التفاسير

< >
عرض

ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
١٦
لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١٧
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ
١٨
ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ
١٩
إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلأَذَلِّينَ
٢٠
كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
٢١
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٢٢
-المجادلة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }.
قرأ العامة: "أيْمَانَهُمْ" - بفتح الهمزة - جمع "يَمِين".
والحسن وأبو العالية - بكسرها - مصدراً هنا، وفي "المُنَافقين"، أي: إقرارهم اتخذوه جُنّة يستجنُّون بها من القَتْلِ.
قال ابن جني: "هذا على حذف مضاف، أي: اتخذوا إظهار أيمانهم جُنَّة من ظهور نفاقهم".
وقوله تعالى: { أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } مفعولان لـ "اتَّخَذُوا".
قوله: { لهم عذاب مهين } في الدنيا بالقَتْل وفي الآخرة بالنار.
وقيل: المراد من الكل عذاب الآخرة، كقوله عز وجل:
{ { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ ٱلْعَذَابِ } [النحل: 88]. الصّد عن سبيل الله: المنع عن الإسلام.
وقيل: إلقاء الأراجيف وتَثْبِيط المسلمين عن الجهاد.
قوله تعالى: { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } تقدم الكلام عليه في آل عمران.
قال مقاتلرحمه الله : قال المنافقون: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذاً، فوالله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فنزلت الآية.
قوله تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } أي: لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله، فيحلفون له كما يحلفون لكم اليوم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحلفون لله - تعالى - يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا، وهو قولهم:
{ { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23] ويحسبون أنهم على شيء، بإنكارهم وحلفهم.
قال ابن زيد: ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة.
وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء؛ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار، والأول أظهر.
والمعنى: أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنّوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، وإليه الإشارة بقوله تعالى:
{ { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [الأنعام: 28].
قال القاضي والجُبَّائي: إن أهل الآخرة لا يكذبون، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة: إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا، وعلى هذا الوجه لا يكون الحلف كذباً، وقوله تعالى: { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } أي: في الدنيا.
قال ابن الخطيب: "وتفسير هذه الآية على هذا الوجه يقتضي ركاكة عظيمة في النَّظْم".
روى ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: أيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ تعالى؟ فَتقُومُ القدريَّةُ مُسْودَّةً وجُوهُهُمْ، مُزْرَقَّةً أعْيُنُهُمْ، مَائِلٌ شِدْقُهُمْ يَسِيْلُ لُعَابهُم، فيقُولُونَ: واللَّهِ ما عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْساً ولا قَمَراً ولا صَنَماً، ولا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إلهاً" .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صدقوا ولله، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ }، هم والله القدرية ثلاثاً.
قوله تعالى: { ٱسْتَحْوَذَ }. جاء به على الأصل، وهو فصيح استعمالاً، وإن شذ قياساً.
وقد أخرجه عمر - رضي الله عنه - على القياس، فقرأ: "اسْتَحَاذَ" كـ "استبان". وتقدم هذه المادة في "النساء" في قوله تعالى:
{ { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [النساء: 141].
قال الزجاج: "اسْتَحْوَذَ" في اللغة استولى، يقال: حذت الإبل، إذا استوليت عليها وجمعتها.
وقال المبرد: "استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به".
قيل: المعنى غلب عليهم الشيطان بِوسْوستِهِ في الدنيا.
وقيل: قوي عليهم فأنساهم ذكر الله، أي: أوامره في العمل بطاعته.
وقيل: زواجره في النهي عن معصيته، والنِّسيان قد يكون بمعنى الغَفْلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هاهنا، { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱلشَّيْطَانِ }: طائفته ورهطُه { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱلشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال
احتجّ القاضي بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين:
الأول: أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله - تعالى - لكان إضافتها إلى الشيطان كذباً.
الثاني: لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } تقدم أول السورة.
{ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلأَذَلِّينَ }. أي: من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني، فلما كانت عزة الله - تعالى - غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً.
قوله تعالى: { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ }.
يجوز أن يكون "كَتَبَ" جرى مجرى القسم، فأجيب بما يجاب به.
وقال أبو البقاء: وقيل: هي جواب "كتب"؛ لأنه بمعنى "قال".
وهذا ليس بشيء؛ لأن "قال" لا يقتضي جواباً، فصوابه ما تقدم.
ويجوز أن يكون "لأغلبن" جواب قسم مقدر، وليس بظاهر.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: { كتب الله لأغلبن } أي: قضى الله ذلك.
وقيل: كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة.
وقال الفراء: "كتب" بمعنى "قال".
وقوله: "أنا" توكيد، "ورسلي" من بعث منهم بالحرب، فإن الرسول بالحرب غالب، ومن بعث منهم بالحُجّة غالب أيضاً، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
قال مقاتل: قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا "مكة" و "الطائف" و "خيبر" وما حولهن رجَوْنَا أن يظهرنا الله - تعالى - على "فارس" و "الروم"، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أتظنون "الروم" و "فارس" كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ }.
ونظيره:
{ { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [الصافات: 171 - 173].
قوله: { وَرُسُلِيۤ }.
قرأ نافع وابن عامر بفتح "الياء".
والباقون: لا يحركون.
قال أبو علي: "التَّحريك والإسكان جميعاً حسنان".
وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } قوي على نُصْرة أنبيائه "عَزِيزٌ" غالب لا يدفعه أحد عن مُرَاده.
قوله تعالى: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
"يوادُّون" هو المفعول الثاني لـ "تَجِدُ"، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى "صادق ولقي"، فيكون "يوادّون" حالاً، أو صفة لـ "قوماً".
ومعنى "يوادُّون" أي: يحبون ويوالون { مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }. وقد تقدم الكلام على المُحَادّة.
والمعنى: أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادةِ أعداء الله.
فصل في المراد بهذه الموادّة
فإن قيل: أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة؟.
فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودُنْيا مع كونه كافراً، فأما سوى ذلك فلا حَظْر فيه.
قوله تعالى: "ولو كانوا" هذه "واو" الحال.
وقدّم أولاً الآباء؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنَّى بالأبناء؛ لأنهم أعلقُ بالقلوب وهم حياتها، قال الحماسي في معنى ذلك، رحمة الله عليه رحمة واسعة: [السريع]

4733- وإنَّمَا أوْلادُنَا بَيْنَنَا أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأرْضِ

ثم ثلَّث بالإخوان؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضُد من الذِّراع.
قالرحمه الله : [الطويل]

4734- أخَاكَ أخَاكَ إنَّ مَنْ لا أخَا لَهُ كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ
وإنَّ ابْنَ عَمِّ المَرْءِ - فَاعْلمْ - جَنَاحُهُ وهَلْ يَنْهَضُ البَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِ

ثم ربع بالعشيرة؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد.
قال بعضهم، رحمة الله عليه: [البسيط]

4734- لا يَسْألُونَ أخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا

وقرأ أبو رجاء: "عَشِيْراتهم"، بالجمع، كما قرأها أبو بكر في "التوبة" كذلك.
فصل في مناسبة الآية
لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه، وهي قوله تعالى: { وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } والمعنى: أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم "أحد"، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم "بدر"، وأبي بكر - رضي الله عنه - قال ابن جريح:
"حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكّه أبو بكر - رضي الله عنه - صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته" ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة - رضي الله عنهم - قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم "بدر" أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه.
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية
قال القرطبي: استدل مالك -رحمه الله - بهذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك: لا تجالسوا القدرية، وعادوهم في الله، لقول الله عز وجل: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان.
وعن الثوري - رضي الله عنه - أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.
وعن عبد العزيز بن أبي رواد: أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه، وتلا هذه الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
"اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }" الآية.
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ }.
قرأ العامّة: "كَتَبَ" مبنيًّا للفاعل، وهو الله - سبحانه وتعالى - "الإيمان" نصباً، وأبو حيوة في رواية المفضل: "كُتِبَ" مبنيًّا للمفعول "الإيمان" رفع به.
والضمير في "منه" لله تعالى.
وقيل: يعود على "الإيمان"؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين. قاله السدي، أي: أيدهم بروح من الإيمان، يدل عليه قوله تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52].
فصل في معنى كتب الإيمان
معنى "كتب الإيمان" أي: خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يُوالِ من حاد الله.
وقيل: "كَتَبَ": أثبت. قاله الربيع بن أنس.
وقيل: جعل كقوله تعالى:
{ { فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [آل عمران: 53] أي: اجعلنا، وقوله تعالى: { { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ } [الأعراف: 156].
وقيل "كتب" أي: جمع، ومنه الكتيبة، أي: لم يكونوا ممن يقول: نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.
وقيل: { كتب في قلوبهم الإيمان } أي: على قلوبهم الإيمان، كقوله تعالى:
{ { فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71].
وخص القلوب بالذكر، لأنها موضع الإيمان.
قوله: "وأيَّدهُمْ"، أي: قوَّاهم ونصرهم بروح منه.
قال الحسن: بنصر منه.
قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحاً؛ لأنه به يحيا أمرهم.
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: بالقرآن وحججه.
وقال ابن جريح: بنُورٍ وبُرهان وهدى.
وقيل: برحمة من الله.
وقيل: أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } أي: قبل أعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } فرحوا بما أعطاهم { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }.
وهذه في مقابلة قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ }، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ" .