التفاسير

< >
عرض

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
١
هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣
ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٤
-الجمعة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } تقدم الكلام فيه.
وقوله: { ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ }.
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة: "سبَّحَ للَّهِ" بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل، فقال في أول هذه السورة بلفظ [المستقبل] ليدل على التسبيح في الزمن الحاضر والمستقبل.
وأما تعلق الأول بالآخر، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا غالبين على الكُفَّار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة، وفي أول هذه السورة ذكر على ما يدل على كونه مقدساً، ومنزّهاً عما لا يليق بحضرته العليَّة ثم إذا كان خلق السماوات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعالى فله الملك، ولا ملك أعظم من هذا على الإطلاق، ولما كان الملك كله له تعالى فهو الملك على الإطلاق، ولما كان الكل خلقه فهو المالك على الإطلاق.
قوله: { ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ }.
قرأ العامة: بجر "الملكِ" وما بعده نعتاً لله، والبدل ضعيف لاشتقاقهما.
وقرأ أبو وائل وسلمة بن محارب ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ مقتضٍ للمدح.
وقال الزمخشري: "ولو قرىء بالنصب على حدّ قولهم: الحمد لله أهل الحمد، لكان وجهاً".
وقرأ زيد بن علي: "القَدُّوس" بفتح القاف، وقد تقدم ذلك. و "يُسَبِّحُ" من جملة ما يجري فيه اللفظان، كـ"شكره وشكر له ونصحه ونصح له وسبحه وسبح له".
فإن قيل: "الحَكِيمُ" يطلق أيضاً على الغير كما يقال في لقمان: إنه حكيم.
فالجواب: أن الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء مواضعها، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.
قوله: { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ }.
تقدم الكلام في "الأميّ والأميين" جمعه.
و "يَتْلُو" وما بعده صفة لـ"رسول" صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "الأميّون" العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب.
وقيل: الأميّون الذين لا يكتبون، وكذلك كانت قريش.
وروى منصور عن إبراهيم قال: "الأمّي" الذي لا يقرأ ولا يكتب.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - الأميون الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم، وقيل: الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه.
وقرىء: "الأمين" بحذف ياء النَّسب.
قوله: { رَسُولاً مِنْهُمْ }.
يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما من حيّ من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه.
وقال ابن إسحاق: إلا بني تغلب، فإن الله طهَّر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أميًّا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلّم صلى الله عليه وسلم.
قال الماورديُّ: فإن قيل: فما وجه الامتنان بأن بعث اللَّهُ نبيًّا أميًّا؟.
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: لموافقته ما تقدم من بشارة الأنبياء.
الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب لموافقتهم.
الثالث: لينفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها.
قال القرطبي: "وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته".
قوله: { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني القرآن "ويُزكِّيهم" أي: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان. قاله ابن عباس.
وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب. قاله ابن جريج ومقاتل.
وقال السديُّ: يأخذ زكاة أموالهم، "ويُعَلِّمُهُم الكِتابَ" يعني: القرآن، "والحكمة" يعني السُّنة. قاله الحسن.
وقال ابن عباس: "الكتاب" الخط بالقلم، لأن الخط إنما نشأ في العرب بالشَّرع لما أمروا بتقييده بالخط.
وقال مالك بن أنسٍ: "الحكمة" الفقه في الدين.
وقد تقدم في البقرة.
{ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } أي: من قبله وقبل أن يُرسل إليهم { لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي: في ذهاب عن الحق.
فصل في الرد على بعض الشبه
قال ابن الخطيب: احتج أهل الكتاب بهذه الآية، فقالوا: قوله تعالى: { بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصَّة، قال: وهذا ضعيف، فإنه [لا] يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى قوله تعالى:
{ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت: 48] أنه لا يفهم منه أنه لا يخطه بشماله، ولأنه لو كان رسولاً إلى العرب خاصة، كان قوله تعالى { كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [سبأ: 28] لا يناسب ذلك، وقد اتفقوا على صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله: { كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } دليلاً على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان رسولاً إلى الكل.
قوله: { وآخرين منهم } فيه وجهان:
أحدهما: أنه مجرور عطفاً على "الأميين"، أي: وبعث في آخرين من الأميين و{ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } صفة لـ"آخرينَ".
والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضَّمير المنصوب في "يُعلِّمُهُم".
أي: ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم وسيلحقون، فكلّ من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزَّمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة؛ لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
قوله: { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ }.
أي: لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم.
قال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم.
وفي "صحيح البخاري" ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
"كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: وفينا سلمان الفارسي قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: لَوْ كَانَ الإيمانُ عِندَ الثُّريَّا لناله رجالٌ مِنْ هؤلاءِ" ، وفي رواية: "لَوْ كَانَ الدِّينُ عندَ الثُّريَّا لذهب بِهِ رجُلٌ من فارسَ، أو قال: مِنْ أبْناءِ فِارِسَ حتَّى يتناولهُ" . لفظ مسلم.
وقال عكرمة: هم التابعون.
وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقاله ابن زيد ومقاتل بن حيان، قالا: هم من دخل الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
قال سهل بن سعد الساعدي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ في أصْلاب أمَّتِي رجالاً ونِساءً يدخُلونَ الجنَّة بغيرِ حسابٍ ثم تلا: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ }" والقول الأول أثبتُ.
"وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيتُني أسْقِي غَنَماً سُوداً ثُمَّ أتبعتُهَا غَنَماً عُفْراً أوِّلْها يَا أبا بَكْر، قال: يا نبِيَّ الله، أما السُّودُ فالعربُ، وأمَّا العُفْرُ فالعجمُ تتبعُك بعد العربِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كَذِلكَ أوَّلها الملك يا أبا بكر" يعني: جبريل عليه السلام، رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
قوله تعالى: { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ }.
قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش.
وقيل: يعني: الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله الكلبي.
وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.
وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة، لما روى أبو صالح عن أبي هريرة:
"أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور بالدَّرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: ومَا ذَاكَ، فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفَلاَ أعلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْركُونَ بِهِ من سَبَقكُمْ وتَسبقُونَ من بَعْدكُمْ ولا يكُونُ أحَدٌ أفضل مِنكُمْ إلاَّ من صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ قالوا بلى يا رسول الله، قال: تُسَبِّحُونَ وتُكبِّرُونَ وتحْمدُونَ دُبر كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثينَ مرَّةً، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ }"
وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته.