التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ
٤٢
فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ
٤٣
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

في الكلام: حَذْفٌ تقديره: "أرْسلْنَا رُسُلاً إلى أممٍ فكذبوا فأخذناهم" وهذا الحذفُ ظاهر جداً.
و "من قَبْلِكَ" متعلِّقٌ بـ "أرْسلنا"، وفي جعله صِفَةً لـ "أمم" كلام تقدِّم مِرَاراً، وتقدَّم تفسيرُ
{ { ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ } [البقرة: 177] ولم يُلْفَظُ لهما بِمُذَكِرٍ على "أفْعَل".
قوله: { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا }.
"إذ" منصوب بـ "تضرَّعوا" فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز في المفعول به، تقول: "لولا زيداً ضَرَبْتَ"، وتقدَّم أن حرفَ التَّحْضِيض مع الماضي يكون معناه التَّوْبِيخَ، والتَّضَرُّع: "تَفَعُّل" من الضَّراعَة؛ وهي الذِّلَّة والهَيْبَة المسببة عن الانْقِيَادِ إلى الطاعة، يقال: "ضَرَعَ يَضْرَعُ ضراعة فهو ضارعٌ وضَرِعٌ".
قال الشاعر: [الطويل]

2174- ليُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ

وللسهولة والتَّذَلُّلِ المفهومة من هذه المادة اشْتَقُّوا منها لِلثَّدْي اسماً فقالو له: "ضَرْعاً".
قوله: { وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُم } "لكنْ" هنا وَاقِعَةٌ بين ضدَّيْنِ، وهما اللِّينُ والقَسْوَةُ؛ وذلك أن قوله: "تضرَّعوا" مُشْعِرٌ باللِّينِ والسُّهُولةِ، وكذلك إذا جعلْتَ الضَّراعَةَ عبارة عن الإيمان، والقَسْوَةَ عبارة عن الكُفْرِ، وعبَّرت عن السبب بالمُسَبَّبِ، وعن المُسَبَّبِ بالسبب، ألا ترى أنك تقول: "آمنَ قلبه فتضرَّعُ، وقسا قلبه فكفر" وهذا أحسن من قول أبي البقاء: "ولكن" استدراك على المعنى، أي ما تَضَرَّعُوا ولكن يعني أن التَّحْضِيضَ في معنى النَّفْي، وقد يَتَرَجَّحُ هذا بما قالهُ الزمخشري فإنه قال: مَعْنَاهُ نَفْيُ التضرُّع كأنه قيل: لم يَتَضرَّعوا إذ جاءهم بأسُنَا، ولكنه جاء بـ "لولا" ليفيد أنه لم يكن لهم عُذْرٌ في تَرْك التَّضَرُّعِ، إلاَّ قَسْوَة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لهم.
قوله: "وزيَّنَ لَهُم" هذه الجملة تَحْتَمِلُ وجهين:
أحدهما: أن تكون اسْتِئْنَافِيَّةً أخبر تعالى عنهم بذلك.
والثاني: - وهو الظاهر -: أنها داخلة في حيَّز الاستدراك فهو نسقٌ على قوله: "قَسَتْ قُلُوبهم" وهذا رأي الزمخشري فإن قال: "لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التَّضرُّعِ إلاَّ قَسْوَةُ قلوبهم وإعجابُهُم بأعمالهم" كما تقدَّم و "ما" في قوله: "ما كانوا" يحتمل [أن تكون موصولة اسمية أي: الذي كانوا يعملونه] وأن تكون مصدرية، أي: زيَّنَ لهم عَمْلَهُم، كقوله:
{ { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [النمل:4] ويَبْعُدُ جَعْلُها نكرةً موصوفة.
فصل
دلت هذه الآية مع الآية التي قبلها على مذهب أهل السُّنةِ، لأنه بيَّن في الآية الأولى أن الكُفار يرجعون إلى الله - تعالى - عند نزول الشَّدائد ثم بيَّن في هذه الآية أنهم لا يَرْجعُونَ إلى الله - تعالى - عند كل ما كان من جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بل قد يبقون مُصِرِّينَ على الكُفْرِ غير راجعين إلى الله تعالى، وذلك يَدُلُّ على أنَّ من لم يَهْدِهِ الله لم يَهْتَدِ سواء شَاهَدَ الآيات أوْ لم يُشَاهد.
فإن قيل: ألَيْسَ قوله:
{ { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } [الأنعام: 41] يَدُلُّ على أنهم تَضَرَّعُوا، وها هنا يقول: "قَسَتْ قُلوبهم ولم يتضرَّعوا".
فالجوابُ: أولئك أقْوَامٌ وهؤلاء أقوامٌ آخَرُون، أو نقول: أولئك تَضَرَّعُوا لطلب إزالة البَلِيَّة ولم يَتَضرَّعُوا على سبيل الإخلاصِ لله تعالى، فلهذا الفَرْق حَسُنَ الإثْبَاتُ والنفي.
فصل
احتج الجُبَّائي بقوله: { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون } على أنه - تعالى - إنما أرْسَل الرسل إليهم، وإنما سَلَّطَ البَأسَاءَ والضَّرَّاء عليهم لإرادةِ أن يتضرعوا أو يؤمنوا، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد الإيمان والطاعة من الكُلِّ.
والجوابُ أن كلمة "لَعلَّ" للتَّرَجِّي والتَّمَنِّي, وهو في حق الله - تعالى - مُحَالٌ، وأنتم حملتموه على إرادة هذا المَطْلُوب، ونحن نحمله على أنه - تعالى - عاملهم مُعاملة لو صدرت عن غير الله لكان المَقْصُود منه هذا المعنى، فأمَّا تعليل حكم الله - تعالى - ومشيئته، فذلك مُحَالٌ على ما ثبت بالدَّليل، ثم نقول: إن دَلَّتْ هذه الآية على قولكم من هذا الوَجْهِ، فإنها تَدُلُّ على ضِدِّ قولكم من وجهٍ آخر، وذلك لأنها تَدُلُّ على أنهم إنما لم يَتضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قلوبهم، ولأجلِ أنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لهم أعْمَالَهُمْ, فنقول: تلك القَسْوَةُ إن [حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن] حصلت بفعل الله - تعالى - فالقول قولنا.
وأيضاً: هَبْ أن الكُفَّارَ إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح [بسبب تزيين الشيطان، إلاَّ أنا نقول: ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح]، فإن كان ذلك لأجل شَيْطان آخر تَسَلْسَلَ إلى غير نهاية، وإذا بطلت هذه التَّقَادِيرُ وانتهت إلى أنَّ كُلَّ أحد إنما يُقدِمُ تارةً على الخير وأخْرَى على الشَّرِّ؛ لأجل الدَّوَاعي التي تحصل في قَلْبِهِ ثم ثبت أن تلك الدَّوَاعي لا تحصل إلاَّ بإيجاد الله، فحينئذٍ يَصحُّ قولنا، ويفسدُ قولهم بالكلية، والله أعلم.