التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٨
-الجمعة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ }.
في هذه الفاء وجهان:
أحدهما: أنها داخلةٌ لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك.
قال الزجاج: ولا يقال: إنَّ زيداً فمنطلق، وهاهنا قال: "فإنَّهُ مُلاقِيكُمْ" لما في معنى "الذي" من الشرط والجزاء، أي: فررتم منه فإنه ملاقيكم، وتكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه.
الثاني: أنها مزيدة محضة لا للتضمين المذكور.
وأفسد هؤلاء القول الأول بوجهين:
أحدهما: أن ذلك إنما يجوز إذا كان المبتدأ أو اسم إن موصولاً، واسم "إن" هنا ليس بموصول، بل موصوفاً بالموصول.
والثاني: أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط يعني أنه متحقق فلم يشبه الشرط الذي هو من شأنه الاحتمال.
وأجيب عن الأول: بأن الموصوف مع صفته كالشيء الواحد؛ ولأن "الذي" لا يكون إلا صفة، فإذا لم يذكر الموصوف دخلت الفاء، والموصوف مراد، فكذلك إذا صرح بها.
وعن الثاني: بأن خلقاً كثيراً يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر.
وجوز مكي: أن يكون الخبر قوله: { ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وتكون الفاء جواب الجملة قال: كما تقول: "زيد منطلق فقم إليه".
وفيه نظر؛ لأنها لا ترتب بين قوله: { إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وبين قوله { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فليس نظيراً لما مثله.
قال القرطبي: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: { ٱلَّذِي تَفِرُّونَ } ثم يبدأ بقوله { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ }.
وقرأ زيد بن علي: "إنَّهُ" بغير فاء.
وفيها أوجه:
أحدها: أنه مستأنف، وحينئذ يكون الخبر نفس الموصول، كأنه قيل: فإن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه. قاله الزمخشري.
الثاني: أن الخبر الجملة من قوله: { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت.
الثالث: أن يكون "إنه" تأكيد، لأن الموت لما طال الكلام أكد الحرف تأكيد لفظياً، وقد عرف أنه لا يؤكد كذلك إلا بإعادة ما دخل عليه أو بإعادة ضميره، فأكد بإعادة ضمير ما دخلت عليه "إن".
وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت، و"ملاقيكم" خبره، كأنه قيل: إن الموت إنه ملاقيكم.
وقرأ ابن مسعود: "ملاقيكم" من غير "فإنه".
فإن قيل: الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا، فما معنى الشرط والجزاء؟.
فالجواب: أنَّ هذا على جهة الرَّد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وهذا وعيد بليغ وتهديد شديد.