التفاسير

< >
عرض

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
١٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١٩
لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ
٢٠
لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
٢١
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
٢٢
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٢٣
هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٤
-الحشر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ }.
العامة على نصب "عَاقِبتَهُمَا" والاسم "أن" وما في حيزها، لأن الاسم أعرف من { عاقبتهما أنهما في النار }. وقد تقدم تحرير هذا في "آل عمران" و "الأنعام".
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم: برفعها، على جعلها اسماً، و "أن" وما في حيزها خبر كقراءة:
{ { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [الأنعام: 23].
قوله: { خَالِدِينَ فِيهَا }.
العامة على نصبه، حالاً من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبراً.
والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان، ومن جعلها في الجنس فالمعنى فكان عاقبة الفريقين أو الصنفين.
قال مقاتل: يعني المنافقين واليهود.
ونصب "عَاقِبتَهُمَا" على أنه خبر "كان" والاسم { أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ }.
وقرأ عبد الله، وزيد بن علي، والأعمش، وابن أبي عبلة: برفعه خبراً، والظرف ملغى، فيتعلق بالخبر، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظيًّا للحرف، وأعيد معه ضمير ما دخل عليه كقوله:
{ { فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } [هود: 108].
وهذا على مذهب سيبويه، فإنه يجيز إلغاء الظرف وإن أكد.
والكوفيون يمنعونه، وهذا حجة عليهم، وقد يجيبون بأنا لا نسلم أن الظرف في هذه القراءة ملغى بل نجعله خبراً لـ "أن" و "خالدان" خبر ثان، وهو محتمل لما قالوا إلا أن الظاهر خلافه.
قال القرطبي: وهذه القراءة خلاف المرسوم.
وقوله: { وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } أي: المشركين، كقوله:
{ { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].
قوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في أوامره ونواهيه، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه. { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } يعني يوم القيامة، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على أن الساعة قريبة؛ كقوله: [الطويل]

4754- وإنَّ غَداً للنَّاظرينَ قريبُ

وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلت كغد؛ لأن كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى "ما قدَّمتْ" أي: من خير أو شرّ.
ونكر النفس لاستقلال النفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد، لتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: الغد لا يعرف كنهه لعظمه.
وقرأ العامة بسكون لام الأمر في قوله: "ولتنظر".
وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بكسرها على الأصل.
والحسن: بكسرها ونصب الفعل، جعلها لام "كي"، ويكون المعلل مقدّراً، أي: ولتنظر نفس حذركم وأعمالكم.
قوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } تأكيد.
وقيل: كرر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى: أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية: ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري.
ثم قال: { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
قال سعيد بن جبير: { بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: بما يكون منكم.
قوله تعالى: { وَلاَ تَكُونُواْ }.
العامة: على الخطاب، وأبو حيوة: على الغيبة، على الالتفات.
{ نَسُواْ ٱللَّهَ } أي: تركوه { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } أن يعملوا لها خيراً. قاله المقاتلان.
وقيل: نسوا حق الله، فأنساهم حق أنفسهم. قاله سفيان.
وقيل: "نسُوا اللَّه" بترك ذكره وتعظيمه "فأنساهم أنفسَهُمْ" بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً. حكاه ابن عيسى.
وقيل: قال سهل بن عبد الله: "نَسُوا اللَّهَ" عند الذنوب "فَأنسَاهُم أنفُسهُمْ" عند التوبة.
وقيل: "أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ" أي: أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى:
{ { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [إبراهيم: 43]، { { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج: 2].
ونسب تعالى الفعل إلى نفسه في "أنسَاهُمْ" إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه، كقولك: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً.
وقيل: "نَسُوا اللَّهَ" في الرخاء "فأنَساهُمْ أنفُسُهمْ" في الشدائد.
{ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }. قال ابن جبير: العاصون.
وقال ابن زيد: الكاذبون، وأصل الفِسْق الخروج، أي: الذين خرجوا عن طاعة الله.
قوله تعالى: { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } أي: في الفضل والرتبة، لما أرشد المؤمنين إلى ما هو مصلحتهم يوم القيامة، بقوله: { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } وهدّد الكافرين بقوله: { كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } بين بهذه الآية الفرق بين الفريقين. واعلم أن الفرق بينهما معلوم بالضرورة، وإنما ذكر الفرق في هذا الموضع للتنبيه على عظم ذلك الفرق، ثم [قال: { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ }.
وهذا كالتفسير لنفي تساويهما.
و "هم" يجوز أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ، فعلى الأول: الإخبار بمفرد، وعلى الثاني: بجملة.
ومعنى "الفَائِزُونَ" المقربون المكرمون.
وقيل: الناجون من النار، ونظير هذه الآية قوله:
{ { لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ } [المائدة: 100]، وقوله: { { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [السجدة: 18]، وقوله: { { أَمْ نَجْعَلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَٱلْمُفْسِدِينَ فِي ٱلأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ ٱلْمُتَّقِينَ كَٱلْفُجَّارِ] } [ص: 28].
فصل
احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل الجنة بهذه الآية، قالوا: لأن الآية دلت على أن أصحاب النار وأصحاب الجنة لا يستويان، [فلو دخل صاحب الكبيرة الجنة لكان أصحاب الجنة وأصحاب النار يستويان]، وهو غير جائز وجوابه معلوم.
فصل في أن المسلم لا يقتل بالذمي
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتلُ بالذمي كما هو مذكور في كتب الفقه. قوله تعالى: { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ }.
وهذا حثّ على تأمل مواعظ القرآن، وبيّن أنه لا عذر في ترك التدبر، فإنه لو خوطب بهذا القرآن الجبالُ مع تركيب العقل فيها لانقادت لمواعظه، ورأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة، أي: متشققة من خشية الله.
والخاشع: الذَّليل. والمتصدّع: المتشقق.
وقيل: "خاشعاً" لله بما كلفه من طاعته، "متصدعاً" من خشية الله أن يعصيه فيعاقبه.
وقيل: هو على وجه المثل للكفار.
قوله تعالى: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ }.
أي: أنه لو أنزل القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده، ولا ترهبون من وعيده.
والغرض من هذا الكلام التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره قوله:
{ { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة: 74].
وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم يثبت عليه الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، وأن الله - تعالى - لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً، فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى؛ لأنه موعود بالثواب، ومزجُور بالعقاب.
قوله: "خاشعاً" حال؛ لأن الرؤية بصرية.
وقرأ طلحة: "مصّدعاً" بإدغام التاء في الصاد.
قوله تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }.
لما وصف القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف، أتبع ذلك بشرح عظمة الله تعالى، فقال: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ }.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه: عالم السر والعلانية.
وقيل: ما كان وما يكون.
وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا.
وقيل: "الغيب" ما لم يعلمه العباد ولا عاينوه، و "الشَّهَادة" ما علموا وشهدوا.
وقوله: { ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ }. تقدم مثله.
قوله تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ }.
قرأ أبو دينار وأبو السمال: "القَدُّوس" بفتح القاف.
[قال الحسن: هو الذي كثرت بركاته].
والعامة: بضمها، وهو المنزّه عن كل نقص، والطَّاهر عن كل عيبٍ.
والقدَس - بالتحريك - السّطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتطهر منه.
ومنه "القادوس" لواحد الأواني الذي يستخرج به الماء من البئر بالسانية.
وكان سيبويه يقول: "قَدُّوس، وسبُّوح" بفتح أولهما.
وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه سمع عند الكسائي أعرابياً فصيحاً يكنى أبا الدينار يقرأ: "القَدُّوس" بفتح القاف.
قال ثعلب: كل اسم على "فَعُّول" فهو مفتوح الأول، مثل: سَفُّود، وكَلُّوب، وتَنُّور، وسَمُّور، وشَبُّوط، إلا السُّبُّوح والقُدُّوس، فإنَّ الضم فيهما أكثر، وقد يفتحان، وكذلك: الذروح بالضم.
قوله: "السَّلامُ". أي: ذو السلامة من النقائص.
قال ابن العربي: اتفق العلماء على أنّ قوله: "السَّلامُ" النسبة، تقديره: ذو السلامة، ثم اختلفوا في ترجمة النسبة.
فقيل: معناه الذي سَلِمَ من كل عيب، وبَرِىءَ من كل نقص.
وقيل: المسلم على عباده في الجنّة، كما قال:
{ { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس: 58].
وقيل: معناه الذي سلم الخلق من ظلمه. وهذا قول الخطابي.
قال القرطبي: وعلى هذا والذي قبله يكون صفة فعل، وعلى الأول يكون صفة ذات.
وقيل: معناه: المسلم لعباده.
قوله: "المُؤمِنُ".
أي: الذي أمن أولياؤه عذابهُ، يقال: أمنه يؤمنه فهو مؤمن.
وقيل: المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.
وقال مجاهد: المؤمن الذي وحَّد نفسه بقوله:
{ { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18].
وقرأ العامة: "المُؤمِن - بكسر الميم - اسم فاعل من آمن بمعنى أمن".
وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل ابن القعقاع: بفتحها.
فقال الزمخشري: بمعنى المؤمن به، على حذف حرف الجر، كقوله:
{ { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [الأعراف: 155] المختارون.
وقال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، أي: هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به، وكان جائزاً، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأمن، فقد ردّ ما قاله الزَّمخشري.
فصل
قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافقه اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبقَ فيها من يوافق اسمه اسم نبي، قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام، وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين.
قوله: { ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ }.
قيل: معنى المهيمن "الشاهد" الذي لا يغيب عنه شيء. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي ومقاتل.
قال الخليل وأبو عبيدة: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله:
{ { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة: 48].
وقال ابن الأنباري: "المُهَيْمِنُ": القائم على خَلْقِه بقدرته.
وأنشد: [الطويل]

4755- ألاَ إنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِ مُهَيْمِنُهُ التَّاليهِ في العُرْفِ والنُّكْرِ

وقيل هو في الأصل: مُؤيمن فقلبت الهمزة هاء، كقوله: "أرَقْت وهرقت" ومعناه: المؤمن. نقله البغوي.
وتقدم الكلام على "العَزِيز".
قوله: "الجبَّارُ".
استدل به من يقول: إن أمثلة المبالغة تأتي من المزيد على الثلاثة، فإنه من "أجبره على كذا"، أي قهره.
قال الفرَّاء: ولم أسمع "فعّالاً" من "أفعل" إلا في "جبَّار ودرَّاك" من أدرك انتهى واستدرك عليه: أسأر، فهو سَئّار.
وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح.
وقيل: هو من قولهم: نخلة جبَّارة إذا لم ينلْها الجُناة.
قال امرؤ القيس: [الطويل]

4756- سَوَامِقَ جَبَّارٍ أثيثٍ فُرُوعُهُ وعَالَيْنَ قِنْوَاناً من البُسْرِ أحْمَرا

يعني النَّخْل التي فاتت اليد.
قال ابن الخطيب: فيه وجوه:
أحدها: أنه "فعّال" من جبر، إذا أغنى الفقير وأصلح الكسير.
قال الأزهري: "هو لعمري جابرٌ لكل كسيرٍ وفقير، وهو جابر دينه الذي ارتضاه".
قال العجاج -رحمه الله -: [الرجز]

4757- قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلَهُ فَجَبَرْ

الثاني: أن يكون من جبره إذا أكرهه على ما أراده.
قال السديُّ: إنه هو الذي يقهر الناس، ويجبرهم على ما أراده.
قال الأزهري: "هي لغة "تميم"، وكثير من الحجازيين يقولونها".
وكان الشافعي -رحمه الله - يقول: جبره السلطان على كذا، بغير ألف.
الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجبَّار هو الملك العظيم.
وقيل: الجبار الذي لا تُطاق سطوته.
قال الواحدي: هذا الذي ذكرنا من معاني الجبار في صفة الله تعالى، وأما معاني الجبار في صفة الخلق فلها معان:
أحدها: المُسَلَّط، كقوله:
{ { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } [ق: 45].
الثاني: العظيم الجسم، كقوله تعالى:
{ { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [المائدة: 22].
والثالث: المتمرّد عن عبادة الله كقوله:
{ { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } [مريم: 32].
الرابع: القتال كقوله:
{ { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [الشعراء: 130] وقوله: { { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 19].
قوله: { ٱلْمُتَكَبِّرُ }.
قال ابن عباس: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله.
وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدوث والذم.
وأصل الكبر والكبرياء الامتناع وقلّة الانقياد.
قال حميد بن ثور: [الطويل]

4758- عَفَتْ مِثْلَ مَا يَعْفُو الفَصِيلُ فأصْبَحَتْ بِهَا كِبْرِيَاءُ الصَّعْبِ وهي ذَلُولُ

قال الزجَّاج: وهو الذي تعظَّم عن ظلم عباده.
وقال ابن الأنباري: "المتكبر" ذو الكبرياء.
والكبرياء عند العرب الملك، قال تعالى:
{ { وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ } [يونس: 78] واعلم أن المتكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم.
قال - عليه الصلاة والسلام - يرويه عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال:
"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته ثم قذفته في النار" .
وقيل: المتكبر معناه العالي.
وقيل: الكبير، لأنه أجل من أن يتكلف كبراً.
وقد يقال: تظلّم بمعنى ظلم، وتشتّم بمعنى شتم، واستقر بمعنى قرّ، كذلك المتكبر بمعنى الكبير، وليس كما يوصف به المخلوق إذا وصف بـ "تفعل" إذا نسب إلى ما لم يكن منه، ثم نزّه نفسه فقال: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
كأنه قال: إن المخلوقين قد يتكبرون، ويدّعون مشاركة الله في هذا الوصف، لكنه سبحانه منزَّهٌ عن التكبر الذي هو حاصل للخلق؛ لأنهم ناقصون بحسب ذواتهم، فادعاؤهم الكبر يكون ضم نقصان الكذب إلى النقصان الذاتي، وأما الله - سبحانه وتعالى - فله العلو والعزّ، فإذا أظهره كان ذلك ضمَّ كمال إلى كمال، فسبُحانَ اللَّهِ عمَّا يشركُون في إثبات صفة المتكبريَّة للخلق.
قوله: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ }.
"الخَالقُ" هنا المقدر، و "البَارِىءُ" المنشىء المخترع، وقدم ذكر الخالق على البارىء؛ لأن الإرادة مقدمة على تأثير القدرة.
قوله: "المُصَوِّرُ".
العامة: على كسر الواو ورفع الراء، إما صفة وإما خبر.
وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن بن السميفع، وحاطب بن أبي بلتعة: بفتح الواو ونصب الراء. وتخريجها على أن يكون منصوباً بـ "البَارِىءُ".
و "المصوَّر" هو الإنسان إما آدم، وإما هو وبنوه.
وعلى هذه القراءة يحرم الوقفُ على المصور، بل يجب الوصل ليظهر النَّصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز.
وروي عن أمير المؤمنين أيضاً: فتح الواو وجرّ الراء، وهي كالأولى في المعنى إلا أنه أضاف اسم الفاعل لمعموله مخففاً نحو: "الضارب الرجل".
والوقف على "المصوّر" في هذه القراءة أيضاً حرام، وقد نبَّه عليه بعضهم.
وقال مكي: "ويجوز نصبه في الكلام، ولا بد من فتح الواو فتنصبه بـ "البارىء"، أي: هو الله الخالق المصور، يعني: آدم - عليه الصلاة والسلام - وبنيه". انتهى. وكأنه لم يطلع على هذه القراءة.
وقال أيضاً: "ولا يجوز نصبه مع كسر الواو، ويروى عن علي رضي الله عنه".
يعني أنه إذا كسرت الواو، وكان من صفات الله تعالى، وحينئذ لا يستقيم نصبه عنده؛ لأن نصبه باسم الفاعل قبله.
وقوله: "ويروى" أي: كسر الواو ونصب الراء، وإذا صح هذا عن أمير المؤمنين، فيتخرج على أنه من القطع، كأنه قال: أمدح المصور، كقولهم: "الحَمْدُ للَّه أهل الحمد" بنصب أهل؛ وقراءة من قرأ: { اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ } بنصب "رب".
قال مكي: و "المصور" مُفَعِّل" من "صَوّر يُصَوّر"، ولا يحسن أن يكون من "صار يصير"، لأنه يلزم منه أن يقال: المصير، بالياء".
وقيل: هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً.
وقدم "البارىء" على "المصور" لأن إيجاد الذوات مقدّم على إيجاد الصفات، فالتصوير مرتب على الخلق والبراية وتابع لهما، ومعنى التصوير: التخطيط والتشكيل، وخلق الله الإنسان في بطن أمه ثلاثَ خلق، جعله علقة ثم مضغة ثم جعله صورة، وهو التشكيل الذي يكون به ذا صورة يعرف بها ويتميز عن غيره، فتبارك الله أحسنُ الخالقين.
قوله: { لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } تقدم نظيره.
روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال:
"سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم، فقال: عليْكَ بأواخر سُورةِ الحَشْرِ، فأكثر قراءتهَا فأعَدْتُ عليْهِ فأعَادَ عليَّ" .
وقال جابر بن زيدٍ: إنَّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"مَنَ قَرَأ سُورَة الحَشْرِ غُفِرَ الله لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبه ومَا تأخَّر" .
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنَ قَرَأ خَواتِيمَ سُورة الحَشْرِ في لَيلٍ أو نهارٍ، فقبضهُ اللَّهُ في تلْكَ اللَّيلةِ أو ذلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ الجنَّة" .