التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ
٩٥
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

لما قرر التَّوحْيد وأرْدَفَهُ بتَقْرير أمر النُّبُوَّةِ، وتكلَّم في بعض تفَاريع هذا الأصْل، عاد إلى ذِكْرِ الدَّلائل الدَّالَّةِ على وجُود الصَّانِع، وكمال قدرته، وحِكْمَتِه، وعلمه، تَنْبِيهاً على أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ من جميع المَبَاحِثِ العَقْلِيَّة، والنقلية: مَعْرِفَةُ الله بذاته، وصِفَاتِهِ، وأفعاله.
قوله: "فَالِقُ الحَبِّ": يجوز أن تكون الإضافة مَحْضَةً، على أنَّها اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأنَّ ذلك قد كان، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله: "فَلَقَ" فعلاً ماضياً، ويجُوز أن تكون الإضافةَ غير مَحْضَةٍ، على أنه بِمَعنْى الحال والاستقبال، وذلك على حِكَاية الحال؛ فيكون "الحَبِّ" مجرُورَ اللَّفْظِ منصوب المحلِّ، و "الفَلْقُ": هو شَقُّ للشيء، وقيده الرَّاغب بإبَانَةِ بَعْضِه من بَعْض، والفَلَق المُطْمِئنُّ من الأرض بَيْن الرَّبْوَتين و "الفَلَق" من قوله - تعالى -:
{ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } [الفلق:1]: ما علَّمه الله لمُوسَى - عليه السَّلام - حتى فَلَق البَحْر له.
وقيل: الصُّبْح، وقيل: هي الأنْهَار المُشَار إليها بقوله - تعالى -:
{ { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } [النمل:61].
والفِلْقُ بالكَسْرِ بمعنى: المَفْلُوق كالنكث والنِّقْض، ومنه: "سَمِعْتُه من فِلْقٍ منه".
وقيل: الفِلْقُ العَجَبُ [وقيل: ما يُتَعَجَّبُ منه.
قال الرَّاجِز في ذلك: [الرجز]

2254- وَاعَجَباً لهذه الفَليقَهْ هَلْ تُذْهِبَنَّ القُوَباءَ الرِّيقَهْ]

والفالِقُ والفَليق: ما بين الجَبَلَيْنِ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير.
وفسَّر بعضهم "فالق" هنا، بمعنى: "خَالِق".
قيل: ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً، وهذا لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس، والضَّحَّاك أيضاً، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة: أن "فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ" بمعنى وَاحِد.
[و "النَّوَى"]: اسم جِنْس، مُفْرَد "نواة"، على حدّ "قَمْح وقَمْحَة"، والنَّوَى: البُعْد أيْضاً.
ويُقال: نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا، ولام "النَّواة" بانقلاب عَيْنِها واواً والأكثر التَّغَاير.
فصل في معنى الآية
قال ابن عبَّاس, والضَّحَّاك، ومُقاتِل: { فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى }: خَالِقُ الحَبِّ.
قال الواحدي: ذّهّبُوا بـ "فالق" مَذهب "فاطر"، وقد تقدَّم عن الفرَّاءِ نَقْلُه ذلك لُغَةً.
وقال الحسن، وقتادة، والسُّدِّيُّ: معناه: الشَّق، أي: يشق الحَبَّة من السُّنْبُلَةِ، والنَّواة عن النَّخْلَةِ، فيخرجُهَا مِنها.
وقال الزَّجَّاج: يَشُقُّ الحبة اليَابِسَة، والنُّواة اليَابِسَة، فيُخْرِجُ منها وَرَقاً أخْضَرَ.
وقال مُجَاهد: يعني الش‍َّقَّيْنِ اللذين فيهما، أي: يَشُقُّ الحبَّ عن النَّباتِ، ويخرجُه مِنْهُ ويشقُّ النَّوَى عن النَّخْلِ، ويُخْرِجُهَا منها، و "الحب" جمع "حبَّة"، وهو اسمٌ لجميع البُذُورِ والحُبُوب من البُرِّ، والشَّعير، والذُّرَة، وكل ما لَمْ يُؤكَل حَبَّا، كالتَّمْرِ والمشمشِ، والخوخ، ونَحْوها.
وقال ابن الخطيب: إن الشيء قبل دُخُوله في الوُجُودِ، كان مَعْدُوماً مَحْضاً، ونَفْياً صِرْفاً، فإذا أخْرَجَهُ المُوجِدُ من العدم إلى الوُجُود, فكأنَّه بحسب التَّخَيُّلِ والتَّوَهُّم، شَقَّ ذّلِكَ العَدَمِ، وفَلَقَهُ، وأخْرَج ذلك المُحْدَثَ من ذَلِكَ الشَّقِّ، فبهذا التَّأويل لا يَبْعد حَمْلُ الفَالِق على المُوجِدِ، والمُحْدِث المُبْدِع.
فإذا عَرَفْت ذلك فَنَقُولُ: إذا وقَعت الحَبَّةُ، أو النَّوَاةُ في الأرْضِ الرَّطِبَةِ، ثم مَرًّ عليه مُدَّةٌ، أظْهَر اللَّه في تِلْكَ الحبَّة والنًّواة [من أعْلاَها ومن أسْفلِها شقاً آخر] أما الشَّقُّ الذي يَظْهَر في أعْلَى الحبَّة والنَّواة؛ فإنه يَخْرُج منه الشَّجْرة الصَّاعِدَة إلى الهَوَاء.
وأما الشقُّ الذي أسْفَلَ تلك الحبَّة والنَّواة؛ فيكون سَبَاً لاتِّصالِ الشَّجرة الصَّاعدة في الهواء بالشَّجرة الهابِطَة في الأرض. ثم هاهُنَا عجائب:
أحدها: أن طبيعَة تلك الشَّجرةِ إن كَانَتْ تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدَتْ منه الشَّجَرة الصَّاعِدة في الهواء، وإن كانت تَقْتَضِي الصُّعُودَ في الهَوَاء؛ فكيف تولدت مِنْهَا الشَّجرة الهابِطَة في الأرْضِ، فلما تولَّدت منها هاتان الشَّجرتان، مع أن الحسَّ والعَقْلَ يَشْهَد بكون طَبيعَة إحْدَى الشَّجَرتَيْن مُضَادُّ لِطَبيعَةِ الشَّجَرَةِ الأخرى؛ علمنا أنَّ ذلك لَيْس بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ والخَاصيَّة، بل بِمُقْتَضَى الإبْداع، والإيجاد، والتَّكْوين، والاخْتِرَاع.
وثانيها: أن باطِنَ الأرْضِ صلْبٌ كَثيفٌ لا تَنْفُذُ المَسَلَّة القويَّة فيه، ولا يَغُوصُ السِّكِّين الحادَّةُ القوي فيه، مع أنّا نشاهد أطْرافَ تِلْكَ العُرُوقِ في غايَة الرِّقَّةِ واللَّطافَةِ، بحيث لو دلكها الإنْسَان بأصْبُعِهِ بأدنى قُوَّةٍ، لصَار كالمَاء، ثم إنها مع غَايَة لَطَافتها تَقْوَى على النُّفُوذ في تِلْك الأرْضِ الصَّلْبَة، والغَوصِ في باطِن تِلْكَ الأجْرَام الكَثِيفَة، فحُصُول هذه القُوَّة الشَّديدة لِهذا الأجْرَامِ التي في غَايَةِ اللَّطَافةِ، لا بُدَّ وأن يكون بِتَقْديرِ العَزيزِ الحَكِيم.
وثالثها: أنه يَتَوَلَّدُ من تِلْك النَّوَاة شَجَرَةٌ، ويَحْصُل في تلك الشَّجَرَة طَبَائِعُ مُخْتَلِفَة؛ فإن قشْرِ الخشبة له طَبيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وفي داخل تلك القشرة جِرْمُ الخَشَبة، وفي دَاخلِ تلك [الخشبة] جسمٌ رَخْوٌ لطيف يُشْبِهُ العِهْنَ المَنْفُوش، ثم إنه يَتَولَّدُ من سَاقِ الشَّجَرة أغُصَانها، ويتولَّدُ من الأغْصَان الأوْرَاقُ، والأزهار، والأنْوَار، ثانياً، ثم الفَاكِهَةُ ثَالِثاً، ثم قد يَحْصُل للفاكَهِةَ أرْبَعة أنْواع من القُشُورِ كالجَوْزِ واللَّوز، فإن قِشْرَه الأعلى هو الجِرْمُ الأخْضر، وتحته جِرْمُ القِشْر الذي يُشْبِه الخَشَبَ، وتحت القِشْر الَّذي كالغِشَاءِ الرَّقِيق المحيط باللُّبِّ، وذلك اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ على جِرْم كَثِيف هو أيْضاً كالقِشْرَةِ، وعلى جِرْم لَطِيفٍ هو كالُّدهْنِ، وهو المَقْصُود الأصْلِيُّ؛ فَتَوَلَّدُ هذه الأجْسَام المُخْتَلِفَة في طَبَائِعها، وصِفَاتِهَا، وألْوَانها، وأشْكَالِها، وطُعُومِها، مع تساوي تأثيرات الطَّبائع، والفُصُول الأربعة، والطَّبائع الأربَع، يَدُلُّ على أنَّها إنما حَدَثَتْ بِتَدْبِير العَلِيم، الحكيم، المُخْتَار، القَادِر، لا بتدبير الطَّبائع والعَنَاصِر.
ورابعها: أنَّك قد تجد الطَّبائع الأرْبَعة حَاصِلَةً في الفَاكِهَة الواحِدة، فالأتْرُجُّ: قِشْرُه حَارُّ يَابِسٌ، ولَحْمُه بارِدٌ رَطْبٌ، وحَمَاضُهُ بارد يَابِسٌ، وبذره حَارُّ يَابِسٌ، وكذلك العِنبُ: قِشْرُهُ وعَجمه بارد يَابِس، وماؤُه ولَحْمهُ حَارٌّ رَطْبِ؛ فَتَولُّدُ هذه الطَّبائِعِ المُتَضَادَّةِ، والخَوَاصِّ المُتَنَافِرة عن الحبَّة الواحدة، لا يَكُوْن إلا بإيجاد الفَاعِل المُخْتَار.
وخامسها: أنَّك تجد أحْوَال الفَوَاكهِ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضها يَكُون اللُّبُّ في الدَّاخلِ، والقشر في الخَارج كما في الجَوْزِ واللَّوزِ، وبَعْضُها تكون الفَاكِهَة في الخَارِجِ، وتكون الخَشَبَة في الدَّاخِل، كالخَوْخ والمِشْمِش، وبَعْضُها تكون النَّوَاةُ لها لُبُّ كالَمِشْمِش، والخَوْخ، وبَعْضُها لا لُبَّ له كَنَوى التَّمْرِ، وبَعْضُ الفَوَاكه لا يكُون لَهُ من الدَّاخلِ والخَارج قشر، بل يكون مطلوباً [كالتين] فهذه أحوال مُخْتَلِفَةٌ في الفواكه.
وأيضاً الحُبُوب المُخْتَلِفَة في الأشْكَالِ والصُّورِ, فَشَكْل الحِنْطَةِ كأنَّها نِصْفُ دَائِرِةٍ، وشكل الحمّص على وَجْه آخر، فهذه الأشْكَال المُخْتَلِفَة، لا بُدَّ وأن تكون لأسْرار وحكم علم الخَالِق أنَّ تركِيبَها لا يكمل إلاَّ على هذا الشَّكْلِ.
وأيضاً: فقد تكون الثَّمَرَةُ الواحدة غذاءً لحيوان، وسُمَّاً لحيوان آخر؛ فاخْتلافُ هذه الصِّفاتِ والأحوال، مع اتِّحاد الطَّبائعِ، وتأثير الكواكب، يَدُلُّ على أنَّها إنَّما حصلت بتخليق الفاعِل المُخْتَار، الحكيم.
وسادسها: أنَّك تَجِدُ في الوَرَقَةِ الوَاحِدَة من أوْرَاقِ الشَّجَرَة خطاً واحداً مُسْتَقيماً في وَسطها، كأنَّه بالنّسْبَة لتِلْك الوَرَقَةِ، كالنُّخَاعِ بالنِّسْبَة إلى بَدَن الإنْسان، فكأنه يَتَفرَّقُ من النُّخَاع أعْصابٌ كَثِيرَة يَمْنَةً ويَسْرَةً في بَدَن الإنْسان، ثمَّ لا يزال يَنْفَصِلُ عن شُعَبِهِ شُعَبٌ أخرى, ولا تَزَال تَسْتدقُّ حتى تَخْرُج عن الحِسِّ والإبْصَارِ لدقّتها، فكذلك في تلك الورقة ينفصل عن ذلك الخَطِّ الكبير الوَسطانِيِّ خُيُوطٌ مختلفة، وعن كلِّ مِنْهُمَا خيوطٌ أخرى أدَقُّ من الأولى، ولا تَزَالَ كذلك حتَّى تخرج تِلْكَ الخُيُوطُ عن الحسِّ والبَصَرِ.
والخالق - تعالى - إنَّما فعل ذلك، حتَّى أن القُوَى الجاريَةَ المَذْكُورةَ في جِرْم تِلْك الوَرَقَة، تقوى على جَذْبِ الأجْزَاء اللَّطيفة الأرْضيَّة في تلك المَجَاري الضيّقة، فالوُقُوفُ على عِنَايَة حِكْمَةِ الخَالِق في اتِّحادِ تلك الوَرَقَةِ الواحِدَة، واخْتِلاف أشْكالِ الأوْرَاقِ؛ تُؤذِنُ أنَّ عِنَايَتَه في اتِّحادِ حِكْمَة الشَّجرة أكْمَل.
وإذا عرَفْتَ أنَّه - تبارك وتعالى - إنَّما خَلَق النَّبَات لِمَصْلَحَةِ الحيوان، عَلِمت أنَّ عنايته في تخليق الحيوانِ أكْمَلُ؛ ولمَّا عَلِمْتَ أن المَقْصُود من تَخْلِيق الحيوانات [هو الإنْسَانُ] عَلِمْت أن عِنَايتَه في تَخْلِيقِ الإنْسَان أكْمَلُ.
ثمَّ إنه - تبارك وتعالى - لما خَلَقَ الحَيوان والنَّباتَ ليكون غذاءً ودواءً للإنْسان بِحَسَب جسدِهِ، والمَقْصُود من تَخْلِيق الإنْسَان: هو المَعْرِفَةُ، والمحبَّة، والخدمة؛ لقوله - تبارك وتعالى -:
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56].
قوله: "يخرج" يَجُوز فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ، فلا محَلَّ لها.
والثاني: أنَّها في موضع رفع خَبَراً ثانياً، لأنَّ قوله: "مُخْرجُ" يجوزُ فيه وجهان:
أحدهما: انه مَعْطُوفٌ على "فَالِقِ"، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ غيره، أي: اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ؛ وعلى هذا فيكون "يُخْرِجُ" على وَجْهِه، وعلى كونه مُستَأنفاً فيَكُون مُعْتَرِضاً على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة.
والثاني: أنه يكون مَعْطُوفاً على "يُخْرِجُ"، وهل يَجْعَل الفعل في تأويل اسْم [ليصِحَّ عطف الاسْمِ عليه، أو يجعل الاسمُ بتأويل الفِعْلِ؛ ليصِحَّ عَطْفُه عَليْه؟ احتمالاًن مَبْنِيَّان على ما تقدَّمَ في "يُخْرِجُ".
إن قلنا: إنه مُسْتأنفٌ فهو فِعْلٌ غير مُؤوَّل باسم؛ فَيُرَد‍ُّ الاسم إلى مَعْنَى الفِعْل، فكأن "مُخْرِج" في قُوَّة "يُخْرج".
وإن قُلْنَا: إنه خبر ثان لـ "إنَّ" وهو بِتَأوِيل اسْم] واقع موقع خَبَر ثانٍ؛ فلذلك عُطِفَ عليه اسمٌ صريحٌ، ومن عَطْف الاسْمِ على الفِعْلِ لِكَوْن الفِعْلِ بتأويل اسم قَوْلُ الشَّاعِرِ في ذلك: [الطويل]

2255- فَألْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيرُ عَدُوَّهُ وَمُجْرٍ عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المَعَابِرَا

وقول القائل في ذلك: [الرجز]

2256- يَار رُبَّ بَيْضَاءَ مِنَ العَوَاهِجِ أمِّ صِبِيٍّ قَدْ حَبَا أوْ دَارِجِ

وقول القائل في ذلك: [الرجز]

2257- بَاتَ يُغَشِّيها بَعَضْبٍ بَاتِر يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وَجَائِر

أي: مُبيراً، أمِّ صِبيٍّ حابٍ، قاصِدٍ.
قوله: "الحَيّ" اسمٌ لما يكون موصوفاً بالحياة، و "المَيِّتُ" اسمٌ للخَالِي عن صفة الحياة، وعلى هذا فالنَّبَاتُ لا يكُون حياً، وفي تَفْسِير هذا الحيِّ والميت قولان:
الأول: حَمْلُ هذا اللَّفظِ على الحقيقة.
قال ابن عبَّاس: أخْرَجَ من النُّطْفَةِ بَشَراً أحْيَاءَ، ثم يُخْرِجُ من البَشَرِ الحيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً، ويُخْرِج من البَيْضَةِ فَرُّوجَةً حيَّةً، ثم يَخْرِج من الدِّجاجَةِ بَيْضَةً مَيَّتةً.
القول الثاني: يُحْمَل على المَجازِ "يخرج" النَّبَات الخَفِيّ من الحَبِّ اليَابِس، ويُخْرِج الحبَّ اليَابِس من النَّبَاتِ الحَي النَّامِي.
وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: يخرج المُؤمِنَ من الكَافِرِ، كما في حقِّ إبراهيمَ - عليه الصلاة والسلام - والكافر من المُؤمن، كما في حقِّ ولد نُوح - عليه الصلاة والسلام - والعاصي من المُطِيع وبالعكس.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: "الميّت" مُشدَّدَة الياء في الكَلِمَتَيْن، والباقُون بالتخفيف فيهما.
قوله: { ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } قيل: معناه: ذلكم اللَّه، المُبْدِئُ، الخَالِقَ, النَّافِعُ، الضَّار، المحيي، المُمِيت، "فانَّى تُؤفَكُونَ": تُصْرَفُونَ عن الحقِّ في إثْبَات القَوْل بِعِبَادَةِ الأصْنَامِ.
وقيل: المُرَاد: أنكم لمَّا شَاهَدْتُمْ أنَّه - تبارك وتعالى - يُخْرِج الحيَّ من الميَّت، ثم شَاهَدتم أنَّه أخْرَجَ البَدَنَ الحيَّ من النُّطْفِةِ المَيِّتَة، فَكيْفَ تَسْتَبْعِدُون أن يُخْرِجَ البَدَن الحيَّ من التُّرَاب الرَّمِيمِ مَرَّة أخرى، والمقْصُود: الإنْكَار على تَكْذِيبهم بالحَشْرِ والنَّشْرِ، وأيضاً الضَّدَّانِ متساويان في النِّسْبَةِ، فكما لا يمتنع الانقلابُ من أحد الضدين إلى الآخر، وجبَ ألاَّ يمتنع الانقلابُ من الثاني إلى الأوَّل، فكما لا يمتنع حُصُولُ المَوْتِ بعد الحياة، وجب أيضاً حُصُولُ الحياة بعد الموت، وعلى كِلاَ التَّقْديريْنِ، فيخرج منه جواز البَعْثِ والنَّشْرِ.
فصل في إثبات خلق الأفعال لله
تَمسُّكُوا بقوله: "فانَّى تُؤفَكُونَ" على أن فَعْلَ العَبْدِ ليس مخلوقاً لله - تعالى - لأنه لو خَلَق الإفْكَ فيه، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك: "فأنَّى تُؤفَكُون" والجواب: أن القُدْرَةَ بالنسبة إلى الضِّدَّيْنِ مُتساويَةٌ، فَتَرَجُّعُ أحد الطرفين على الآخر لا لمرجِّح، فحينئد لا يكون هذا الرُّجْحَانُ من الضِّدِّ، بل يكون مَحْضَ الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له: "فأنَّى تُؤفَكُون" وأن تَوَقُّفَ ذلك المرجح على حصول مرجَّح، وهو الداعية الجَازِمَةُ إلى الفعل، فحصول تلك الدَّاعية يكون من الله - تعالى - وعند حُصُولها يجب الفعل، ويلزمكم كما ألْزَمْتُمُونا.