التفاسير

< >
عرض

وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ
١٢٨
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

لما بين حال من يتمسَّكُ بالصِّراط المسْتَقِيم، بيَّن بعده حال من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك؛ ليكون قِصَّة أهْل الجنَّة مُرْدَفَة بقِصَّة أهْل النَّارِ، وليَكُون الوَعِيدُ مذْكُوراً بعد الوَعْدِ.
قوله: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم } يَجُوز أن يَنْتَصِب بفِعْل مقَدَّر، فقدَّره أبو البقاءِ تارة بـ "اذْكُرْ" وتارة بالقَوْلِ المَحْذُوف العَامِل في جُمْلَة النِّداءِ من قوله: "يَا مَعْشَر" أي: ويقُول: "يا مَعْشَر يَوْمَ نَحْشُرُهُم"، وقدَّره الزَّمَخْشَرِي: "ويَوْمَ يَحْشُرُهم وقلنا يا معشر كان ما لا يُوصَفُ لفظَاعتِهِ".
قال أبُو حيَّان: "وما قُلْنَاه أوْلَى" يعني: من كَوْنِه مَنْصُوباً بـ "يَقُولُ" المحكي به جُمْلَة النِّداء، قال: "لاسْتِلْزَامِه حذف جُمْلَتَيْن: إحْداهما جُمْلَة "وقُلْنَا"، والأخْرى العَامِلة في الظَّرْف" وقدَّره الزَّجَّاج بفِعْل قَول مبْنِي للمفْعُول: "يقال لَهُم: يا مَعْشَر يَوْم نَحْشرهُم" وهو مَعْنًى حَسَن؛ كأنه نَظَر إلى مَعْنَى قوله: "ولا يُكَلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهم" فبَنَاه للمفْعُول، ويجوز أن يَنْتَصب "يَوْمَ" بقوله: "وَلِيُّهُم" لما فِيهِ من مَعْنَى الفِعْل، أي: "وهُوَ يتولاَّهُم بما كَانُوا يَعْمَلُون، ويتولاَّهُم يوم يَحْشُرُهُم"، و "جَمِيعاً" حَالٌ أو تَوْكِيدٌ على قَوْل بَعْض النَّحْويِّين.
وقرأ حفص: "يَحْشُرُهُم" بياء الغَيْبَة رداً على قوله: "ربهم" أي: "ويوم يَحْشرُهُم ربُّهُم" والضِّمِيرُ في "يَحْشُرُهُم" يعود إلى الجنِّ والإنْسِ بجمعهم في يَوْم القِيامَةِ.
وقيل: يعود إلى الشَّياطينِ الَّذِين تقدم ذِكْرُهم في قوله:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ } [الأنعام:112].
قوله: "يا مَعْشَر" في مَحَلِّ نصْبٍ بذلك القَوْل المضْمَر، أي: "نقول أو قُلْنَا"، وعلى تَقْدير الزَّجَّاج يكون في مَحَلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفَاعِل المَنُوب عَنْهُ، والمعشر: الجَمَاعةَ؛ قال القائل: [الوافر]

2311- وأبْغَضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فِيهِ لِسَانِي مَعْشَرٌ عَنْهُم أذُودُ

والجمع: مَعَاشِر؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام -: "نَحْنُ مَعَاشِر الأنْبيَاء لا نُوَرَّث" قال الأودي: [البسيط]

2312- فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَومِهِمُ وإنْ بَنَى قَوْمُهُم مَا أفْسَدُوا عَادُوا

قوله تعالى: "مِنَ الإنْسِ" في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: أوْلِيَاؤهُم حال كَونهم من الإنْسِ, ويجُوز أن تكُون "مِنْ" لبَيَانِ الجِنْس؛ لأن أوْلِيَاءَهُم كانوا إنْساً وجِناً، والتقدير: أوْلِيَاؤهم الذين هم الإنْسُ، و "ربِّنا" حُذِفَ منه حَرْف النِّدَاء.
وقوله: { وَقال أوْلِيَاؤهُم مِّنَ ٱلإنْس } يعني: أوْلياء الشَّياطين الَّذِين أطاعُوهُم من الإنْسِ، { ربَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض } والمَعْنَى: استَكْثَرْتُم من الإنْسِ بالإضلالِ والإغْواء، أي: أضْلَلْتُم كَثِيراً.
وقال الكَلْبِيّ: استِمْتَاع الإنْس بالجنِّ هو الرَّجُل كان إذا سَافر وتُرِكَ بأرض قَفْر، وخاف على نَفْسِهِ من الجِنِّ، قال: أعوذ بسَيِّد هذا الوَادِي من سُفَهاء قَوْمه، فيبيتُ آمناً في جوارهم، وأما استِمْتَاعُ الجنِّ بالإنْسِ، فهو أنَّهُم قالُوا: قد سَعْدْنَا الإنس مع الجِنِّ، حتى عاذوا بِنَا فَيَزْدَادوا شَرَفاً في قَوْمِهِم وعظماً في أنْفُسِهِم، كقوله - تبارك وتعالى -:
{ { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً } [الجن:6].
وقيل: استِمْتَاعُ الإنْس بالجِنِّ ما كَانُوا يلْقُون إليهم من الأرَاجِيفِ، والسِّحْرِ والكَهَانَةِ، وتزيينهم لهم الأمور التي يَهْوُونَها، وتَسْهيل سَبيلِها عليهم، واستِمْتَاع الجن بالإنْس طاعة الإنْسِ لهم فيما يُزيِّنُون لَهُمْ من الضَّلالة والمَعَاصِي.
وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظي: هو طاعةُ بعضِهِمْ بَعْضاً، وقيل: قوله: { ربِّنَا ٱسْتَمْتَع بَعْضُنَا بِبَعْض } كلام الإنْس خَاصَّة.
قوله: { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } قرأ الجمهور: "أجَلَنا" بالإفْرَاد؛ لقوله: "الَّذِي" وقُرِئ: "آجَالَنا" بالجَمْع على أفْعَال "الَّذِي" بالإفْرَاد والتَّذْكير وهو نَعْتُ للجَمْعِ.
فقال ابو عَلِيّ: هو جنْس أوقع "الَّذِي" مَوْقِع "الَّتِي".
قال أبو حيَّان: وإعْرابه عِنْدِي بدل؛ كأنه قيل: "الوَقْتُ الَّذِي" وحينئذٍ يكون جِنْساً ولا يَكُون إعْرَابُه نَعْتاً؛ لعدم المُطابَقَة بينَهُمَا، وفيه نَظَر؛ لأن المُطَابقة تُشْتَرطُ في البَدَلِ أيْضاً، وكذلك نصُّ النُّحَاة على قَوْل النَّابِغة: [الطويل]

2313- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةٍ أعْوَام وَذَا العَامُ سابعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأياً أبِينُهُ وَنُوي كجذْم الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ

أي: رماد ونَوَى مَقْطُوعان على "هما رمادٌ ونوى" لا بدل من آياتٍ لِعَدم المُطابَقَة، ولِذلكِ لم يُرْوَيَا إلاَّ مرْفُوعَيْن لا مَنْصُوبَيْن.
فصل في المراد بالآية
معنى الآيةِ: أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجَلٍ معيَّن ووقْتٍ مَحْدودٍ، ثمَّ جَاءَت الخَيْبَة والحَسْرَة والنَّدامَة من حَيْثُ لا دَفع, واخْتَلَفُوا في ذَلِك الأجَلِ.
فقيل: هو وقْتُ الموْتِ.
وقيل: هو وَقْتُ البَعْثِ والقِيامة، والَّذين قَالُوا بالقَوْل الأوَّل قالوا: إنه بَدَلٌ على أن كُلَّ من مَاتَ من مَقْتُول وغَيْرِه، فإن يَمُوتُ بأجَلِهِ؛ لأنهم أقَرُّوا بأنَّا بلغْنَا أجَلَنا الَّذِي أجَّلْت لنا, وفيهم المَقْتُول وغير المَفْتُول، ثم قال - تعالى -: "النَّارُ مَثْوَاكُم" أي: المَقَام والمَقرّ والمَصِير.
قوله: "خَالِدينَ فِيَهَا" مَنْصُوبُ على الحالِ، وهي حالٌ مُقَدَّرة، وفي العامل فيها ثلاثة أوْجُه:
أحدها: أنه "مَثْواكم" لأنه هُنَا مَصْدرٍ لا اسم مكان، والمعنى: النَّارُ ذات ثُوائِكُم، أي: إقامتكم في هذه الحالِ, ولذلكِ ردَّ الفَارِسيّ على الزَّجَّاج؛ حيث قال: المَثْوَى "المَقَام" أي: "النَّار مَكَان ثُوَائِكُم" أي: إقامتكُم.
قال الفَارسِيُّ: "المَثْوى عِنْدي في الآية: اسْمٌ للمصْدرِ دون المكان؛ لحُصُول الحالِ مُعْمَلاً فِيهَا واسْمُ المكانِ لا يَعْمَل عمل الفِعْلِ؛ لأنه لا مَعْنَى للفِعْل فيه، وإذا لم يَكُن مَكَاناً، ثبت أنَّه مَصْدر، والمَعْنَى: "النَّار ذاتِ إقامَتِكُم فيها خَالِدين". فالكَاف والميم في المَعْنَى فاعِلُون, وإن كان في اللَّفْظِ خَفْضاً بالإضَافَةِ؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل]

2314- ومَا هِي إلاَّ في إزَارٍ وعِلْقَةٍ مَغَارَ ابْنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا

وهذا يدلُّ على حَذْفِ المُضافِ، المعنى: "ومَا هِي إلا إزَارٌ وعِلْقَةٌ وقت إغَارَة ابن همَّام"، ولذلك عدَّاه بـ "عَلَى" ولو كان مَكَاناً، لما عدَّاه؛ فثَبَت أنَّهُ اسْمُ مصدر لا مَكَان، فهو كقولك: "آتِيكَ خُفُوقَ النَّجْم ومَقْدِم الحَاجِّ"، ثم قال "وإنَّما حَسُن ذَلِك في المَصَادِر لمُطَابقتِهَا الز‍َّمان، ألا ترى أنَّه مُنْقض غير باقٍ كما أنَّ الزِّمان كَذَلِك".
والثاني: أن العَامِل فيها فِعْلٌ مَحْذُوف،أي: يَثْوُون فيها خَالِدِين، ويَدُلُّ على هذا الفِعْلِ المقدَّرِ "مَثْوَاكُمْ" ويراد بـ "مَثْوَاكُمْ" مكان التَّواءِ، وهذا جوابٌ عن قول الفَارِسيَ المعْتَرِض به على الزَّجَّاج.
الثالث: قاله ابو البقاء: أنَّ العَامِل معنى الإضافة، ومعنى الإضافةِ لا يَصْلُح ان يكون عَامِلاً ألْبَتَّة، فليس بِشَيْءٍ.
قوله: { إلاَّ مَا شَاءَ ٱللَّهُ } اختلفُوا في المسْتَثْنَى منه:
فقال: الجُمْهُور: هو الجُمْلَة التي تَلِيها، وهي قوله: { ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدين فِيهَا } وسيأتي بيانه عن قُرْب.
وقال أبو مُسْلِم: "هو مستَثْنَى من قوله: { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } أي: إلا مَنْ أهْلَكْتَهُ واخْتَرَمْتَه قبل الأجَلِ الذي سَمَّيْتَه لِكُفْره وضلاله". وقد ردَّ النَّاس عليه هذا المَذْهَب من حَيْثُ الصِّناعة، ومن حَيْثُ المَعْنى. أمَّا الصِّناعة فَمِنْ وَجْهَين:
أحدهما: أنَّه لو كان الأمْرُ كذلك، لكان التَّرْكيبُ "إلاَّ ما شِئْتَ" ليُطابق قوله: "أجَّلْتَ".
والثاني: أنه قَدْ فصل بين المْسَتثْنَى والمسْتَثْنَى منه بقوله: { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْواكُمْ خَالِدينَ فيها } ومثل ذلك لا يَجُوزُ.
وأما المَعْنَى: فلأن القَوْل بالأجَلَيْن: أجل الاخْتِرام، والأجَل المسَمَّى باطل؛ لدلائل مقرَّرَة في غَيْر هذا الموضع.
ثم اختلفوا في هذا الاسْتِثْنَاء: هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ؟ على قولين:
فذهب مَكِّي بن أبي طالب, وأبُو البقاءِ في أحد قَوْلَيْهما: إلى أنَّه منْقَطِعُ, والمعنى: "قال النَّار مَثْواكُم إلاَّ مَنْ آمَنَ مِنْكُمْ في الدُّنْيَا" كقوله:
{ { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [الدخان:56] أي: لكن الموْتَة الأولى، فإنهم قَدْ ذَاقُوهَا في الدنيا كذلك هذا؛ لكن الِّذِين شَاءَهُم الله أن يُؤمِنُوا مِنْكُم في الدُّنيا، وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرُون إلى أنَّه مُتَّصِلٌ، ثم اخْتَلَفُوا في المسْتَثْنَى منه مَا هُو؟
فقال قوم: هو ضمير المخَاطَبِين في قوله: "مَثْوَاكُمْ" أي: إلا من آمن في الدُّنْيَا بعد أن كان من هؤلاء الكفرة، علله ابن عبَّاسٍ، و "ما" هُنَا بمعنى "مَنْ" التي لِلْعُقلاءِ، وساغ وُقُوعها هُنَا؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف، و "ما" تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ، وقد تقد‍َّم تحقيقُ هذا في قوله:
{ { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء:3].
ولكن قد اسْتُبِعد هذا؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم عليهما، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ، لو قلت: "قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً"، وكان مَعْنَاه [إلا زَيْداً فإنه لم يَقُمْ، ولا يَصِحُّ أن يكون المَعْنَى: فإنه سيَقُومُ في المسْتَقْبل، ولو قلت: "سأضْرِب القَوْم إلا زَيْداً"], كان مهناه: فإنِّي لا أضربه في المسْتَقْبل, ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استِثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره.
وذهب قَوْمٌ: إلى أن المسْتَثْنَى منه زمان، ثم اخْتلف القَائِلُون بذلك:
فمنهم من قال: ذلك الزَّمان هو مُدَّة إقامتهم في البَرْزَخِ، أي: "القُبُور".
وقيل: "هو المُدَّة التي بَيْن حَشْرِهم إلى دُخُولِهِم النَّار". وهذا قول الطَّبري قال: "وساغَ ذلك من حَيْثُ إنّ العِبَارة بقوله: "النَّارُ مَثْواكُم" لا يخصُّ بها مسْتَقْبَل الزَّمَان دون غيره".
وقال الزجاج: "هو مَجْمُوع الزمَانَينِ، أي: مدَّة إقامتهم في القُبُور، ومُدَّة حَشرِهم إلى دخُولهم النَّارِ".
وقال الزمخشري: "إلا ما شاء الله، أي: يُخَلِّدون في عَذَاب النَّارِ الأبد كُلّه إلا ما شاء الله إلا الأوْقَات الَّتِي يُنْقَلُون فيها من عذاب النَّارِ إلى عذاب الزَّمْهَرير؛ فقد رُويَ: أنهم يَدْخُلون وادياً فيه من الزَّمْهَرير ما يَقْطَعُ أوْصَالَهُم، فيتعاوَوْن ويطْلُبُون الرَّدَّ إلى الجَحِيم".
وقال قوم: "إلا ما شاء اللَّه" هم العُصَاةُ الِّذِين يدخُلُون النَّار من أهل التَّوحيد، ووقعت "مَا" عليهم؛ لأنَّهم نوع كأنه قيل: إلا النَّوع الذي دَخَلَها من العُصَاة، فإنهم لا يُخَلِّدون فيها، والظاهر أن هذا استِثْنَاء حَقِيقَة؛ بل يجب أن يَكُون كذلِك.
وزعم الزَّمَخْشَريّ: أنه يكون من بابِ قَوْل المْوتُور الذي ظَفَر بواتِرِه، ولم يَزَلْ يُحَرِّقِ عليه أنْيَابَه، وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خِنَاقهِ: "أهْلَكَنِي اللَّه إن نَفَّسْتُ عَنْكَ إلا إذا شِئْت" وقد عَلِم أنه لا يَشَاءُ ذلك التَّشَفِّي منه بأقْصَى ما يَقْدِر عليه من التَّشْديد والتَّعْنِيفِ، فيكون قوله: "إلاَّ إذا شِئْت" من أشد الوعيد مع تهَكُم.
قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى ادِّعَاء ذلك مع ظُهُور مَعْنَى الاسْتِثْنَاء فيه، وارتكاب المجازِ وإبْرازِ ما لم يَقَعُ في صُورةِ الواقِعِ.
وقال الحسن البَصْرِيُّ: "إلا ما شَاء اللَّه؛ أي: من كَونهم في الدُّنْيَا بغير عذابٍ"
فجعل المسْتَثْنى زمن حَيَاتهم، وهو أبْعد ممَّا تقدَّم.
وقال الفرَّاء - وإليه نحا الزَّمخْشَري -: "والمعنى: إلا ما شَاءَ اللَّه من زيادة في العذابِ".
وقال غيره: إلا ما شاء اللَّهُ من النِّكال، وكُلُّ هذا إنَّما يتمَشَّى على الاستِثْنَاء المنقَطِع.
قال أبو حيَّان: "وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِثْنَاء من المصْدَر الذي يَدُلُّ عليه مَعْنَى الكلام؛ إذ المْعْنَى: يُعَذِّبون في النَّارِ خَالِدين فهيا إلا ما شَاء اللَّهُ من العذاب الزَّائد على النَّارِ، فإنه يُعَذِّبهم، ويكُون إذ ذاك استِثْنَاء منقطعاً، إذ العذابُ الزَّائد على عذابِ النَّارِ لم ينْدَرج تَحْتَ عذاب النَّار".
وقال ابن عطيَّة: "ويتَّجه عندي في هذا الاستِثْنَاء أن يكون مُخَاطَبَة للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وأمته، ولَيْس مما يُقالُ يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم اللَّهِ؛ كأنه لما أخْبَرَهُم أنه يُقَال للكُفَّار: "النَّارُ مَثْوَاكُم" استثنى لهم من يُمْكِن أن يُؤمِن ممَّن يَرَوْنَهُ يومئذ كافراً، وتقع "مَا" على صِفَة من يَعْقل، ويؤيِّد هذا التَّأويل أيضاً قوله: { إنَّ ربَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي: بمن يُمْكِنُ أن يُؤمِنَ منهم".
قال أبو حيان: "وهو تَأويلٌ حسن، وكان قد قال قبل ذلك: "والظَّاهر أن هذا الاسْتِثْنَاء هو من كلام اللَّه - تعالى - للمخَاطَبِين، وعليه جَاءَت تفاسير الاستِثْنَاء" وقال ابن عطيَّة" ثم ساقه إلى أخِرِه، فكيف يسْتَحْسِنُ شيئاً حُكِم عليه بأنَّه خلاف الظَّاهِر من غير قَرِينَةٍ قويَّة مُخْرِجة للَّفْظِ عن ظَاهِرِه؟
قوله: { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } أي: فيما يَفْعَلهُ من ثواب وعقاب وسائر وُجُوه المجازِ، أو كأنَّه، يقول: إنما حَكَمْتُ لهؤلاء الكُفَّارِ بعذاب الأبَدِ، لعلمي أنَّهُم يستَحِقُّونَ ذلك.
وقيل: "عليم" بالَّذي استَثْنَاهُ وبِمَا في قُلُوبهم من البرِّ والتَّقْوَى.