التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
٣٦
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّه ب‍َيَّنَ السَّبَبَ في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان، ولا يتركون الكفر فقال: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ }، يعني: أن الذين تحرص على أن يُصَدِّقُوكَ بمنزلة المَوْتَى الذين لا يسمعون، وإنّما يستجيب من يَسْمَعُ كقوله: { { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [النمل:80].
وقال عَلِيُّ بن عيسى: الفَرْقُ بين "يستجيب" و "يجيب" أن "يستجيب" فيه قَبُولٌ لما دُعِيَ إليه، وليس كذلك "يجيب"؛ لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل: أتُوَافِقُ في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب: أخالف.
قوله:{ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } فيه ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيقَتْ للإخبار بقُدْرتِهِ، وأنَّ من قدرَ على بَعْثِ الموتى يقدر على إحياء قلوب الكَفَرةِ بالإيمان، فلا تَتَأسَّفْ على من كفر.
والثاني: أن المَوْتى مَنْصُوبٌ بفعلٍ مُضْمَر يُفَسِّرُهُ الظَّاهر بعده، ورجح هذا الوجه على الرَّفع بالابتداء لطعف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، فهو نظير:
{ { وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الإنسان:31] بعد قوله: { { يُدْخِلُ } [الإنسان:31].
والثالث: أنَّهُ مرفوع على الموصول قبله، والمراد بـ "الموتى" الكفَّار أي: إنما يستجيب المؤمنون السَّامِعُون من أوَّل وَهْلَةٍ، والكافرون الذين يجيبهم الله - تعالى - بالإيمان ويوفقهم له، فالكافرون يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وحينئذٍ يسمعون، وأمّا قبل ذلك فلا يسمعون ألْبَتَّةَ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله: { يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، إلاّ أنْ هذا القول يبعده قوله تعالى: { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }، إلا أن يكون من ترشيح المجاز، وقد تقدَّم له نظائرُ.
وقرئ "يَرْجِعُونَ" من "رجع" اللاَّزم.
اعلم أن الجَسَدَ الخالي [عن] الرُّوح يظهر منه النَّتنُ والصَّديدُ، وأصْلحُ أحْوَالِهِ أن يُدْفَنَ تحت التُّرَاب، والرُّوحُ الخاليَةُ عن العَقْلِ يكون صاحبها مَجْنُوناً يستوجب القَيْدَ والحَبْسَ، والعَقْلُ بالنسبة إلى الرُّوح كالرُّوحِ بالنسبة إلى الجَسَدِ، والعَقْلُ بدُونِ معرفة الله وطَاعَتِهِ كالضَّائِعِ الباطل، فَنِسْبَةُ التوحيد والمَعْرِفَةِ إلى العَقْلِ كنسبة العَقْلِ إلى الرُّوح، ونسبة الروح إلى الجَسَدِ؛ فمعرفة الله وَمَحَبَّتُهُ هي رُوحُ الرُّوح، فالنَّفْسُ الخالِيَةُ عن هذه المعرفة تكون كَصِفةِ الأموات، فلهذا السَّبَب وُصِفَ الكُفَّارُ بأنهم مَوْتَى.