير إنما يعود إلى الأقرب إلا بقرينة.
وقرأ زيد بن علي، وعمرو بن عبيد: "فضرب" مبنيًّا للفاعل، وهو الله أو الملك.
فصل في المراد بالسور
"السور": حاجز بين الجنة والنار.
قال القرطبي: "روي أن ذلك السُّور بـ "بيت المقدس" عند موضع يعرف بـ "وادي جهنم" فيه الرَّحْمَة يعني: ما يَلِي منه المؤمنين، وظاهره من قبله العذاب يعني: ما يلي المنافقين".
قال كعب الأحبار رضي الله عنه: هو الباب الذي بـ "بيت المقدس" المعروف بـ "باب الرحمة".
وقال عبد الله بن عمرو: إنه سور بـ "بيت المقدس" الشرقي، باطنه فيه المسجد، وظاهره من قبله العذاب، يعني: جهنم ونحوه عن ابن عباس.
وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة بن الصَّامت على سُور بـ "بيت المقدس" الشرقي فبكى، وقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم.
وقال قتادة: هو حائط بين الجنَّة والنار، { باطنه فيه الرحمة } يعني: الجنة، { وظاهره من قبله العذاب } يعني: جهنم.
وقال مجاهد: إنَّه حجاب. كما في "الأعراف" وقد مضى القول فيه.
وقد قيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي هو في ظاهره ظلمة المنافقين.
وقيل: السُّور عبارة عن منع المنافقين عن طلبِ المؤمنين.