التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١٣٧
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

هذا نوع آخر من أحْكَامِهِم الفاسدة ومذاهبهم البَاطِلة. قوله: "وكذلِكَ زيَّنَ" هذا في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذُوف كنظائره، فقدَّره الزمخشري تقديرين، فقال: "ومِثْل ذلك التَّزْيين وهو تَزْيين الشِّرْك في قِسْمَة القُرْبَان بين اللَّهِ والآلهة، أو: ومثل ذلك التَّزيين البَلِيغ الذي عُلِم من الشَّياطين".
قال أبو حيَّان: قال ابن الأنْبَاري: ويجُوز أن يكون "كَذَلِكَ" مستَأنفاً غير مُشَارٍ به إلى ما قَبْله، فيكون المَعْنَى: وهكذا زيَّن.
قال شهاب الدِّين: والمنْقُول عن ابن الانْبَارِي أنه مُشَارٌ به إلى ما قبله، نقل الواحِدِي عنه؛ أنه قال: "ذَلِكَ" إشارةٌ إلى ما نَعَاه اللَّه عليهم من قَسْمِهِم ما قَسَمُوا بالجَهْل، فكأنه قِيلَ: ومثل ذلك الذي أتَوْه في القَسْم جهلاً وخطأ زيِّن لكَثِير من المُشْركين، فشبَّه تَزْيين الشُّركَاء بخِطَابهم في القَسْمِ وهذا معنى قول الزَّجَّاج، وفي هذه الآية قراءات كَثِيرة، والمُتواتِر منها ثِنْتَان.
الأولى: قرأ العامّة "زَيَّنَ" مبنياً للفَاعِل و "قَتْلَ" نصب على المفعُوليَّة و "أوْلادهم" خفض بالإضافةِ, و "شُرَكَاؤُهُم" رفع على الفاعليَّة, وهي قراءة واضِحَةُ المَعْنَى والتَّرْكِيب.
وقرأ ابن عامر: "زُيِّن" مبنياً للمفعُول, "قَتْلَ" رفعاً على مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُه, "أوْلاَدَهُم" نَصْباً على المفعُول بالمصْدَر، "شُركَائِهِم"خفضاً على إضافة المصدر إليه فَاعِلاً، وهذه القراءة مُتواتِرة صحيحة، وقد تجرأ كَثِيرٌ من النَّاسِ على قَارِئهَا بما لا يَنْبَغي، وهو أعلى القُرَّاء السَّبْعَة سَنَداً وأقدمهم هِجْرَة.
أمَّا عُلُوِّ سنده: فإنَّه قرأ على أبِي الدَّرْدَاء، وواثِلة بن الأسْقَع، وفَضَالةِ بن عُبَيْد، ومعاوية بن أبي سُفْيَان، والمُغِيرةَ المَخْزُومِي، ونقل يَحْيَى الذُّماري أنه قرأ على عُثْمَان نفسه.
وأما قِدَم هِجْرَته فإنَّه وُلِد في حَيَاة رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونَاهِيك به أن هشام بن عمَّار أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أخّذ عن أصْحاب أصحابه وتَرْجَمَته مُتَّسِعَة ذكرتُها في "شرح القصيد".
وإنَّما ذكرت هُنَا هَذِه العُجَالة تَنْبيهاً على خَطَإِ من رَدَّ قراءته ونَسَبَه إلى لَحْنٍ، أو اتِّبَاع مجرَّد المَرْسُوم فقط.
قال أبو جَعْفَر النحاس: وهذا يَعْني أنّ الفَصْل بين المُضَافِ والمضافِ إليه بالظَّرْفِ أو غيره لا يجُوز في شِعْرٍ ولا غيره، وهذا خطأ من أبي جَعْفَر؛ لما سنذكره من لسَان العرب.
وقال أبو علي الفارسيّ: هذا قَبيحٌ قليل في الاسْتِعْمَال، ولو عَدَل عَنْهَا - يعني ابن عامر -، كان أولى؛ لأنهم لم يَفْصِلُوا بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالظَّرف في الكلام مع اتِّساعهم في الظَّرُوفِ، وإنَّما أجَازُوه في الشِّعْر قال: وقد فَصَلُوا به - أي بالظَّرف - في كَثِير من المواضع، نحو قوله تعالى:
{ { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } [المائدة:22]؛ وقال الشاعر في ذلك: [المتقارب]

2317- عَلَى أنَّنِي بَعْدَمَا قَدْ مَضَى ثلاثُونَ - لِلْهَجْرِ - حَوْلاً كَمِيلاً

وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل]

2318- فَلاَ تَلْحَنِي فيها فإنَّ - بِحُبِّهَا - أخَاكَ مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بلابِلُهْ

ففصل بين "إنَّ" واسْمَها بما يتعلَّق بخبَرِهَا، ولو كان بِغَيْر الظرف، لم يَجُزْ، ألا تَرَى أنَّك لو قُلْتَ: "إنَّ زَيْداً عَمْراً ضَارِب" على أن يكون "زَيْداً" منصُوباً بـ "ضَارِب" لم يَجز، فإذا لم يُجِيزُوا الفَصْل بين المُضَافِ والمُضافِ إلَيْهِ في الكلامِ بالظرفِ مع اتِّساعهم فيه في الكلام، وإنما يجُوزُ في الشَّعْر؛ كقوله: [الوافر]

2319- كَمَا خُطَّ الكِتَاب بَكَفِّ - يَوْماً - يَهْودِيِّ يُقَاربُ أوْ يُزيلُ

فأن لا يجوز بالمفعُول الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفَصْلِ أجْدَر، ووجه ذلك على ضَعْفِه وقلَّة الاسْتِعَمال: أنه قد جَاءَ في الشِّعْر على حدِّ ما قَرَأهُ قال الطَّرْمَاح: [الطويل]

2320- يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَم تَرُعْ بِوَادِيهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائِنِ

وأنشد أبو الحسن: [مجزوء الكامل]

2321- ................. زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ

وقال أبو عُبَيْد: وكان عبْدُ اللَّه بن عَامِر، وأهل الشام يَقْرءُونها: "زُيِّن" بضم الزَّاي "قُتْلُ" بالرَّفْع، "أولادَهُم" بالنَّصْب، "شُرَكَائهم" بالخَفْضِ، ويتأولون "قَتْلَ شُرَكَائِهِم أوْلادَهم" فيفرقون بين الفِعْل وفاعله.
قال أبو عبيد: "ولا أحِبُّ هذه القراءة؛ لما فيها من الاسْتِكْرَاه والقِراءة عِنْدنَا هي الأولَى؛ لصحِّتِها في العربيِّة، مع إجْماع أهْل الحَرْمَيْن والمِصْرَين بالعراق عَلَيْهَا".
وقال سيبويْه في قولهم:

2322- يا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارْ

بخفض "اللَّيْلَةِ" على التَّجُّوز وبنصب "الأهْلِ" على المَفْعُولِيَّة، ولا يجُوز "يا سَارِقَ اللَّيْلَة أهْلَ الدَّار" إلاَّ في شِعْر؛ كراهة أن يَفْصِلُوا بين الجَارِّ والمجْرُور، ثم قال: وممَّا جَاء في الشِّعْر قد فُصِل بَيْنَهُ وبين المَجْرُور قول عمرو بن قميئة: [السريع]

2323 – لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ لِلَّهِ دَرُّ - اليَومَ - مَنْ لاَمَهَا

وذكر أبْيَاتاً أُخَر.
ثم قال: وهذا قَبِيحٌ ويَجُوز في الشِّعر على هذا: "مَرَرْتُ بِخَيْرِ وأفْضَلِ مَنْ ثمَّ".
وقال أبو الفتح بن جني: "الفَصْل بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه بالظَّرْف والجَارِّ والمَجْرُور كَثِيرٌ، لكنه من ضَرُورَة الشَّاعِر".
وقال مكي بن أبي طالب: "ومن قَرَأ هذه القراءة ونَصَب "الأوْلادَ" وخفض "الشُّركاء" فيه قراءة بعيدةٌ، وقد رُويَتْ عن ابْن عامر، ومجازها على التَّفْرِقَة بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالمفعُول، وذلك إنَّما يجُوزُ عند النَّحويِّين في الشِّعْر، وأكثر ما يَكُون بالظَّرْفِ".
قال ابن عطيَّة -رحمه الله -: وهذه قراءةٌ ضَعِيفَة في اسْتِعْمَال العرب، وذلك أنَّه أضاف الفِعْلَ إلى الفاعل، وهو الشُّرَكَاء، ثُمَّ فصل بين المُضافِ والمُضافِ إليه بالمفْعُول، ورُؤسَاء العربيَّة لا يُجيزُون الفَصْل بالظُّرُوف في مِثْل هذا إلا في شِعْرٍ؛ كقوله: [الوافر]

2324- كَمَا خُطَّ - الكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً يَهْودِيِّ.......................

البَيْت فكيف بالمَفْعُول في أفْصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضَعْفِها: أنَّها وردت في بَيْتٍ شّاذٍّ أنْشَدَهُ أبو الحَسَن الأخْفَش، فقال: [مجزوء الكامل]

2325- فَزَجَجْتُهَا بِمَزجَّةٍ زَجَّ - القلُوصَ - أبي مَزَادَهْ

وفي بيت الطِّرمَّاح، وهو قوله: [الطويل]

2326- يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تَرُعْ بِوَادِيهِ مِنْ قَرْع - القِسِيَّ - الكَنَائِنِ

وقال الزَّمخشري - فأغْلظ وأسَاء في عبارتهِ - "وأما قِرَاءة ابن عامرٍ - فذكرها - فشيء لو كان في مكان الضرُورة وهو الشِّعْر، لكان سَمِجاً مرْدُوداً كما سَمُج ورورد:
[مجزوء الكامل]

2327-...................... زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ

فكيف به في الكلام المَنْثُور؟ كيف به في القُرْآن المُعْجِز بحُسْن نَظْمِه وجَزَالَتِه؟ الذي حمله على ذلك: أنْ رأى في بَعْض المَصَاحف "شُرَكَائِهِم" مكْتُوباً بالياءِ، ولو قرأ بجرِّ "الأوْلاد" و "الشُّركاء" - لأن الأولاد شُرَكَاؤهم في أموالهم - لوجَد في ذلك مَنْدُوحة عن هذا الارتكاب".
قال شهاب الدين: "سَيَأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسِم أن يَقْرَأه ابن عَامرٍ، وأنه قد قرأ به، فكأنَّ الزَّمَخْشَرِيّ لم يَطَّلِعْ على ذلك، فلهذا تَمَنَّاه".
وهذه الأقوال التي ذكرتها جَمِيعاً لا يَنْبَغِي أن يُلْتَفَت إليها؛ لأنها طَعْن في المُتَواتِر، وإن كانت صَادِرةً عن أئِمَّةٍ أكَابِر، وأيضاً فقد انْتصَر لها من يُقَابِلُهُم وأوْرَد من لسانِ العربِ نَظْمهِ ونَثْرِه ما يَشْهَد لصِحَّة هذه القراءة لُغَة.
قال أبو بَكْر بن الأنْبَاريّ: "هذه قِرَاءة صَحيحَةٌ وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بني المُتضَايفين بالجُمْلَة في قولهم: "هُو غُلامُ - إن شَاءَ اللَّه - أخِيكَ" يُرِيدون: هو غلام أخِيكَ، فأنْ يُفْصَل بالمفْرَد أسْهَل" انتهى.
وسمع الكَسَائِي قول بعضهم: "إن الشَّاةُ لتجترُّ فتَسْمع صَوْت واللَّه ربِّهَا"، أي: صَوْت ربِّها واللَّهِ، ففصل بالقسم وهو في قُوَّة الجُمْلَة، وقرأ بَعْض السَّلَف: { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِهِ } [إبراهيم:47] بنصب "وَعْدَهُ" وخفض "رُسُلِهِ" وفي الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام -:
"هَلْ أنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبي، تَارِكُوا لِي امْرَأتِي" أي تاركو صَاحِبي لي، تَارِكُو امْرَأتِي لي.
وقال ابن جِنِّي في كتاب "الخصائص": باب ما يَرِدُ عن العَرَبِيّ مُخَالِفاً للجُمْهُور، إذا اتَّفق شَيْءٌ من ذلك، نُظِر في ذلك العربي وفيما جَاءَ بهِ: فإن كان فَصِيحاً وكان مَا جَاء به يَقْبَلُه القِيَاسُ، فَيَحْسُن الظَّنُّ به؛ لأنه يمكن أن يَكُون قَدْ وَقَع إليه ذَلِك من لُغَةٍ قديمة، قد طَال عَهْدُها وعَفَا رَسْمُهَا.
أخبرنا أبُو بكْر جعفر بن مُحَمَّد بن أبي الحَجَّاج، عن أبي خَلِيفَة الفَضْل بن الحباب، قال: قال ابن عَوْف عن ابن سيرين: قال عُمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: "كان الشِّعْرُ عِلْمَ قَوْم لم يَكُونْ لَهُم عِلْمٌ منه؛ فجاء الإسْلام فتشاغَلَت عَنْه العَرَب بالجِهَاد وغَزْوِ فَارِس والرُّوم، ولَهَت عن الشِّعْرِ وروايته، فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفُتُوح، وأطْمَأنَّت العرب في الأمْصَارِ، راجَعُوا رواية الشِّعْرِ فلم يَئُولوا إلى دِيوانٍ مُدَوَّنٍ، ولا إلى كِتاب مكْتُوبٍ، وألِفُوا ذلك وقد هَلَك مَنْ هَلَك من العربِ بالموت والقَتْلِ، فَحَفِظُوا أقل ذلك وذهب عَنْهُم كَثِيرُه". قال: وحدَّثنا أبو بكر، عن أبِي خَلِيفَة عن يُونُس بن حَبِيب، عن أبِي عَمْرو بن العلاء. قال: "ما انْتَهى إليكم مما قالت العَرَب إلا أقَلُّه، ولو جَاءَكُم وافراً لجَاءَكُم عِلْمٌ وشِعْر كَثِير".
وقال أبو الفَتْح: "فإذا كان الأمْر كَذَلِك، لم نَقْطَع على الفَصِيح إذا سُمِع مِنْه ما يُخَالف الجُمْهُور بالخَطَإ، ما وُجِد طَريقٌ إلى تَقَبُّل ما يُورِدُه، إلا إذا كان القِيَاسُ يُعَاضِدُه".
قال شهاب الدِّين: وقراءة هذا الإمام بهذه الحيثيَّة، بل بطريق الأولَى والأحْرَى لو لم تكُن مُتَوَاتِرَة، فكيف وهي مُتواتِرَة؟ وقال ابن ذَكْوَان: سألَني الكَسَائِي عن هذا الحَرْفِ وما بَلَغَهُ من قِرَاءَتنا، فرأيْتُه كأنه أعْجَبَه وتَرَنِّم بهذا البيت: [البسيط]

2328- تَنْفِي يَدَاهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ نَفْيَ - الدَّرَاهِيمَ - تَنْقَادِ الصَّيَارِيفِ

بنصب "الدَّرَاهِيم" [وجَرِّ "تَنْقَاد"، وقد رُوِي بخفض "الدَّرَاهِيم" ورفع "تَنْقَادُ" وهو الأصْل، وهو المَشْهُور في الرِّواية].
وقال الكرمَانِيّ: "قراءة انب عَامرٍ وإن ضَعُفَتْ في العَرَبِيَّة للإحَالَة بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه فَقَويَّةٌ في الرَّواية عَالِيةٌ" انتهى.
وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثَق بعربيَّته: "تَرْكُ يَوْماً نَفْسِك وهَوَاهَا سَعْيٌ في رَدَاهَا" أي: تَرْكُ نَفْسِك يَوْماً مع هَوَاهَا سَعْيٌ في هَلاكِهَا.
وأما ما ورد في النَّظْمِ من الفَصْلِ بين المُتَضَايفين بالظَّرْف، وحَرْف الجرِّ، وبالمفعول فكَثِيرٌ، وبغير ذلك قَلِيل، فمن الفَصْل بالظَّرْفِ قول الشَّاعر: [الطويل]

2329 - فَرِشْنِي بِخيْرٍ لاَ أكُونَنْ ومِدْحَتِي كَنَاحِتِ - يَوْماً - صَخْرَةٍ بِعسِيلِ

قول الآخر: [الوافر]

2330- كَمَا خُطَّ الكِتَابُ بِكَفِّ - يَوْماً - يَهْودِيٍّ..................

وقول الآخر: [السريع]

2331 قَدْ سَألَتْنِي أمُّ عَمْرٍو عَنِ الـ أرْضِ الَّتِي تَجْهَلُ أعلامَهَا
لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ لِلِّهِ دَرُّ - اليَوْمَ - مَنْ لاَمَهَا
تَذَكَّرَتْ أرْضاً بِهَا أهْلُهَا أخْوالَهَا فِيهَا وأعْمَامَهَا

يريد: للَّه دَرُّ مَنْ لامَها اليَومْ، و "ساتِيدمَا" قيل: هو مرَكَّب والأصْل: "سَاتِي دَما" ثم سمِّي به هذا الجبل؛ لأنه قُتِل عِنْدَه، قيل: ولا تَبْرح القَتْلَى عند، وقيل: "سَاتِيد" كله اسْمٌ و "مَا" مَزِيدة؛ ومثال الفَصْل بالجار قوله: [الطويل]

2332- هُمَا أخَوَا - فِي الحرْب - مَنْ لا أخَا لَهُ إذا خَافَ يَوْمَاً نَبْوَةً فَدَعَاهُمَا

وقال الآخر في ذلك: [البسيط]

2333- لأنْتَ مُعْتَادُ - فِي الهَيْجَا - مُصَابَرَةٍ يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا

وقوله أيضاً: [البسيط]

2334- كَأنَّ أصْوَات - مِنء إيغَالِهِنَّ بِنَا - أوَاخِرِ المَيْسِ أصْواتُ الفَرَارِيجِ

قوله أيضاً: [ الطويل]

2335- تَمُرُّ على ما تَسْتَمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ غَلائِلَ - عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا - صُدُورِهَا

يريد: هما أخَوَا مَنْ لا أخَا لَهُ في الحربِ، ولأنْتَ مُعْتَادُ مُصَابرةٍ في الهَيْجاء، وكأن أصوات أواخر الميس وغَلاَئِل صُدُورها، ومن الفَصْل بالمفعُول قول الشاعر في ذلك: [مجزوء الكامل]

2336- فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَّةٍ زَجَّ - القُلُوصَ - أبِي مَزادَهْ

ويروى: فَزَجَجْتُها فتدافعتْ، ويروى: فزجَجْتُهَا متمكَّنَا، وهذا البيت كما تقدم أنْشَده الأخْفَش بِنْصَب "القَلُوصَ" فاصلاً بين المصدر وفاعله المعْنوِيّ، إلا أن الفرَّاء قال بعد إنشاده لهذا البيتِ: أهل المدينة يُنْشِدون هذا البَيْتَ يعني: بِنَصْب "القَلُوص". قال: "والصَّواب: زَجَّ القَلُوصِ بالخَفْض". قال شهاب الدِّين: وقوله: "والصَّواب يُحْتَمل أن يكُون من حَيْث الرِّوَاية" أي: إن الصَّواب خَفْضُه على الرِّواية الصَّحيحة وأن يكُون من حَيْثُ القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنَّصْب، وقال في مَوْضِع آخر من كتابه "مَعَانِي القُرْآن": "وهذا ممَّا كان يقُولُه نَحْويُّو أهل الحِجَاز، ولم نَجِد مِثْلَه في العربيَّة" وقال أبو الفَتْح: "في هذا البيت فُصِل بينهُمَا بالمفعُول به هذا مع قُدْرته على أنْ يقُول: زَجَّ القَلُوص أبو مزادة؛ كقولك: "سَرَّنَي أكلُ الخُبْزِ زَيْدٌ" بمعنى: أنه كان يَنْبَغِي أن يُضِيفَ المَصْدَر إلى مَفْعُوله، فَيَبْقى الفاعل مَرْفُوعاً على أصْلِه، وهذا مَعْنَى قول الفرَّاء الأوَّل "والصَّواب جر القَلُوص" يعني ورفع الفاعل". ثم قال ابن جِني: وفي هذا البَيْت عِنْدي دَلِيلٌ على قُوَّة إضافَةِ المَصْدَر إلى الفَاعِل عِنْدَهُم، وأنه في نُفُوسِهِم أقْوَى من إضافته إلى المَفْعُول؛ ألا تراه ارْتَكب هذه الضَّرُورة مع تمكُّنِهِ من تركِهَا لا لِشَيْءٍ غير الرَّغْبة في إضافة المصْدَرِ إلى الفاعل دُون المَفْعُول، ومن الفَصْلِ بالمفعُول به أيضاً قول الآخر في ذلك: [الرجز]

2337- وحِلَقِ المَاذِيِّ والقَوانِسِ فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ

أي: دوس الدائس الحصادَ.
ومثله قول الآخر: [الرجز]

2338 – يَفْرُكُ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بالقَاعِ فَرْكَ - القُطُنَ - المُحَالِجِ

يريد: فَرْك المُحَالِجِ القُطْن، وقول الطِّرمَّاحِ في ذلك: [الطويل]

2339-................... بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائِنِ

يريد: قَرْع الكَنَائِنِ القِسِيَّ.
قال ابن جِنِّي في هذا البيت: "لم نَجِد فيه بُداً من الفَصْلِ؛ لأن القوافي مَجْرُورَة" وقال في "زَجِّ القَلُوصِ" فصل بَيْنَهُما بالمَفْعُول به، هذا ما قُدْرَته إلى آخَر كلامهِ المتقدِّم، يعني: أنَّه لو أنْشَد بَيْت الطِّرْمَاح بخَفْضِ "القِسِيِّ" ورفع "الكَنَائِنِ" لم يَجُز؛ لأن القَوافِي مَجْرُورة بِخِلاف بَيْت الأخْفَش؛ فإنه لو خفض "القَلُوص" ورَفع "أبُو مَزَادَة" لم تَخْتَلِف فيه قَافيِتَه ولمْ يَنْكَسِر وَزْنَه.
قال شهاب الدِّين: ولو رفع "الكَنَائِن" في البيت، لكان جَائِزاً وإن كانتِ القوافي مَجْرُورة، ويكُون ذلك إقْوَاءً، وهو أن تكُون بَعْضُ القَوَافي مَجْرُورة وبَعْضُها مَرْفُوعة؛ كقول امرئ القيس: [الكامل]

2340 - تَخْدِي عَلَى العِلاَّتِ سَامٍ رَأسُهَا رَوْعَاءُ مَنْسِمُهَا رَثيمٌ دَامِ

ثم قال القائل: [الكامل]

2341- جَالَتْ لِتصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصِرِي إنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ

فالميمُ مَخْفُوضة في الأوَّل، مَرْفُوعة في الثَّاني. فإن قيل: هذا عَيْبٌ في الشِّعْر.
قيل: لا يتقاعد ذلك عن أنْ يَكُون مِثْل هذه للضَّرُورةَ، والحقُّ أن الإقْواء أفْحَشُ وأكثر عَيْباً من الفَصْل المَذْكُور، ومن ذلك أيضاً: [الوافر]

2342-فإنْ يَكُنِ النِّكَاحُ أحَلَّ شَيءٍ فإنَّ نِكَاحَهَا مَطَرٍ حَرَامُ

أي: فإنَّ نِكَاحَ مطرٍ إيَّاها، فلما قدَّم المفْعُول فَاصِلاً بين المَصْدَر وفاعله، اتَّصَل بعامِلِه؛ لأنه قدر عليه مُتَّصِلاً فلا يَعْدل إليه مُنْفَصِلاً، وقد وقع في شِعْر أبي الطَّيِّب الفَصْل بين المَصْدَر المُضافِ على فَاعِلهِ بالمَفْعُول؛ كقوله: [الطويل]

2343- بَعَثْتُ إلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حَدِيقَةَ سَقَاهَا الحَيَا سَقْي - الرِّياضَ - السَّحائبِ

أي: سقي السَّحائب الرِّياضَ، وأما الفَصْل بغير ما تقدَّم فهو قَلِيلٌ، فمنه الفَصْل بالفاعل.
كقوله: [الطويل]

2344- ................... غَلاَئِلَ عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا صُدُورِهَا

فَفَصَل بين "غَلائِلَ" وبين "صُدُورِهَا" بالفاعل وهو "عبْدُ القَيْسِ"، وبالجار وهو "مِنْهَا" كما تقدَّم بيانه؛ ومثله قول الآخر: [الطويل]

2345- نَرى أسْهُماً لِلْمَوْتِ تُصْمِي وَلاَ تُنْمِي ولا تَرْعَوِي عَنْ نَقْضِ - أهْوَاؤنَا - العَزْمِ

فأهْوَاؤنا فاعل بالمصدر، وهو "نَقْض" وقد فصل به بين المَصْدَر وبين المُضَاف إلَيْه وهو العَزم؛ ومثله قول الآخر: [المنسرح]

2346- أنْجَبَ أيَّامَ - والدهُ بِهِ - إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا

يريد: أيَّام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو "والداهُ" المرفوع بـ "أنْجَبَ" بين المُتضايفيْن وهما "أيَّام - إذْ ولداه".
قال ابن خَرُوف: "يجوزُ الفصل بين المصْدَر والمضاف إليه بالمفعُول؛ لكَوْنِهِ في غير محلِّه، ولا يُجُوزُ بالفاعل لكوْنِهِ في محلِّه وعليه قراءة ابن عَامِر".
قال شهاب الدِّين: هذا فَرْقٌ بين الفاعل والمفعُول حيث اسْتَحْسن الفَصْل بالمفْعُول دون الفاعل، ومن الفَصْل بغير ما تقدَّم أيضاً الفَصْل بالنِّداء؛ كقوله: [البسيط]

2347- وفَاقُ - كَعْبُ - بُجَيْر مُنْقِذٌ لَكَ مِنْ تَعْجِيلِ مُهْلِكَةٍ والخُلْدِ في سَقَرِ

وقول الآخر: [الطويل]

2348- إذَا مَا - أبَا حَفْصٍ - أتَتْكَ رَأيْتَهَا عَلَى شُقراءِ النَّاسِ يَعْلُو قَصِيدُهَا

وقول الآخر في ذلك: [الرجز]

2349- كأنَّ بِرْذَوْنَ - أبَا عِصَامِ - زَيْدٍ حِمَارٌ دُقَّ بِاللِّجَامِ

يريد: "وفاق بجَيْر يا كَعْب" و "إذا ما أتَتْكَ يا أبَا حَفْصٍ" و "كأن بِرْذَوْن زَيْد يا أبا عِصَام".
ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالنَّعْتِ؛ كقول مُعَاوِية يُخاطِب به عَمْرو بن العَاص: [الطويل]

2350- نَجَوْتَ وَقَدْ بَلَّ المُرَادِيُّ سَيْفَهُ مِن ابْنِ أبِي شَيْخِ الأبَاطِح طَالبِ

وقول الآخر في ذلك: [الكامل]

2351-وَلَئِنْ حَلَفْتُ عَلَى يَدَيْكَ لأحْلِفَنْ بيَمِينِ أصْدَقَ مِنْ يَمينكَ مُقْسِمِ

يريد: من ابن أبِي طَالِب شَيْخ الأبَاطِح، فشيخ الأباطح نعْت لأبي طالب، فصل به بَيْن أبي، وبَيْن طالب، ويريد: لأحْلِفَن بيمين مُقْسِم أصْدَق من يَمِينِك؛ فـ "أصدق" نعت لِقَوْله بيمين، فصل به بَيْن "يَمِين" وبَيْن "مُقْسِمِ" ومن الفَصْل أيضاً الفَصْلُ بالفِعْل المُلْغَى؛ كقوله في ذلك: [الوافر]

2352- ألا يَا صَاحِبَيَّ قِفَا المَهَارَى نُسَائِلْ حَيَّ بَثْنَةَ أيْنَ سَارَا؟
بأيِّ تَرَاهُم الأرَضِين حَلُّوا أألدَّبَرَانِ أمْ عَسَفُوا الكِفَارَا؟

يريد: بأي الأرضِين تراهم حَلُّوا، ففصل بقوله "تَرَاهمُ" بين "أيّ" وبين الأرضين.
ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بمفْعُول "لَيْس" معمولاً للمصدر المُضاف إلى فاعل؛ كقول الشاعر:[البسيط]

2353- تَسْقِي امْتِيَاحاً نَدَى المِسْوَاكَ ريقَتها كَمَا تَضَمَّنَ مَاءَ المُزْنَةِ الرَّصِفُ

أي: تسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك فـ "المِسْوَاك" مفْعُول به نَاصبة "تَسْقِي" فصل به بين "نَدَى" وبين "ريقتهَا"، وإذ قد عَرَفْت هذا، فاعْلَم أنَّ قِرَاءة ابن عَامِرٍ صحيحَة؛ من حيث اللُّغَةِ كما هي صَحيحة من حَيْث النَّقْل، ولا التِفَات إلى قَوْل من قال: إنه اعْتَمَد في ذلك على رسْم مُصْحَفِ الشَّام الذي أرْسَلَه عُثْمَان بن عفَّان - رضي الله عنه -؛ لأنه لم يُوجَد فيه إلا كِتَابة "شُرَكَائِهِم" بالياء وهذا وإن كافياً في الدَّلالة على جَرِّ "شُرَكائِهِم"، فليس فيه ما يَدُلُّ على نَصْب "أوْلادَهُم"؛ إذا المصْحَفُ مُهْمَلٌ من شكْل ونقط، فلم يَبْقَ له حُجَّة في نَصْب الأولاد إلاَّ النَّقْل المحض.
وقد نقل عن ابن عامرٍ؛ أنه قرأ بِجَرِّ "الأوْلاد" كما سيأتي بَيَانَهُ وتَخْريجُه، وأيضاً فليس رسْمها "شُرَكَائِهم" بالياء مخْتَصاً بمصْحَف الشَّامِ، بل هي كذلك أيضاً في مُصْحَف أهْل الحِجَاز.
قال أبو البرهسم: "فِي سُورة الأنْعَام في إمَام أهْل الشَّام وأهْل الحجاز: "أوْلادَهُم شُرَكَائِهِم" بالياء، وفي إمان أهل العراق "شُرَكَاؤهُم" ولم يَقْرَأ أهل الحجاز بالخفضِ في "شُرَكَائِهِم" لأن الرَّسْم سُنَّةُ مُتَّبعة قد تُوافِقُهَا التِّلاوة وقَدْ لا تُوَافِقُ".
إلاَّ أن الشيخ أبا شَامَةَ قال: "ولم تُرْسم كذلك إلا باعتبار قراءَتَيْن: فالمضموم عليه قِراءة معْظم القُرَّاء" ثم قال: "وأمَّا "شُركَائهم" بالخَفْضِ؛ فيحتمل قراءة ابن عامر" قال شهاب الدين: وسيأتي كلام أبِي شَامَة هذا بتَمَامة في موْضِعه، وإما أخَذْتُ منه [بقَدر] الحَاجَة هُنَا.
فقوله: "إن كُلَّ قراءة تَابِعَة لرسْم مُصْحَفِها" تُشْكِلُ بما ذكرنا لك من أنَّ مصحَفَ الحِجَازيِّين بالياءِ، [مع أنَّهُم لم يَقْرءُوا بذلِك].
وقد نقل أبُو عَمْرو والدَّانيِ أن: "شُرَكَائِهِم" بالياء]، إنَّما هو في مُصْحف الشَّامِ دون مَصَاحِف الأمْصَار؛ فقال: "في مَصَحِف أهْل الشَّامِ "أوْلادَهُم شُركَائِهم" بالياء، وفي سائر المصاحف شُركَاؤُهُم بالواوِ".
قال شهاب الدين: هذا هو المَشْهُور عند النَّاس، أعني اختصاص الياءِ بمصاحِفِ الشَّامِ، ولكن أبُو البرهسم ثِقَة أْيضاً، فنَقْبَل ما ينقله. وقد تقدَّم قول الزَّمَخْشَري: "والَذي حَمَلَه على ذِلَك أنْ رَأى في بعض المَصاحِف "شُرَكَائِهِم" مكتوباً بالياء".
وقال الشَّيْخ [شهاب الدِّين] أبو شامة: "ولا بُعْد فيما اسْتَبْعَده أهل النَّحْو من جِهَة المَعْنَى؛ وذلك أنه قَدْ عُهِد المفعُول على الفاعل المَرْفُوع لفظاً, فاستمرّت له هذه المرْتَبَة مع الفاعِل المَرْفُوع تقديراً، فإنَّ المَصْدر لو كان مُنَوّناً لجاز تَقْدِيم المفعُول على فاعله، نحو: "أعْجَبَنِي ضَرْب عَمْراً زَيْدٌ" فكذا في الإضَافَة، وقد ثبت جواز الفَصْل بين حَرْف الجرِّ ومجْرُوره مع شِدَّة الاتِّصال بَيْنَهُمَا أكْثَر من شِدَّته بين المُضَافِ والمُضافِ إليه؛ كقوله - تعالى -:
{ { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ } [النساء:155] { { فَبِمَا رَحْمَةٍ } [آل عمران:159] فـ "مَا" زَائِده في اللَّفْظِ، فكأنها سَاقِطة فيه لسُقُوطها في المَعْنَى, والمَفْعُول المقدَّم هو غير مَوْضِعِه مَعْنى فكأنه مؤخَّر لَفْظاً، ولا التِفَات إلى قَوْل من زَعَم أنه لم يَأتِ في الكلام المَنْثُور مثله؛ لأنه نَافٍ، ومن أسْنَد هذه القِراءة مُثْبِت، والإثْبات مُرَجَّح على النَّفْي بإجْمَاع، ولو نقل إلى هذا الزّاعِم عن بَعْضِ العرب أنه اسْتَعَمَلَهُ في النَّثْر، لرجع إلَيْه، فما بالُه لا يكْتَفِي بناقل القراءة من التَّابعين عن الصَّحابَةِ؟ ثم الذي حَكَاه ابن الأنْبَاري يَعْني ممَّا تقدَّم حِكايته من قولهم: "هو غُلامُ إن شاء اللَّه أخيك" فيه الفَصْل من غير الشِّعْر بجُمْلَة".
وقرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي، والحسن البصري، وعبد الملك قَاضِي الجند صَاحِب أن عامِر: "زُيِّن" مبْنِياً للمفعُول، "قَتْلُ" رفعاً على ما تقدَّم، "أوْلادِهم" خفْضاً بالإضافة، "شُرَكَاؤهم" رفْعاً، وفي رفْعِه تخريجان:
أحدهما - وهو تَخْريج سيبويه -: أنه مَرْفُوع بفعل مُقَدَّر، تقديره: زَيَّنَه شركَاؤهُم، [فهو جواب لِسُؤال] مقدر كأنَّه قيل: مَنْ زَيَّنة لَهُم؟ فقيل: "شركَاؤُهُم"؛ وهذا كقوله تعالى:
{ { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رجَالٌ } [النور:36] أي: يُسَبِّحُهُ.
وقال الآخر: [الطويل]

2354- لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ...................

والثاني: خرجه قُطْرُب - أن يكُون "شُرَكَاؤهُم" رفعاً على الفاعليَّة بالمَصْدَر، والتقدير: زُيِّن للمشركِين أن قَتْلَ أوْلادهم شُركَاؤُهُم؛ كما تَقُول: "حُبِّب لِي رُكوبُ الفرسِ زَيْدٌ" تقديره: حُبِّب لِي أنْ ركب الفَرَس زَيْد، والفرق بني التَّخْرِيجَيْن: أن التَّخريج الأوَّل يؤدِّي إلى أن تكُونَ هذه القِرَاءةُ في المَعْنَى، كالقراءة المَنْسُوبة للعَامَّة في كون الشُّركَاء مُزَيِّين للقَتْلِ، وليسوا قَاتِلِين. [والثاني: أن يكون الش‍ُّركاء قَاتِلِين]، ولكن ذلك على سبيل المجازِ؛ لأنهم لما زيَّنُوا قَتْلَهم لآبائِهِم، وكانوا سَبَباً فيه، نُسِبَ إليهم القَتْل مجازاً.
وقال أبو البقاء: "ويمكن أن يَقَع القَتْل منهم حَقِيقَة"، وفيه نظر؛ لقوله - تبارك وتعالى -: "زَيَّن" والإنْسَان إنما يُزَيَّن له فِعْل نَفْسِه؛ كقوله - تعالى -:
{ { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [فاطر:8] وقال غير أبي عُبَيْد: "وقرأ أهْل الشام كقِرَاءة ابن عامر، إلا أنهم خفَضُوا "الأولاد" أيضاً، وتخريجها سَهْل؛ وهو أن تَجْعَل "شُرَكَائِهم" بدلاً من "أولادِهِم" بمعنى أنهم يُشْرِكُونهم في النَّسبِ، والمالِ، وغير ذلك".
قال الزَّجَّاج: "وقد رُوِيت "شُركَائِهم" بالياء في بَعْض المصاحفِ، ولكن لا يَجُوز إلاَّ على أن يكُون "شُركَاؤُهم" من نَعْت الأولاد؛ لأن أولادهم شُرَكَاؤهُم في أمْوالهم".
وقال الفراء بعد أنْ ذكر قِرَاءة العامَّة وهي "زَيَّن" مبنياً للفاعل، "شركَاؤُهُم" مرفوعاً على أنَّه فاعِل - وقراءة "زُيِّن" مبنياً للمفعُول، "شركَاؤُهُم" رَفْعاً على ما تقدَّم من أنه بإضْمار فعل، وفي مُصْحَف أهْل الشَّام "شُركَايهم" بالياء، فإن تكُن مُثْبتة عن الأوَّلين، فينبغي أن تقرأ "زُيِّن" ويكون الشُّركَاء هم الأوْلاَد؛ لأنهم مِنْهُم في النَّسْب والمِيراث. وإن كانوا يَقْرَءُون: "زَيِّن" - يعني بفتح الزاي - فَلَسْت أعرف جِهَتَهَا إلا أن يكُونُوا فيها آخِذِين بلُغَة قَوْم يَقُولون: أتْيتُها عَشَايَانَا، ويقولون في تثنية حَمْراء: حَمْرَايَان فهذا وَجْه أن يكُونُوا أرَادُوا: زَيَّن لكثير من المشْرِكِين قتل أوْلادهم شُركَايُهم، يعني بياء مَضْمُومة؛ لأن "شركَاؤُهُم" فاعل كما مَرَّ في قرَاءة العَامَّة.
قال: "وإن شِئْتَ جَعَلْتَ "زَيَّن" فعلاً إذا فَتَحْتَهُ لا يُلبس، ثم تَخْفِض الشركاء بإتباع الأولاد".
قال أبو شامة: "يعني تَقْدير الكلام: "زَيَّن مُزَيّنٌ" فقد أتَّجَه "شركَائِهِم" بالجرِّ أن يكون نعتاً للأوْلاَد، سواءٌ قُرىء زَيّن بالفتح أو الضم".
وقرأت فِرْقة من أهْل الشَّامِ - ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً - "زِينَ" بكسر الزاي بعدها ياء سَاكِنة؛ على أنه فِعْل ماضٍ مبْنِيّ للمْجُهول على حَدِّ قِيلَ وبيعَ.
وقيل: مَرْفُوع على ما لم يُسَمَّ فَاعِله، و "أولادهُم" بالنصب، و "شُرَكَائِهِم" بالخَفْضِ، والتَّوْجِيه واضح مما تقدَّم، فهي [و] القراءة الأولى سواء،غاية ما في البابِ: أنَّه أُخذ مِنْ زَانَ الثُّلاثِي، وبين للمَفْعُول، فاعِلَّ بما قد عَرَفْتَهُ في أول البَقَرة.
واللام من قوله "لِكثير من المشْركينَ" متعلِّقة بـ "زَيَّن"، وكذلك اللاَّمُ في قوله: "ليُرْدُوهُم".
فإن قيل: كيف تُعَلَّق حرفَيْ جر بلفْظٍ واحِد وبمعنى واحد بعامل واحد، من غَيْر بَدَلِيَّة ولا عَطْف؟.
فالجواب: أن مَعْنَاها مختلِفٌ؛ فإن الأولى للتَّعْدِيَة والثَّانية للعِلِّيَّة.
قال الزمخشري: "إن كان التَّزيين من الشَّياطين، فهي على حقيقةِ التَّعْليل، وإن كان من السَّدنَةِ، فهي للصَّيْرُورة" يعني: أن الشَّيْطَان يَفْعَل التَّزْيين وغرضُه بذلك الإرْدَاءُ، فالتعْلِيل فيه واضِحٌ، وأمَا السَّدَنةُ فإنهم لم يُزَيِّنوا لهم ذَلِك، وغرضهم إهْلاكُهم، ولكن لما كان مآل حَالِهِم إلى الإرْدَاءِ، أتى باللاَّم الدَّالَّة على العَاقِبة والمآل.
فصل في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية
كان أهْل الجَاهِليَّة يدْفِنُون بَنَاتَهم أحْياء خَوْفاً من الفَقْر والتَّزْويج، واخْتلفُوا في المراد بالشُّركَاءِ.
فقال مجاهد: شُرَكَاؤُهم شَيَاطينُهم أمَرُوهم بأن يَقْتُلوا أولادَهم خَشْيَة الغِيلَة، وسمِّيت الشَّياطين شُرَكَاء؛ لأنهم اتخذوها شُرَكَاء لقوله - تبارك وتعالى -:
{ { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام:22].
وقال الكَلْبِيّ: الشركاء سَدَنة آلِهَتِهم وخُدَّامهم، وهُمُ الَّذِين كَانُوا يُزَيِّنُون للكُفَّار قَتْل أولادهم، وكان الرَّجُل يَقُوم في الجَاهلِيَّة فيحلف باللَّه إن ولد له كَذَا غُلاماً لَيَنْحَرَنَّ أحدهم، كما حلف عَبْد المُطَلِّب على ابْنه عبد الله، وسُمِّيت السَّدَنَة شُرَكَاء كما سُمِّيت الشَّياطِين شُرَكَاء في قَوْل مُجَاهِد، وقوله "لِيُرْدُوهُم" الإرْدَاء في لُغة القُرْآن الإهلاك
{ { إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [الصافات:56].
قال ابن عبَّاس: "لِيُرْدُوهم في النَّار" واللاَّم هَهُنَا لام العَاقِبة؛ كقوله:
{ { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص:8].
{ ولِيلبِسُوا عَلَيْهِم دِينَهُم } أي: يَخْلِطُوا عليهم دِينَهُم.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - ليُدْخِلُوا عليهم الشَّك في دينهم، وكانوا على دِين إسْمَاعيل فَرَجَعُوا عنه بلبس الشَّياطين.
قوله: "وليَلْبِسُوا" عطف على "ليُرْدُوا" علل التَّزْيين بشَيْئَيْن:
بالإرداء وبالتخليط وإدْخَال الشُّبْهَة عليهم في دينهم.
والجمهور على "وليَلْبِسُوا" بكسر الباء مِنْ لَبَسْتُ عليه الأمْر ألبِسُه، بفتح العَيْن في المَاضِي وكَسْرِها في المُضَارع؛ إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشُّبْهَة وخَلَطْتَهُ فيه.
وقد تقدَّم بَيَانُه في قوله:
{ { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام:9]. وقرأ النخعي: "وليلبسوا" بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذْكُور، تقول: "لَبِسْتُ عليه الأمْر بفتح الباء وكسرها ألْبَسه وألبَسَهُ" والصَّحِيح أن لَبِس بالكَسْر بمعنى لَبِس الثياب، وبالفَتْح بمعْنى الخَلْط، فالصَّحيح أنه اسْتَعار اللِّبَاس لشِدَّة المخالطة الحَاصِلَة بَيْنَهم وبين التَخْليط؛ حتى كأنَّهم لَبْسُوها كالثياب، وصارت مُحِيطة بهم.
قوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } والضَّمير المرفُوع للكَثِير والمنصُوب للقَتْل للتصريح به، ولأنَّه المسُوق للحديث عنه.
وقيل: المَرْفُوع للشُّركاء والمنْصُوب للتَّزِيين.
وقيل: المَنْصُوب لِلَّبْسِ المَفْهُوم من الفِعْل قَبْله وهو بَعِيد.
وقال الزَّمَخْشَري: "لما فَعَل المُشْرِكُون ما زُيِّن لَهُم من القَتْلِ، أو لما فَعَل الشَّياطين أو السَّدَنَة التَّزْيين أو الإرْدَاء أو اللِّبْس، أو جَمِيع ذلِك إن جَعلْتَ الضمير جَارياً مَجْرَى اسم الإشارة".
قوله: "فَذَرْهُم وما يَفْتَرُون" تقدَّم نظيره.
فصل في المراد من الآية
المعنى: ولو شاء اللَّه لعَصَمُهم حتى ما فَعَلُوا ذلِك من تَحْرِيم الحَرْث والأنْعَام، وقتل الأولاد فذرهم يا مُحَمَّد وما يَفْتَرُون يختلِقُون في الكَذِب، فإن اللَّه لهم بالمِرْصَادِ.
قال أهل السُّنَّة: وهذا يَدُلُّ على أن كُلَّ ما فَعلَهُ المشرِكُون - فهو بِمَشِيئَة الله - تبارك وتعالى -.
وقالت المعتزلة: إنه مَحْمُول على مَشِيئَة الإلْجَاء كما سَبَق.