التفاسير

< >
عرض

لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
-الحشر

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لِلْفُقَرَآءِ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه بدل من "لِذي القُربى". قاله أبو البقاء والزمخشري.
قال أبو البقاء: "قيل: هو بدل من "لذي القُرْبى" وما بعده".
[وقال الزمخشري: بدل من "لذي القُرْبى" وما عطف عليه]، والذي منع الإبدال من "لله وللرسول" والمعطوف عليهما، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله - عز وجل - أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراءِ في قوله: { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وأن الله - تعالى - يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقيرِ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل.
يعني أنه لو قيل: بأنه بدل من "الله ورسوله" صلى الله عليه وسلم وهو قبيح لفظاً، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل: إن معناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر الله - عز وجل - تفخيماً، وإلا فالله - تعالى - غني عن الفيء وغيره، وإنما جعله بدلاً من "لذي القُربى"؛ لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيءِ.
الثاني: أنه بيان لقوله تعالى:
{ { وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [الحشر: 7]، وكررت لام الجر لما كانت الأولى مجرورة بـ "اللام" ليبين أنَّ البدل إنما هو منها. قاله ابن عطية.
وهي عبارة قلقةٌ جداً.
الثالث: أن "للفقراء" خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء.
وقيل: تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل: اعجبوا للفقراء.
قوله "يبتغون" يجوز أن يكون حالاً، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: للفقراء.
والثاني: "واو" أخرجوا. قالهما مكي.
فصل في معنى الآية
ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين.
وقيل: { كي لا يكون دولة بين الأغنياء } ولكن يكون "للفقراء" وهو مبني على الإعراب المتقدم، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى، "واليتامى والمساكين" أي: المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به.
وقيل:
{ { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [الحشر: 6] للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا.
وقيل: والله شديدُ العقاب للفقراء المهاجرين، أي: شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى:
{ { وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ } [الحشر: 7].
قال القرطبي: "وقيل: هو عطف على ما مضى، ولم يأت بواو العطف كقولك: هذا المال لزيد لبكر لفلان.
و "المهاجرون": من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حبًّا فيه ونُصرةً له".
وقال قتادة: هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدِّيار والأموال والأهلين والأوطان حبًّا لله - عز وجل - ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتَّى إن الرجل منهم كان يَعْصِبُ على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها.
قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي: أخرجهم كفار "مكة"، أي: أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل "يَبْتَغُونَ" أي: يطلبون { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ }: أي غنيمة في الدنيا "ورضْوَاناً" في الآخرة أي: مرضاة ربهم { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } في الجهاد { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } في فعلهم ذلك.
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب بـ "الجابية"، فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومَنْ أراد أن يسأل عن الفقهِ، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله - تعالى - جعلني له خازناً وقاسماً، ألا وإنِّي بادٍ بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهنّ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي، أخرجنا من "مكة" من ديارنا وأموالنا.
قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }.
يعني: أنهم لما هجروا لذَّات الدنيا، وتحملوا شدائدها لأجل الدِّين ظهر صدقهم في دينهم.
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ }.
يجوز في قوله: { والذين تبوّءوا الدار } وجهان:
أحدهما: أنه عطف على "الفقراء" فيكون مجروراً، ويكون من عطف المفردات، ويكون "يحبون" حالاً.
والثاني: أن يكون مبتدأ، خبره "يُحبُّون" ويكون حينئذ من عطف الجمل.
وفي قوله: "والإيمان". ستة أوجه:
أحدها: أنه ضمن "تَبَوَّءوا" معنى لزموا، فيصح عطف الإيمان عليه، إذ الإيمان لا يتبوأ.
الثاني: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا، كقوله: [الرجز]

4746- عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً .......................

وقوله: [مجزوء الكامل]

4747-..................... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا

الثالث: أنه يتجوّز في الإيمان، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة. وفيه خلاف مشهور.
الرابع: أن يكون الأصل: دار الهجرة، ودار الإيمان، فأقام "لام" التعريف في "الدار" مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه.
الخامس: أن يكون سمى "المدينة"؛ لأنها دار الهجرة، ومكان ظهور الإيمان.
قال بهذين الوجهين الزمخشري.
وليس فيه إلاَّ قيام "ال" مقام المضاف إليه، وهو محل نظر، وإنما يعرف الخلاف، هل يقوم "ال" مقام الضمير المضاف إليه؟.
فالكوفيون يُجِيزُونه، كقوله:
{ { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 41] أي: مأواه.
[والبصريون: يمنعونه، ويقولون: الضمير محذوف، أي: المأوى له].
وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضاً من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافاً.
السادس: أنه منصوب على المفعول معه أي: مع الإيمان معاً. قاله ابن عطية.
وقال: وبهذا الاقتران يصح معنى قوله "من قبلهم" فتأمله.
قال شهاب الدين: "وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى:
{ { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [يونس: 71] من باب إضمار الفعل؛ لأنه لا يقال: أجمعت شركائي، إنما يقال: جمعت".
فصل في المراد بهذا التبوء
"التَّبَوُّء": التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولا خلاف أن الذين تبوَّءُوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا "المدينة" قبل المهاجرين إليها، والمراد بالدَّار: "المدينة".
والتقدير: والذين تبوَّءُوا الدار من قبلهم.
فصل
قيل هذه الآية معطوفة على قوله: "للفقراء المهاجرين" وأن الآيات في "الحَشْر" كلها معطوفة بعضها على بعض.
قال القرطبي: ولو تأملوا ذلك، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله - تعالى - يقول:
{ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ } [الحشر: 2] - إلى قوله - "الفاسقين" فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال تعالى: { { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [الحشر: 6] فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلَّوه، وما تقدم فيهم من القتالِ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر، ثم قال تعالى: { { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [الحشر: 7]، وهذا كلام غير معطوف على الأول، وكذا { والذين تبوّءوا الدار والإيمان } ابتداء كلام في مدحِ الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال: الفَيْء للفقراء المهاجرين، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء، وكذا { { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] ابتداء كلام، والخبر { { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا } [الحشر: 10].
وقال إسماعيل بن إسحاق: إن قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ }،
{ { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] معطوف على ما قبله، وأنهم شركاء في هذا الفيء، أي: هذا المال للمهاجرين، والذين تبوَّءوا الدار والإيمان.
وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
{ { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } [التوبة: 60].
ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ:
{ { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [الأنفال: 41]، فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: { { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } [الحشر: 6] حتى بلغ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ }، { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ }، { { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي بـ "سَرْو حمير" نصيبه منها لم يعرق جبينه.
وقيل: إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ ففكر في ليلته، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه، قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة "الحشر" وتلا:
{ { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [الحشر: 7] إلى قوله تعالى: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } قال: ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله: { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] إلى قوله { { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر: 10] ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.
فصل
روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال: لولا من يأتي من آخر النَّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
وصح عن عمر أنه أبقى سواد "العراق" و "مصر" وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة، وأرزاق الجيش والذَّراري، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم.
واختلف فيما فعل من ذلك: فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قسم "خيبر"، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.
وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.
وقيل: إنه تأول في ذلك قول الله تعالى: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلى قوله:
{ { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر: 10] على ما تقدم أيضاً.
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار
اختلفوا في قسمة العقار، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: الإمام مخير بين قسمتها، أو وقفها لمصالح المسلمين.
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله.
وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم، وعلى هذا يكون قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [الحشر: 10] مقطوعاً مما قبله، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.
فصل في فضل المدينة
قال القرطبي: "روى ابن وهب قال: سمعت مالكاً يذكر فضل "المدينة" على غيرها من الآفاق، فقال: إن "المدينة" تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية".
قوله تعالى: { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ }. فيه وجهان:
أحدهما: أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول: خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته. قاله الزمخشري.
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين، وفي "أوتُوا" للمهاجرين.
والثاني: أن الحاجة هنا من الحسد.
قال الحسنُ: حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
والضميران على ما تقدم قبل.
وقال أبو البقاء: "الحاجة مس حاجة". أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا، فالضميران لـ { الذين تبوّءو الدار والإيمان }.
وقال القرطبي: "يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره، كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين، والمعنى: مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة".
فصل في سبب نزول الآية
قال القرطبي:
"كان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا، ونادت الأنصار: رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله، فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ وأعطى رسول الله للمهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم" .
ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كانوا قليلاً يقنعون به، ويرضون عنه، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دنيا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه بحكم الدنيا، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "سَتَرَونَ بَعْدِي أثَرَةً فاصْبرُوا حَتَّى تلْقَونِي على الحَوْضِ" .
قوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
"قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني النضير: إن شِئْتُم قَسمْتُمْ للمُهَاجرينَ من أمْوالكُمْ ودِيَاركُمْ وشَارَكتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ، وإن شِئْتُم كَانَتْ لكُم ديَارُكمْ وأموالكُمْ ولَمْ نَقْسِمْ لَكُمْ مِنَ الغَنِيمَةِ شَيْئاً. فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة" ، فنزل: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية.
قال ابن الخطيب: "وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار للضيف بالطعام، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات.
فذكر القرطبي: أن الترمذي روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً بات به ضيف، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية".
وخرجه مسلم أيضاً: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهودٌ، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندي إلا ماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ يُضيف هذا الليلةرحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله أنا، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج" ، وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية: فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فانطلق به إلى رحله.
وذكر المهدوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته.
وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك، فنزلت: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية.
وذكر الثعلبي عن أنس، قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزلت الآية.
فصل في معنى الإيثار
الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا، أي: خصصته به وفضلته، ومفعول الإيثار محذوف، أي: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عَنْ غِنًى بل مع احتياجهم إليها.
فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟.
فالجواب: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله - تعالى - عليهم بالإيثار على أنفسهم، فكانوا كما قال الله تعالى:
{ { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [البقرة: 177].
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.
"كما روي أن رجلاً جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذَّهب، فقال هذه صدقة، فرماه بها، وقال: يَأتِي أحدُكُمْ بِجميعِ مَا يَملِكُهُ فيتصدَّق بِهِ، ثُمَّ يقعدُ فيتكفَّفُ النَّاس" انتهى.
فصل في الإيثار بالنفس
الإيثار بالنَّفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.
ومن الأمثال: [البسيط]

4748- الجُودُ بالمَالِ جُودٌ ومكرمةٌ والجُودُ بالنَّفْسِ أقْصَى غايةِ الجُودِ

وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي الصحيح: أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبونك، نحري دون نحرك يا رسول الله ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلتْ.
وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم "اليَرْموك" أطلب ابن عم لي [ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أن نعم]، فإذا أنا برجل يقول: آه آه فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمعت آخر يقول: آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو اليزيد البسطاميرحمه الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل "بلخ" قدم علينا حاجًّا، وقال: يا أبا اليزيد، ما حد الزهد عندكم؟.
فقلت له: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.
فقال: هكذا كلاب "بلخ" عندنا.
فقلت: وما حدّ الزهد عندكم؟.
قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون المصري: ما حدُّ الزهد؟ قال: ثلاث، تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند الفوت.
وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى "الري" ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه.
قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }.
هذه واو الحال، والخصاصة: الحاجة، وأصلها من خصاص البيت، وهي فروجه، وحال الفقير يتخللها النقص، فاستعير لها ذلك.
وقال القرطبي: "أصلها من الاختصاص، وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة: انفراد بالحاجة، أي: ولو كانت بهم فاقة وحاجة".
ومنه قول الشاعر: [الكامل]

4749- أمَّا الرَّبيعُ إذَا تَكُونُ خَصَاصَةٌ عَاشَ السَّقِيمُ بِهِ وأثْرَى المُقْتِرُ

قوله تعالى: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ }.
العامة على سكون الواو، وتخفيف القاف من الوقاية، وابن أبي عبلة وأبو حيوة: بفتح الواو وتشديد القاف.
والعامة - بضم الشين - من "شح"، [وابن أبي عبلة] وابن عمر - رضي الله عنهما - بكسرها.
قال القرطبي: الشُّحُّ والبخل سواء، يقال: رجل شحيح بيِّن الشُّح والشَّح والشحاحة.
قال عمرو بن كلثوم: [الوافر]

4750- تَرَى اللَّحِزَ الشَّحِيحَ إذَا أمِرَّتْ عَليْهِ لِمَاله فِيهَا مُهِينَا

وجعل بعض أهل اللغة الشُّحَّ أشد من البخل.
وفي "الصحاح": الشح: البخل مع حرصٍ، شَحِحْتُ - بالكسر - تشحّ، وشَحَحْتُ أيضاً تَشُحُّ وتشِحُّ، ورجل شَحِيحٌ، وقومٌ شحاحٌ وأشحَّة.
والمراد بالآية: الشُّح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضِّيافة، وما شاكل ذلك، فليس بشحيحٍ ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه، ومن وسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطَّاعات فلم يُوقَ شح نفسه.
روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رجُلاً أتاه فقال: إنِّي أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يديّ شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله - تعالى -، إنما الشُّحُّ أن تأكل مال أخيك ظُلْماً، ولكن ذلك هو البخل، وبئس الشيء البخل، ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل.
وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشُّحُّ أن يشح بما في أيدي النَّاس، يجب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع.
قال ابن زيد: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشُّح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له.
وقال ابن جريج: الشح: منع الزكاة وادخار الحرام.
وقال ابن عيينة: الشح: الظلم.
وقال الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم.
وقال ابن عباس: من اتبع هواه، ولم يقبل الإيمان، فذلك هو الشحيح.
وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه، فقد وقاه الله شحَّ نفسه.
وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"بَرِىء مِن الشُّحِّ مَنْ أدَّى الزَّكَاةَ وأقْرَى الضَّيْفَ، وأعْطَى في النَّائِبَة" .
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شُحِّ نَفْسِي، وإسْرافِهَا وَسوآتِهَا" .
وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم قني شُحَّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
قال القرطبي: ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:
"اتَّقُوا الظُّلْمَ فإنَّ الظُّلْمَ ظُلماتٌ يَوْمَ القِيَامةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فإنَّ الشُّحَّ أهْلكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم حَملهُمْ على أن سفَكُوا دِمَاءهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحَارمَهُمْ" .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبيلِ اللَّهِ ودُخَانُ جَهَنَّم في جَوْفِ عَبْدٍ أبَداً، ولا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ والإيمَانُ في قَلْبِ عَبْدٍ أبَداً" .
وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرُّ بابن آدم؟ قالوا: الفقرُ، فقال: الشح أضر من الفقر، لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبعْ أبداً.