التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قوله: وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة.
اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ، فالله - تعالى - لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه أثْبَتَ دليل [التوحيد،] وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة، فقال: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } حين انكروا النُّبُوَّةَ والرسالة، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ. "حَقَّ قَدْرِهِ" منصوب على المَصْدَرِ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبُ عليه مَوْصُوفُهُ، والأصل قدره الحقّ كقولهم: "جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة".
وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ، وعيسى الثقفي: "قَدَّروا" بتشديد الدَّال "قدَره" بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ. قوله: "إذْ قَالُوا" مَنْصُوبٌ بـ "قدروا"، وجعله ابن عطية منصوباً بـ "قدره" [وفي كلام ابن عطية ما يشعر بأنها] للتعليل، و "من شيء" مفعول به زيدت فيه "من" لوجود شَرْطَي الزيادة.
فصل في معنى الآية
قال ابن عبَّاسٍ: ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه.
وروي عنه أيضاً أنه قال: معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير.
وقال أبو العَالِيَةِ: ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ.
وقال الأخْفَشُ: ما عرفوه حَقَّ معرفته، وحقَّق الواحديرحمه الله - تعالى - فقال: قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ، وأراج ان يعلم مقداره يقدره بالضمير قدراً، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
"إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ" أي: فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً: هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ: إنه لا يقدر قَدْرَهُ، فقوله: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه، وهو قولهم: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }.
واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وتقديره من وُجُوهٍ:
الأول: أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول: إنه - تبارك وتعالى - ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [تكليفاً أصلاً] أو يقول: إنه - تبارك وتعالى - كَلَّفَهُمْ، والأول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أنه - تبارك وتعالى - أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح، نحو [شَتْم] الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - والرسل، والإعراض عن شُكْرِ الله - تعالى - ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة، وكل ذلك باطل.
وإن سلم أنه - تعالى - كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [والنهي فهاهنا لا بُدَّ] من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ.
فإن قيل لم لا يجوز أن يُقَالَ: العقل كافٍ في إيجاب الموجبات، واجتناب المقبحات؟
فالجواب: هَبْ أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيدُ التعريف العَقْلِيّ بالتعريفات المشروعة على ألْسِنَةِ الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام- فثبتَ أن كل من مَنَعَ من البعثة والرسالة، فقد طَعَنَ في حكمة الله - تعالى - وكان ذلك جَهْلاً بصفة الإلهية، وحينئذ يَصْدُقُ في حقه قوله تبارك وتعالى: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }.
والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى: أن من الناس من يقول: إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصَّلاة والسلام؛ لأن يمتنع [إظهار] المعجزة على وَفْقِ دَعْوَاهُ تصديقاً له، والقائلون بهذا القول لهم مَقَامات.
أحدها: أن يقولوا: إنه ليس في الإمْكَانِ خَرْقُ العادات، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جَرَتْ به العَادَةُ.
والثاني: يسلمون إمكان ذلك، إلاَّ أنهم يَقُولُونَ: إن بتقدير حُصُولِ هذه الأفعالِ الخَارِقَةِ للعَادَاتِ، فلا دلالة لها على صِدْقه من الرسالة، وكلا القولين يوجب القَدْحَ في كمالِ قُدْرةِ الله - تعالى -.
أما الأوَّل وهو أنه ثبت أن الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمل مثله، وإذا كان كذلك كان جِسْمُ القَمَرِ والشمس قَابِلاً لِلتَّمَزُّقِ والتَّفَرُّقِ، فإن قلنا: إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وَصْفاً له بالعَجْزِ، ونُقْصانِ القُدْرةِ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر اللَّهَ حقَّ قدره.
وإن قلنا: إنه - تعالى - قادر عليه، وحينئذ لا يمتنع عَقْلاً انْشِقَاقُ القمر، ولا حصول سائر المعجزات.
وأما المقام الثاني: وهو أن [حدوث] هذه الأفعال الخَارقة عند دَعْوَى مُدَّعِي النبوة يَدُلُّ على صِدقِهِ، فهذا أيضاً ظاهرٌ على ما قدر في كتب الأصولِ، فثبت أن كُلَّ من أنكر مَكَانَ البعثة والرسالة، فقد وصف الله تَبَارَكَ وتعالى بالعَجْزِ ونُقْصَانِ القدرة، فكل من قال ذلك، فهو ما قَدَرَ اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ.
والوجه الثالث: أنه لما ثبت حُدُوثُ العالم، فنقول: حدوثه يَدُلُّ على أن إله العالم قَادِرٌ عليم حكيم، وأن الخَلْقَ كلهم عَبِيدُهُ، وهو مالكهم وملكهم على الإطلاق والملكُ المُطاع يجب أن يكون له أمر ونهي، وتكليف على عِبادِهِ، وأن يكون له وَعْدٌ على الطاعة، ووعيدٌ على المعصية، وذلك لا يتم ولا يكمل إلاَّ بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فكل من أنكر ذلك فَقط طَعَنَ في كونه تعالى مَلِكاً مُطَاعاً، ومن اعتقد ذلك, فهو ما قدر الله حَقَّ قدره.
فصل في بيان سبب النزول
في هذه الآية الكريمة [بَحْثٌ] صَعْبٌ، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } إما أن يقال: إنهم كُفَّار قريش, أو يقال: إنهم أهْلُ الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول فكيف يمكن إبْطالُ قولهم بقوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ } وذلك أن كُفَّار قريش والبراهمة يُنْكِرُونَ رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - فكذلك يُنْكِرُون رسالةَ الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - فكيف يَحْسُنُ إيراد هذا الإلْزَامِ عليهم.
وإن كان قائل هذا القول من أهْلِ الكتاب فهو أيضاً مشكل؛ لأنهم لا يقولون هذا القَوْلَ، وكيف يقولونه مَعَ أن مَذْهَبَهُمْ أن التوارة كِتَابٌ أنزله الله على مُوسَى، والإنجيل كتابُ أنزله الله على عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأيضاً فهذه السُّورة مَكِيَّةٌ، والمُنَاظَرَةُ التي وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والنَّصَارى كلها مَدَنيةٌ، فكيف يمكن حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليها، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية.
واعلم أن النَّاسَ اختلفوا فيه على قولين، والقول أن هذه الآية نزلت في حقِّ اليهود، وهو المشهور عند الجمهور.
وقال ابن عباسِ وسعيد بن جُبَيْرٍ:
" "إن مالك بن االصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رَجُلاً سميناً فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنْشدُكَ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوارة على مُوسَى هَلْ تجد في التَّوْارةِ أن اللَّهَ يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ, وأنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ وقدْ سَمِنْتَ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ اليَهُودُ فضحك القوم فغضب [مالك] بن الصيف ثم التفت إلى عمر، فقال: مَا أنْزَل اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ فقال له قومه: ويلك؟ ما هذا الذي بلغنا عنك، [ألَيْسَ] أن الله أنزل التوراة على مُوسَى، فَلِمَ قلت: ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: إنه أغْضَبَنِي، فقلت ذلك فقالوا له: وأنت إن غضبت تَقُولُ على الله غَيْرَ الحق، فنزعوه عن رياستهم؛ وجعلوا مكانه كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ" .
وقال السُّدِّيُّ: نزلت في فنحَاصِ بْنِ عازوراء وهو قائل هذه المَقالةِ.
قال ابن عباس: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: "نَعَمْ". قالوا: والله ما أنزل من السماء كتاباً، فأنزل الله تبارك وتعالى { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }؛ إذ قالوا: "مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ" وفي سبب النزول سؤالات:
السؤال الأول: لَفْظُ الآية وإن كان مُطْلَقاً إلاَّ أنه يَتَقَيَّدُ بحسب العُرْفِ ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [من الدار] فغضب الزَّوْجُ، فقال: إن خرجت من الدار فأنْتِ طالق، فإن كثيراً من الفقهاء قالوا: اللفظ وإن كان مُطْلَقاً إلا أنه بِحَسبِ العُرْفِ يتَقَيَّدُ بتلك المرأة، فكذا هاهنا فقوله: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } وإن كان مُطْلٌقاً بحسب أصْلِ اللغة إلاَّ أنه يتقيد بتلك الواقِعَةِ بحسب العُرْفِ، فكان لقوله تعالى: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } في أنه يبغض الحَبْرَ السمين، وإذا كان هذا المُطْلَق مَحْمُولاً لعى هذا المُقَيَّدِ لم يكن قوله: { مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى } مبطلاً لكلامه.
السؤال الثاني: أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يَهُوديًّا مُتَظَاهراً بذلك، ومع هذا المَذْهَبِ لا يمكنه أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغَضَبِ المُدْهِشِ للعقل، أو على سبيل طغيان اللسان، ومثل هذا الكلام لا يَلِيقُ بالله - تبارك وتعالى - إنزال القرآن الباقي على وجه [الدهر] في إبطاله.
والقول الثاني: أن القائل: ما أنزل الله على بشر من شيء من كُف‍َّار قريش، وفيه سؤال: هو أن كُفَّارَ قريش كانوا ينكرون نُبُوَّةَ جميع الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام، فكيف يمكن إلزامهم بِنُبُوَّةِ موسى، وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكُفَّار قريش، وإنما يليق باليهود، وهو قوله: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُم } وهذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قَوْلُ من يقول: إن أول الآية خِطَابٌ للكفار، وآخرها خطاب مع اليهود، وهذا فاسد، لأنه يوحب تَفْكِيكَ نَظْمِ الآية، وفساد تركيبها، وذلك لا يليق بكلامنا، فَضْلاً عن كلام ربِّ العالمين، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول.
أما السؤال الأول: فيمكن دَفْعُهُ بأن كُفَّار قريش كانوا مُخْتَلطينَ باليهود والنصارى، وكانوا قد سمعوا من الفَريقَيْنِ على سبيل التَّواتُر ظهور المعجزات القاهرة على يَدِ مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - مثل: "انْقِلابِ العَصَى ثُعْبَاناً" و "فَلْقِ البَحْرِ" و "إظْلالِ الجَبَلِ" وغيرها، والكفار كانوا يَطْعُنون في نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - بِسَببِ أنهم كانوا يَطْلُبُونَ من أمْثالَ هذه المعجزات [وكانوا] يقولون: لو جئتنا بأمثال هذه المُعجزات لآمَنَّا بك، فكان مجموع هذه الكلمات جَارِياً مجرى ما يوجب عليهم الاعْتِرَاض، والاعتراف بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الأمر كذلك [لم يبعد إيراد] نبوة موسى إلزاماً عليهم في قولهم: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ }.
وأما الثاني: فجوابه أن كفار قريش، وأهل الكتاب لما اشتركوا في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يَبْعُدْ أن يكون الكلامُ بعضه خِطَاباً مع كفار "مكة" وبقيّته خطاباً مع اليهود والنصارى.
فصل فيما يستفاد من الآية
دَلَّت هذه الآية الكريمة على أحكام:
منها: أن النَّكِرَةَ في موضع النَّفْي تفيد العموم، فإن قوله: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } نَكِرَةٌ في موضع النفي، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تبارك وتعالى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ } إبْطالاً له وَنَقْضاً عليه، وكان اسْتِدْلالاً فاسداً.
ومنها: أن النَّقْضَ يقدح في صِحَّةِ الكلام؛ لأنه - تبارك وتعالى - نَقَضَ قولهم: { مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } بقوله تعالى: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ } فلو لم يَدُلُّ النَّقْضُ على فساد الكلام لما كانت هذه الحُجَّةُ مُفِيدَةً لهذا المطلوب.
واعلم أن من يقول: إن الفَارِقَ بين الصُّورَتَيْنِ يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لَسَقَطَتْ حُجَّةُ الله في هذه الآية الكريمة، لأن اليهود كانوا يقولون: معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أظْهَرُ وأبهرِ من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هاهنا، ولو كان هذا الفرق [مقبولاً لسقطت هذه الحجة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها، علمنا أن النقض] على الإطلاق مبطل.
قوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاس }
وصف الكتاب بصفتين:
أحدهما: قوله: "نوراً" وهو مَنْصُوبٌ على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه "الهاء" في "به"، فالعامل فيها "جاء".
والثاني: أنه "الكتاب"، فالعامل فيه "أنزل"، و"للناس" صِفَةٌ لـ "هدى" وسمَّاه "نوراً" تشبيهاً له بالنُّورِ الذي يبين به الطريق.
فإن قيل: فعلى هذا لا يَبْقَى بَيْنَ كونه نوراً، وبين كونه هُدًى للناس فَرْقٌ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التَّغَايُرَ.
فالجواب: أن للنور صفتان:
أحدها: كونه في نَفْسِه ظَاهراً جَلِيًّا.
والثانية: كونه بحيث يكون سَبَاً لظهور غيره، فالمراد من كونه "نوراً وهدى" هذان الأمران وقد وُصِفَ القرآن أيضاً بهذين الوصفْينِ، فقال:
{ { وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى:52].
قوله: "تَجْعَلُونَهُ" قرأ ابن كثير وابن عمرو بياء الغَيْبَةِ، وكذلك "يُبْدُونَهَا ويُخفُون كَثِيراً" والباقون بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال، فأما الغَيْبَةُ فلِلحَمْلِ على ما تقدم من الغَيْبةِ في قوله تعالى: { وَمَا قَدَرُواْ } إلى آخره.
وعلى هذا فيكون في قوله: "وعُلِّمْتُمْ" تأويلان:
أحدهما: أنه خطاب لهم أيضاً وإنما جاء به على طريق الالْتِفَاتِ.
والثاني: أنه خطابٌ إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله: { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَاب } وبين قوله: "قل الله".
وأما القراءة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله: { وعلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ } ورَجَّحَهَا مكي وجماعة كذلك قال مكي: "وذلك حَسَنٌ في المُشَاكَلَةِ والمُطابَقَةِ، واتِّصالِ بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأن أكثر القراء عليه".
قال أبو حيَّان: "ومن قال: إن المنكرين العرب، أو كفار قريش لم يكن جَعْلُ الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السُّؤال والجواب: تجعلونه قراطيس [يبدونها]، ومثل هذا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ؛ لأن فيه تَفْكِيكاً للنَّظْمِ، حيث جعل أول الكلام خِطَاباً لكفار قريش، وآخره خطاباً لليهود".
قال: "وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نُبُوَّةِ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بَعْضُ الكلام خِطَاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل".
قوله: "تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ": يجوز أن تكون "جعل" بمعنى "صَيَّرَ" وأن تكون بمعنى "ألقى" أي: يضعونه في كَاغدٍ.
وهذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، إما من "الكتاب" وإما من "الهاء" في "به" كما تقدم في "نوراً".
قوله: "قَرَاطِيس" فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على حَذْفِ حرف الجر, أي: في قراطيس وورق, فهو شبيه بالظَّرْفِ النهم, فلذلك تعدَّى إليه الفِعْلُ بنفسه.
والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: يجعلونه ذَا قَرَاطِيسَ.
والثالث: أنهم نَزَّلوه مَنْزِلَةَ القراطيس، وقد تقدم تفسير القراطيس. والجملة من قوله: "تبدونها" في محل نصب صِفَةً لـ "قراطيس" وأما "تخفون" فقال أبو البقاء: إنها صفة أيضاً لها، وقدر ضميراً محذوفاً، أي: تخفون منها كثيراً.
وأما مكي فقال: "وتخفون" مبتدأ لا مَوْضِعَ له من الإعراب. انتهى.
كأنه لما رأى خُلُوَّ الجملة من ضمير يَعُودُ على "قراطيس" منع كونه صِفَةً، وقد تقدم أنه مُقَدَّرٌ، وهو أولى، وقد جوَّز الواحدي في "تبدون" أن يكون حالاً من ضمير "الكتاب" من قوله: "تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس" على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى؛ لأنه مُكْتَتَبٌ فيها. انتهى.
قوله: "عَلَى أنْ تَجْعَلَ" اعْتِذَارٌ عن مجيء خبره مُؤنُّثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع.
قوله: "وعُلِّمْتُمْ" يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في "يَجْعَلُونه"، وما عطف مُسْتَانفٌ، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مُخَاطباً لأجل الالْتفاتِ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومن اشترط "قد" في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا، أي: وقد علمتم ما لم تعلموا.
والأكثرون على أن الخطابَ هذا لليهود؛ يقول: علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم [فضيعوه ولم ينتفعوا به.
وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم].
فإن قيل: إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب، فما السبب في أن الله - تبارك وتعالى - حكى هذا المعنى في معرض الذَّمِّ لهم؟
فالجواب: أن الذَّمِّ لم يقع على هذا المعنى فقط، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس، وفَرَّقُوهُ وبعَّضُوهُ، لا جَرَمَ قدروا على إبداء البَعْضِ وإخْفَاءٍ البعض، وهو الذي فيه صِفَةُ محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: كيف يقدرون على ذلك، مع أن التوراة كتابٌ وصل إلى أهل المَشْرِقِ والمغرب، وعرفه أكثر أهل العلم وحَفِظُوهُ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه، كما أن الرَّجُلَ في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزِّيَادَةِ والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك، فكذا القول في التَّوْرَاةِ؟
فالجواب أنا ذكرنا في سورة "البقرة" أن المراد من التَّحْرِيف تفسير آيات التوراة بالوُجُوهِ الفاسدة الباطلة، كما يفعله المبطلون في زَمَانِنَا هذا بآيات القرآن.
فإن قيل: هَبْ أنه حصل في التوارة آياتٌ دالَّةٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنها قَلِيلةٌ ولم يخفوا من التوارة إلاَّ تلك الآيات، فكيف قال: "ويخفون كَثِيراً".
فالجواب أن القوم [كانوا] يخفون الآيات الدَّالَّة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا] إخفاء الآية الدالة على رجم [الزاني] المُحْصَنِ.
قوله: "قل الله" لفظ الجلالة يجوز فيها وَجْهَان:
أحدهما: أن يكون فاعلاً لفعل محذوف أي: قل أنزله, وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله:
{ { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ } [الزخرف:9]
والثاني أنه مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: والله أنزله، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية، فلتكن جملة الجواب كذلك.
ومعنى الآية الكريمة: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلاَّ فقل فأنت الله الذي أنزلت، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِيمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صاحبه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل معجزات موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون إلا من الله - تعالى - فلما صَارَ هذا المعنى ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِ, لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله، ونظيره قوله تعالى:
{ { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ } [الأنعام:19] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول: منِ الذي أْحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول: الله، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء اقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا.
قوله: { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } يجوز أن يكون "فِي خَوْضِهِمْ" متعلقاً بـ "ذرهم"، وأن يتعلق بـ "يلعبون"، وأن يكون حالاً من مفعول "ذَرْهُمْ" وأن يكون حالاً من فاعل "يلعبون" [فهذه أربعة أوجه] وأما "يلعبون" فيجوز أن يكون حالاً من مفعول "ذرهم".
ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِزء حينئذ أن يكون "في خوضهم" حالاً من مفعول "ذرهم"، بل يجعله إما متعلقاً بـ "ذرهم"، كما تقدَّم أو بـ "يلعبون"، أو حالاً من فاعله.
ويجوز أن يكون "يلعبون" حالاً من ضمير "خوضهم" وجاز ذلك أنه في قُوَّةِ الفاعل؛ لأن المصدر مُضاف لفاعله؛ لأن التقدير: "ذرهم يخوضون لاَعِبينَ" وأن يكون حالاً من الضمير في "خوضهم" إذا جعلناه حالاً؛ لأنه يتضَمَّنُ معنى الاسْتِقْرارِ، فتكون حالاً متدخلة.
فصل في معنى الآية
معنى الكلام إذا أقمت الحُجَّة عليهم، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المَبْلَغَ العظيم لم يَبْقَ عليك من أمرهم شيء ألْبَتَّةَ، ونظيره قوله تعالى:
{ { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [الشورى:48].
قال بعضهم: هذه الآية مَنْسُوخَةٌ بآية السَّيْفِ، وهذا بعيدٌ؛ لأن قوله: { ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } مذكور لأجل التهديد، ولا ينافي ذلك حصول المُقاتَلَة، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدَّالَّةِ على وجوب المُقاتَلَةِ رافعاً لمدلول هذه الآية، فلم يحصل النَّسْخُ.