التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
٣
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

أعلم أنَّا إذا قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمَةِ إقَامَةُ الدليل على وجود الصَّانِع القادر المُخْتَارِ، فالمُرادُ من هذه الآيَةِ إقامَةُ الدليل على كونه عَالِماً بجميع المَعْلُومَاتِ؛ لأنها تَدُلُّ على كمالِ العلم.
وإن قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمةِ إقامَةُ الدليل على صِحِّة المَعَادِ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان؛ لأنَّ مُنكِري المعاد إنَّما يُنْكِرُونَهُ لأمرين:
أحدهما: أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ المؤثّر في حدوث بَدَن الإنسان هو امْتِزَاجُ الطَّبائِعِ، وإنْ سلَّموا كون المؤثّر فيه قَادِراً مختاراً، فإنَّهم يَقُولُونَ: إنِّهُ [غير] عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تَمْييزُ المُطيعِ من العَاصِيِ، ولا تمييز أجزاء بَدَنِ زيد عن أجْزاءِ بَدَن عمرو.
قوله: { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } في هذه الآية أقْوالٌ كثيرة، وقد لُخِصَّتْ في اثْنَيْ عشر وَجْهاً؛ وذلك أن "هو" فيه قولان:
أحدهما: هو ضمير اسم الله - تعالى - يعودُ على ما عَادَتْ عليه الضَّمائِرُ قبله.
الثاني: أنَّهُ ضميرُ القِصَّةِ، قال أبو عليٍّ.
قال أبو حيَّان: وإنَّما فرَّ إلى هذا؛ لأنه لو أعاده على اللَّهِ لَصَارَ التقديرُ: اللَّهُ اللَّهُ، فتركَّب الكلام من اسمين مُتَّحِدَيْنِ لفظاً ومعنى لا نِسْبَةَ بينهما إسنادية.
قال شهابُ الدين: الضَّميرُ إنما هو عَائِدٌ على ما تقدَّمَ من المَوْصُوفِ بتلك الصِّفات الجليلة، وهي خَلْقُ السَّموات والأرض، وجعل الظُّلُماتِ والنُّور، وخَلْق النَّاس من طين إلى آخرها، فصَارَ في الإخبار بذلك فَائِدَةٌ من غير شَكِّ، فعلى قولِ الجُمْهُورِ يكون "هو" مبتدأ، و"اللَّهُ" خبره، و "في السَّمَوَات" متعلقٌ بنفس الجلالة لمَّا تَضمَّنَتْهُ من معنى العِبَادةِ، كأنَّهُ قيل: وهو المَعْبُود في السَّموات، وهذا قول الزَّجَّاج، وابن عطيَّة، والزمخشري.
قال الزَّمخشري: "في السَّمَوَات" متعلِّقٌ بمعنى اسم اللَّهِ، كأنَّهُ قيل: هو المَعْبُود فيها، ومنه:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰه } [لزخرف:84] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة فيها، أو هو الذي يُقَالُ له "اللَّه" [لا يشركه في هذا الاسم غيره.
وقال شهابُ الدين: إنما قال: أو هو المَعْرُوفُ، أو هو الذي يُقال له: اللَّهُ؛] لأنَّ الاسم الشَّريف تقدَّم فيه خلافٌ، هل هو مُشْتَقٌ أوْ لاَ؟ فإن كان مُشْتقاً ظَهَرَ تعلُّق الجَارِّ بِهِ، وإنْ كان لَيْسَ بمشتقٍّ، فإمَّا أن يكون مَنْقُولاً أو مُرْتَجَلاً، وعلى كلا التقديرين فلا يعمل؛ لأنَّ الأعلامَ لا تعمل، فاحْتَاجَ أن يتأوّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة.
فقوله: "المَعْبُود" راجعٌ للاشتقاقِ، وقوله: "المَعْرُوف" راجع لكونه عَلماً مَنْقُولاً، وقوله: "الَّذي يُقَال له: اللَّهُ" راجع إلى كونه مُرْتجلاً، وكأنه -رحمه الله - اسْتَشْعَرَ بالاعتراض المذكور.
والاعْتِراضُ مَنْقُولٌ عن الفَارسيِّ.
قال: "وإذا جَعَلْتَ الظَّرْفَ متعلّقاً باسم اللَّهِ جَازَ عندي على قياس مَنْ يقول: إنَّ الله أصْلُه "الإله" ومن ذَهَبَ بهذا الاسم مذهب الأعلامِ وجب ألاَّ يتعلَّق به "عنده" إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه ضَرْباً من معنى الفِعْلِ"، فكأنه الزمخشري - والله أعلم - أخَذَ هذا من قول الفَارِسِيّ وبسطه، إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلَّقُ "في" باسم اللَّهِ؛ لأنَّه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى:
{ { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا } } [مريم:65] فظاهرُ هذا النقل أنه بمنعُ التعلُّق به وإنْ كاني في الأصْلِ مُشْتَقاً.
وقال الزَّجَّاج: "وهو مُتَعَلِّقٌ بما تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللهِ من المَعاني، كقولك: أميرُ المؤمنين الخَلِيفَة في المَشْرِق والمغْرِبِ".
قال ابن عطيّة: "هذا عندي أفْضَلُ الأقوالِ، وأكثرها إحْرَازاً لفَصَاحَةِ اللَّفْظِ، وجَزَالَةِ المعنى.
وإيضاحُهُ أنَّهُ أراد أنْ يَدُلَّ على خَلْقِهِ وآثَارِ قُدْرتِهِ وإحاطتِهِ واستيلائه، ونحو هذه الصفات، فجمع هذه كُلَّها في قوله: "وَهُوَ اللَّهُ"؛ أي: الذي له هذه كُلُّها في السَّموات، وفي الأرضِ كأنه قال: وهو الخالق، والرازق، والمحيي، والمحيط في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد السُّلطانُ في "الشام" و"العراق" فلو قصدت ذات زَيْدٍ لكان مُحَالاً، فإذا كان مَقْصِدُ قولك [:زيد] الآمر النّ‍اهي الذي يُوَلِّي ويَعْزلُ كان فَصِيحاً صَحِيحاً، فأقمت السَّلطَنَةَ مَقَامَ هذه الصِّفَاتِ، كذلك في الآية الكريمة أقَمْتَ "الله" مقام تلك الصِّفات".
قال أبو حيَّان: ما ذكره الزَّجَّاجُ، وأوضحه ابن عطيَّةَ صحيحٌ من حيث المعنى، لكنَّ صَنَاعَةَ النحو لا تُسَاعِدُ عليه؛ لأنهما زَعَمَا أن "في السموات" متعلِّقٌ باسم الله؛ لما تَضَمَّنَهُ من تلك المعاني، ولو صَرَّحَ بتلك المعاني لم تَعْمَلْ فيه جَمِيعُهَا، بل العَمَلُ من حيث اللفظُ لواحد منها، وإن كان "في السموات" متعلّقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يتعلَّق بلفظ "اللّه" لما تَضَمَّنَهُ من معنى الألُوهِيَّة، وإن كان عَلَماً؛ لأن العَلَمَ يَعْمَلُ في الظَّرْفِ لما يتضمّنه من المعنى كقوله: [الرجز]

2107- أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَانْ

لأنَّ "بَعْضَ" نُصِبَ بالعَلَمِ؛ لأنَّه في معنى أنا المشهور.
قال شهاب الدين: [قوله]: "لو صُرِّحَ بها لم تَعْمَلْ" ممنوع، بل تعمل ويكون عَمَلُهَا على سبيل التَّنَازُع، مع أنه لو سَكَتَ عن الجواب لكان واضحاً. ولما ذكر أبو حيَّان ما قاله الزَّمخْشَريُّ قال: "فانظر كيف قدّرَ العامِلَ فيها واحِداً لا جميعها".
يعني: أنَّهُ اسْتنْصَرَ به فيما ردَّ على الزَّجَّاج، وابن عطية.
الوجه الثاني: أن "في السَّمَوَات" متعّلق بمحذوفٍ هو صِفَةٌ لله تعالى حُذِفت لفهم المَعْنَى، فقدَّرها بعضهم: وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو اللَّهُ المُدَبِّرُ، وحذفُ الصِّفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلاَّ مواضع يسيره على نَظَرٍ فيها، فمنها
{ { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } [الأنعام: 66] أي: المعاندون، { { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود:46] أي: النَّاجين، فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه.
الوجه الثالث: قال النَّحَّاس - وهو أحْسَنُ ما قيل فيه -: إنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: "وَهُوَ اللِّهُ" والمَجْرُور متعلِّقٌ بمفعول "يَعْلَمُ"، وهو "سِرَّكم وجَهْرَكُم" أي: يَعْلَمُ سِرَّكُم، وجَهْرَكُم فيهما. وهذا ضعيفٌ جداً لما فيه من تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المصدرِ عليه، وقد عرف ما فيه.
الوجه الرابع: أنَّ الكلامَ تَمَّ أيضاً عند الجلالةِ، ويتعلِّق الظرفُ بنفس "يَعْلَمُ" وهذا ظاهِرٌ، و"يَعْلَمُ" على هذين الوَجْهَيْنِ مُسْتَأنَفٌ.
الوجه الخامس: أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قوله: "في السَّموات" فيتعلَّق "في السموات" باسم الله على ما تقدَّمَ، ويتعلَّقُ "في الأرض" بـ "يعلم" وهو قول الطَّبِري.
وقال أبو البقاء: "وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ اللَّهَ - تعالى - مَعْبودٌ في السَّمَوات وفي الأرض، ويَعْلمُ ما في السَّموات، وما في الأرض، فلا تتخصَّصُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ بأحَدِ الظرفين". وهو رَدٌ جميلٌ.
الوجه السادس: أنَّ "في السَّموات" متعلِّقٌ محذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من "سِرَّكم"، ثُمَّ قُدِّمَتِ الحالُ على صَاحبهَا، وعلى عاملها.
السابع: أنه متعلّق بـ "يَكْسِبُونَ"، وهذا فَاسِدٌ من جهة أنه يَلْزَمُ منه تقديم مَعْمُولِ الصِّلةِ على الموصول؛ لأن "ما" مَوْصُولةٌ اسمية، أو حرفيةٌ، وأيضاً فالمُخَاطبُونَ كيف يكسبون في السموات؟ ولو ذهب هذا القائلُ إلى أنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: "في السموات" وعلّق "في الأرض" بـ "يَكْسِبونَ" لسَهُل الأمْرُ من حيث المعنى لا من حَيْثُ الصناعةُ.
الوجه الثامن: أنَّ "الله" خَبَرٌ أوَّلُ، و "في السموات" خبر ثانٍ.
قال الزمخشري: "على معنى: أنَّه الله، وأنَّهُ في السموات وفي الأرض، وعلى معنى: أنَّهُ عالمٌ بما فيهما لا يَخْفَى عليه شيءٌ، كأنَّ ذَاتَهُ فيهما".
قال أبو حيَّان: "وهذا ضعيفٌ؛ لأن المجرور بـ "في" لا يّدُلُّ على كونٍ مُقَيَّدٍ، إنما يَدُلُّ على كونٍ مُطْلَقٍ، وتقدَّم جوابه مراراً".
الوجه التاسع: أنْ يكون "هو" مبتدأ، و "اللَّهُ" بَدَلٌ منه، و "يَعْلَمُ" خبره و"في السموات" على ما تقدَّم.
الوجه العاشر: أنْ يكون "اللًّهُ" بَدَلاً أيضاً، و "في السَّموات" الخبرُ بالمعنى الذي قاله الزمخشري.
الحادي عشر: أنَّ "هو" ضمير الشَّأنِ في مَحَلِّ رفع بالابتداء، والجلالةً مبتدأ ثانٍ، وخبرها "في السموات" بالمعنى المتقدَّمِ، أو "يَعْلَمُ"، والجملة خبر الأول مفسرة له وهو الثاني عشر.
وأمَّا "يَعْلَمُ" فقد عرفت من تَفَاصِيلِ ما تقدَّمَ أنَّه يَجُوزُ أن يكون مُسْتَأنَفاً، فلا مَحَلَّ له، أو في مَحَلِّ رفع خبراً، أو في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، و "سِرَّكم وجَهْرَكم":
يجوز أن يَكُونَا على بابهما من المَصْدَرِيّة، ويكونان مضافين إلى الفاعل.
وأجاز أبو البَقَاء أن يكونا وَاقِعَيْنِ موقع المفعول به، أي: مُسَرَّكم ومجهوركم، واسْتَدَلَّ بقوله تعالى:
{ { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة:77] ولا دَلَيلَ فيه، لأنه يجوز "ما" مصدرية وهو الألْيَقُ لمُنَاسَبَةِ المصدرين قبلها، وأن تكون بمعنى "الذي".
فصل في معنى الآية
"وهو الله في السموات والأرض" كقوله:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ } [الزخرف:84].
وقيل: هو المعبود في السَّمواتِ والأرض.
وقال محمد بن جرير: معنيان: وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم وجهركم في السموات والأرض، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر.
فصل في شبه إنكار الفوقية
استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية.
قالوا: ولا [يلزمنا] أن يقال: فيلزم أن يكون في الأرض لقوله: "وفي الأرض" وذلك يقتضي حُصُولَهُ في مكانين مَعاً، وهو مُحَالٌ؛ لأنَّا نقول: أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل بأحد الظَّاهرين ترك العملِ بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ، فوجبَ أن يبقى قوله: { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَات } على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله: { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَات }، ثم يبتدئ فيقول: { وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ }، والمعنى أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ، فيكون قوله: "وَفِي الأرْضِ" صِلَةٌ لقوله: "سِرَّكُمْ".
قال ابن الخطيب: والجوابُ: أنَّا نُقِيمُ الِّدلالةَ أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ، وذلك من وجوه.
أحدها: أنَّهُ قال في هذه السورة:
{ { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } [الأنعام: 12] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات والأرض، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملك نفسه، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله: في "طه" { { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [طه:6]. فإن قالوا: كلمة ["ما"] مختصَّةٌ [بمن لا يعقل] فلا يدخل فيها ذاتُ اللَّهِ.
قلنا: لا نُسَلِّمُ بدليل قوله:
{ { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } } [الشمس: 5-7].
وقوله:
{ { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد } [الكافرون:3] والمراد بكلمة "ما" ها هنا "هو اللَّهُ تعالى".
وثانيها: أنَّ قوله: { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ } إمَّا أنْ يكون المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في سماء واحدة.
والثاني ترك للظَّاهِر، والأوَّلُ على قسمين، لأنَّهُ إما أن يكون الحاصل منه - تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائر السَّمواتِ أو غيره، والأوَّل يقتضي حُصُول المتحيّز الواحد [في مَكَانَيْنِ، وهو باطلٌ ببديهَةِ العَقْلِ].
والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبْعَاضِ، وهو مُحَالٌ.
وثالثها: أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً، وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ.
ورابعها: أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ، فهل يَقْدرُ على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر؟ وذلك من وجهين:
والثاني يوجبُ تعجيزه وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى - لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم، والقوم منكرون كونه تحت العالم.
وخامسها: أنه تعالى قال:
{ { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } } [الحديد: 4] وقال { { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق:16].
وقال:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْض إِلَـٰهٌ } [الزخرف:84] وقال: { { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة:115] وكُلُّ ذلك يُبْطِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره، وجَبَ التَّأويلُ، وهو من وجوه:
الأول: أنَّ قوله: { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْض }، أي: في تدبير السمواتِ والأرض، كما يقال: "فلانٌ في أمْرِ كذا" أي: في تدبيره، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ، كقوله:
{ { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْض إِلَـٰهٌ } [الزخرف:84]
الثاني: أنَّ قوله: [تَمّ] عند قوله: "وهُوَ اللَّهُ" ثُمَّ ابتدأ، فقال: { فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ }، أي: يَعْلمُ ما في السَّمواتِ سَرَائِرَ الملائكة، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن.
الثالث: أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير، وهو "اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم".
فصل في بيان معنى "ما تكسبون"
قوله: "ويَعْلمُ ما تكسبون" فيه سؤال، وهو أنَّ الأفعال إمَّا أفعال القُلُوبِ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ، وإمَّا أعمال الجَوَارحِ، وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر.
فكان قوله: { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } يقتضي عَطْفَ الشيء على نفسه، وإنَّهُ فاسدٌ.
والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله: "مَا تَكْسِبُونَ" على ما يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ.
والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُولٌ على ا لمُكْتَسَبِ كما يُقَالُ: "هذا كَسْبُ فلان"، أي: مُكْتَسَبُهُ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل، والكَسْبُ هو الفعلُ المُفْضِي إلى اجْتِلاَبِ نَفْع، أو دَفْع ضَرَرٍ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ، ودَفْعِ الضرر.