التفاسير

< >
عرض

إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ
١
ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
٣
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
٤
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ
٥
سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ
٦
-المنافقون

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ }.
"إذا": شرط، قيل: جوابه "قالوا".
وقيل: محذوف، و"قالوا": حال أي إذا جاءوك قائلين كيت وكيت فلا تقبل منهم.
وقيل: الجواب { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }، وهو بعيد، و"قالُوا" أيضاً: حال.
فصل في تعلق هذه السورة بالتي قبلها
قال ابنُ الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملةٌ على ذكر بعثة الرسول، وذكر من كان يُكذِّبهُ قلباً ولساناً فضرب لهم المثل بقوله:
{ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [الجمعة: 5].
وهذه السورة مشتملةٌ على ذكر من كان يكذِّبُ قلباً دون اللسان، ويصدقه لساناً دون القلب.
وأما تعلق الأول بالآخر، فلأن في آخر تلك السُّورة تنبيه للمؤمنين على تعظيم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ورعايةِ حقِّه بعد النداء لصلاةِ الجمعةِ، وتقديم متابعته على غيره، فإنَّ ترك التعظيم والمتابعةِ من شيمِ المنافقين، والمنافقون هم الكاذبون.
فصل في نزول السورة.
روى البخاري عن زيد ابن أرقم، قال:
"كنت مع عمي فسمعتُ عبد الله بن أبيِّ ابْنَ سلول يقول: { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ }، وقال: { لَئِن رَجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ }، فذكرتُ ذلك لعمي، فذكر عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدَّقهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكذَّبني فأصابَنِي همٌّ لمْ يُصبني مثلُه، فجلست في بيتي، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ } إلى قوله: { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ }، وقوله: { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ }، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال إنَّ اللَّهَ قدْ صدقَكَ" .
وروى الترمذي عن زيد بن أرقم، قال: "غَزوْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناسٌ من الأعراب، فكُنَّا نبدر الماء، أي: نقسمه، وكان الأعرابُ يسبقُوننا إلى الماء، فيسبق الأعرابي أصحابه، فيملأ الحوض، ويجعلُ حوله حجارة، ويجعلُ النِّطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجلٌ من الأنصار أعرابيًّا فأرخى زِمامَ ناقته لتِشرب، فأبَى أن يدعهُ، فانتزع حجراً ففاض الماءُ، فرفع الأعرابيُّ خشبة، فضرب بها رأس الأنصاريِّ فشجَّهُ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره - وكان من أصحابه - فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: { { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } [المنافقون: 7] من حوله، يعني: الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: فإذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ }.
قال زيد: وأنا ردف عمي، فسمعت عبد الله بن أبي، فأخبرت عمي، فانطلق، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلف وجحد قال: فصدَّقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذَّبني، قال: فجاء عمّي إليَّ فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكذبك، والمنافقون.
قال: فوقع عليّ من جرأتهم ما لم يقع على أحدٍ.
قال: فبينما أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خفقتُ برأسي من الهمِّ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك في أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرّني أنَّ لي بها الخُلدَ في الدنيا، ثم إن أبا بكرٍ لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
قلت: ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني، وضحك في وجهي، فقال: أبْشِرْ ثم لحقني عمرُ، فقلتُ له مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين".
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
فصل في المنافق
سُئلَ حُذيفةُ بنُ اليمانِ عن المنافقِ، فقال: الذي يصفُ الإسلامَ ولا يعملُ به.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"آيةُ المُنافقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلف، وإذا ائتُمِنَ خَانَ" .
وروى عبدُ الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعٌ من كُنَّ فيه كانَ مُنافقاً خَالِصاً، ومَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلةٌ مِنهُنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ من النِّفاقِ حتَّى يدعها: إذا ائتُمِنَ خَانَ، وإذَا حدَّث كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ" .
وروي عن الحسن أنه ذُكِرَ له هذا الحديثُ، فقال: إن بني يعقوب حدَّثوا فكذبُوا، ووعدوا فأخلفوا وائتمنوا فخانوا. إنما هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقاً أن تفضي بهم إلى النفاق.
وليس المعنى: أن من بدرت منه هذه الخصالُ من غير اختيارٍ واعتيادٍ أنه منافقٌ وقال - عليه الصلاة والسلام -
"المُؤمِنُ إذَا حدَّثَ صَدَقَ، وإذَا وَعَدَ نجَّزَ، وإذا ائتُمِنَ وفَّى" .
والمعنى: أن المؤمن الكامل إذا حدَّث صدق.
قوله: "نَشْهَدُ".
يجري مجرى القسم كفعلِ العلم واليقين، ولذلك تلقي بما يتلقى به القسم في قوله: { إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ }.
وفي قوله: [الكامل]

4770 - ولَقَدْ عَلِمْتُ لتَأتِيَنَّ مَنِيَّتِي إنَّ المَنَايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا

وقد تقدم [الخلاف] في الصدق والكذب، واستدلالهم بهذه الآية، والجواب عنها في أول البقرة.
وقال القرطبي هنا: معنى "نَشْهَدُ" نحلفُ، فعبر عن الحلف بالشهادة؛ لأن كل واحدٍ من الحلف والشهادة إثباتٌ لأمر مُغَيَّب، ومنه قول قيس بن ذريح: [الطويل]

4771 - وأشْهَدُ عِنْدَ اللَّهِ أني أحِبُّهَا فَهَذَا لَهَا عِنْدِي، فَمَا عِنْدهَا لِيَا؟

ونظيره قول الملاعن: أشهدُ بالله.
قال الزمخشري: "والشهادة تجري مجرى الحلف في التوكيد. يقول الرجلُ: أشهدُ، وأشهدُ بالله، وأعزمُ، وأعزمُ بالله في موضع "أقْسِمُ وأُولي"، وبه استشهد أبو حنيفة على أن "أشهدُ" يمين".
ويحتمل أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم وهو الأشبه.
قوله: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ }.
جملة معترضة بين قوله: { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } وبين قوله: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ }[لفائدة.
قال الزمخشري: "ولو قال: "قالوا: نشهد إنك لرسول الله، واللَّهُ يشهدُ إنَّهُم لكاذبُون" لكان يُوهِمُ أن قولهم هذا كذبٌ، فوسط بينهما قوله: "واللَّهُ يعلمُ إنَّكَ لرسُولُه" ليُميطَ هذا الإبهام".
قال القرطبي: { والله يعلم إنك لرسوله } كما قالوه بألسنتهم]، { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } بضمائرهم، فالتكذيبُ راجع إلى الضمائر وهذا يدلُّ على أن الإيمان تصديقُ القلب، وعلى أنَّ الكلام الحقيقي كلامُ القلب، ومن قال شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذبٌ، وقيل: أكذبهم الله في أيمانهم، وهو قوله:
{ وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [التوبة: 56].
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لو قالوا: نعلم إنَّك لرسولُ الله مكان قولهم: نشهد إنَّكَ لرسُولُ اللَّهِ، تفيد ما أفاد قولهم: نشهد؟.
فالجواب: لا؛ لأن قولهم: { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } صريحٌ في الشَّهادة على إثبات الرسالة، وقولهم: نعلم ليس بصريح في ذلك.
قوله: { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }.
قد تقدم الكلام أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.
ويجوز أن يكون مستأنفاً جيء به لبيان كذبهم وحلفهم عليه، أي أنَّ الحامل لهُم على الأيمانِ اتقاؤهم بها عن أنفسهم.
والعامة: على فتح الهمزة، جمع يمين.
والحسن: بكسرها مصدراً.
وتقدم مثله في "المجادلة"، والجُنَّةُ: التُّرْس ونحوه، وكل ما يقيك سوءاً. ومن كلام الفصحاء: [جُبَّةُ البرد] جُنَّةُ البردِ.
قال أعشى همدان الشاعر: [الطويل]

4772 - إذَا أنْتَ لَمْ تَجْعَلْ لعرضِكَ جُنَّةً مِنَ المَالِ سَارَ الذَّمُّ كُلَّ مَسِيرِ

فصل
قال القرطبي وغيره: اتَّخذُوا أيمانهُم جُنَّةً، أي: سُترةً، وليس يرجع إلى قوله: { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } وإنَّما يرجعُ إلى سبب الآيةِ التي نزلت عليه حسب ما ذكره البخاري والترمذي عن أبيّ أنه حلف ما قال، وقد قال، وقال الضحاك: يعني: حلفهم بالله "إنهم لمنكم".
وقيل: يعني بأيمانهم ما أخبر الرب عنهم في سورة "براءة" في قوله:
{ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ } [التوبة: 74].
فصل في نص اليمين
قال القرطبي: "من قال: أقسمُ باللَّهِ، وأشهد بالله، أو أعزم بالله، أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله، أو شهدت، أو عزمت، أو حلفت، وقال في ذلك كله: "بالله" فلا خلاف أنها يمينٌ، وكذلك عند مالكٍ وأصحابه أن من قال: أقسمُ، أو أشهد، أو أعزم، أو أحلف، ولم يقل "بالله" إذا أراد "بالله"، وإن لم يرد "بالله" فليس بيمين".
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو قال: أشهد بالله لقد كان كذا كان يميناً، ولو قال: أشهد لقد كان كذا - دون النية - كان يميناً لهذه الآية؛ لأن الله تعالى ذكر منهم الشهادة ثم قال: { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً }.
وعند الشافعي: لا يكون ذلك يميناً وإن نوى اليمينَ؛ لأنَّ قوله تعالى: { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ليس يرجعُ إلى قوله: "قالوا: نَشهدُ"، وإنما يرجعُ إلى ما في براءة من قوله تعالى: { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ }.
قوله: { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }.
أي: أعرضوا، وهو من الصُّدود، أو صرفوا المؤمنين عن إقامة حدود الله عليهم من القَتْل، والسبي، وأخذ الأموال، فهو من الصَّدِّ، أو منعوا الناس عن الجهاد بأن يتخلفوا أو يقتدي بهم غيرهم.
وقيل: فصدوا اليهود والمشركين عن الدُّخول في الإسلام بأن يقولوا: ها نحن كافرون بهم، ولو كان ما جاء به محمد حقًّا لعرف هذا منا، ولجعلنا نكالاً، فبيَّن الله أنَّ حالهم لا يخفى عليه، ولكن حكمه أن من أشهر [الإيمان] أجري عليه في الظَّاهر حكم الإيمان.
قوله: { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
أي: سيئت أعمالهم الخبيثةُ في نفاقهم، وأيمانهم الكاذبةِ، وصدِّهم عن سبيل الله. و"ساء" يجوز أن تكون الجارية مجرى "بِئْسَ"، وأن تكون على بابها، والأول أظهر وقد تقدم حكم كل منهما.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل، ولم يقل: إنَّهم ساء ما كانوا يعملون؟.
قال ابن الخطيب: والجواب أن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جُنَّة أي: سُترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون.
قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا }.
هذا إعلامٌ من الله بأن المنافقين كفار، إذْ أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب.
وقيل: نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدوا { فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } أي ختم عليها بالكفر { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } الإيمان ولا الخير.
وقرأ العامَّةُ: "فَطُبِعَ" مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار بعده.
وزيد بن علي: "فَطَبَعَ" مبنياً للفاعل.
وفي الفاعل وجهان:
أحدهما: أنه ضمير عائد على الله تعالى، ويدل عليه قراءة الأعمشِ، وقراءته في رواية عنه: "فَطَبَعَ اللَّهُ" مُصرحاً بالجلالة الكريمة.
وكذلك نقله القرطبي عن زيد بن علي.
فإن قيل: إذا كان الطَّبْع بفعل الله - تعالى - كان ذلك حجة لهم على الله تعالى فيقولون: إعراضنا عن الحق لغفلتنا بسبب أنه - تعالى - طبع على قلوبنا؟.
فأجاب ابن الخطيب: بأن هذا الطبع من الله - تعالى - لسوء أفعالهم، وقصدهم الإعراض عن الحق فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وغوايتهم الباطلة.
والثاني: أن الفاعل ضميرٌ يعودُ على المصدر المفهوم مما قبله، أي: فطبع هو أي بلعبهم بالدين.
قوله: { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ }.
أي: هيئاتهم، ومناظرهم، { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } يعني: عبد الله بن أبي وقال ابن عباس: كان عبد الله بن أبي وسيماً جسيماً صحيحاً صبيحاً ذلق اللسان، فإذا قال، سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، وصفه الله بتمامِ الصُّورةِ وحسن الإبانةِ.
وقال الكلبي: المراد ابن أبي وجدُّ بن قيس ومعتِّب بن قشير، كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة.
وفي صحيح مسلم: وقوله: { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ }. كانوا رجالاً [أجمل] شيء كأنهم خشبٌ مسنَّدةٌ شبههم بخشب مسندة إلى الحائطِ لا يسمعون ولا يعقلون أشباحٌ بلا أرواحٍ، وأجسامٌ بلا أحلامٍ.
وقيل: شبههم بالخشب التي قد تآكلت فهي مسندة بغيرها لا يعلم ما في بطنها.
قال الزمخشري: شبهوا في استنادهم بالخشب المسندة إلى حائط؛ لأنهم أجرام خاليةٌ عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحائط، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار، أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به فأسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان.
فصل في قراءة خشب
قرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي: "خُشْبٌ" بإسكان الشين. وهي قراءة البراء بن عازب، واختيارُ عُبيدٍ.
لأنَّ واحدتها خشبة كما تقول: بدنة وبُدْن. قاله الزمخشري.
وقال أبو البقاء: و"خُشبٌ" - بالإسكان والضم - جمع خَشَب، مثل: أَسَد وأُسْد.
قال القرطبي: وليس في اللغة: "فَعَلَة" يجمع على "فُعُل"، ويلزم من ثقلها أن تقول: "البُدُن" فتقرأ: "والبُدُنَ"، وذكر اليزيدي أنه جمع الخشباءِ، كقوله تعالى:
{ وَحَدَآئِقَ غُلْباً } [عبس: 30] واحدتها: حديقة غلباء.
وقرأ الباقون من السبعة: بضمتين.
وقرأ سعيد بن جبير، وابن المسيب: بفتحتين.
ونسبها الزمخشري لابن عبَّاس، ولم يذكر غيره.
فأما القراءة - بضمتين - فقيل: يجوز أن تكون جمع خشبة، نحو: ثمرة وثُمُر. قاله الزمخشري.
وفيه نظر؛ لأن هذه الصيغة محفوظة في "فَعَلَة" لا ينقاس نحو: ثَمَرَة وثُمُر.
ونقل الفارسي عن الزبيدي: "أنه جمع: خَشْبَاء، وأخْشِبَة" غلط عليه؛ لأنه قد يكون قال: "خُشْب" - بالسكون - جمع "خَشْبَاء" نحو: "حَمْرَاء وحُمْر" لأن "فَعْلاء" الصفة لا تجمع على "فُعُل" بضمتين، بل بضمة وسكون.
وقوله: الزبيدي، تصحيف، إما منه، وإما من الناسخ، إنما هو اليزيدي تلميذ أبي عمرو بن العلاء، ونقل ذلك الزمخشري.
وأما القراءة بضمة وسكون.
فقيل: هي تخفيف الأولى.
وقيل: هي جمع خشباء، كما تقدم.
وهي الخشبة التي نُخِر جوفها، أي: فرغ، شبهوا بها لفراغ بواطنهم مما ينتفع به.
وأما القراءة - بفتحتين - فهو اسم جنس، وأنِّثَتْ صفته، كقوله:
{ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] وهو أحد الجائزين.
وقول: "مُسَنَّدَةٌ".
تنبيه على أنه لا ينتفعُ بها كما ينتفعُ بالخشب في سقفٍ وغيره، أو شبهوا بالأصنام؛ لأنهم كانوا يسندونها إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم.
وقيل: شُبِّهُوا بالخشب المُسنَّدةِ إلى الحائط، لأن الخشبة المسنَّدة إلى الحائط أحدُ طرفيها إلى جهة، والآخرُ إلى جهة أخرى.
والمنافق كذلك لأن أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر، والطرف الآخر وهو الظاهرُ إلى جهة أهلِ الإسلام.
ونقل القرطبي عن سيبويه أنه يقال: "خَشَبةٌ وخِشَابٌ وخُشُبٌ" مثل: ثَمَرة وثِمَار وثُمُر، والإسناد: الإمالة، تقول: أسندتُ الشيء أي: أملته، و"مُسَنَّدةٌ" للتكثير، أي: استندوا إلى الإيمان لحقن دمائهم.
قوله: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }.
فيه وجهان:
أظهرهما: أن "عليهم" هو المفعول الثاني للحسبان، أي واقعة وكائنة عليهم ويكون قوله: { هُمُ ٱلْعَدُوُّ } جملة مستأنفة، أخبر الله عنهم بذلك.
والثاني: أن يكون "عليهم" متعلقاً بـ"صَيحةٍ" و"هُمُ العَدُوُّ" جملة في موضع المفعول الثاني للحسبان.
قال الزمخشري: "ويجوز أن يكون "هُمُ العَدُوُّ" هو المفعولُ الثَّاني كما لو طرحت الضمير.
فإن قلت: فحقه أن يقال: هي العدُوُّ، قلت: منظور فيه إلى الخبر كما في قوله:
{ هَـٰذَا رَبِّي } [الأنعام: 77]، وأن يقدر مضافٌ محذوفٌ أي: يحسبون كل أهلِ صيحةٍ" انتهى.
وفي الثاني بعد بعيد.
فصل
وصفهم الله تعالى بالجُبْنِ والخَوَر.
قال مقاتل والسدي: إذا نادى مناد في العسكر أن أنفلتت دابة، أو أنشدت ضالّة ظنوا أنهم هم المرادون، لما في قلوبهم من الرعب.
كما قال الأخطل: [الكامل]

4773 - مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمْ خَيْلاً تكرُّ عَليْهِمُ ورِجَالا

وقيل: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ }، أنهم قد فطن بهم وعلم بنفاقهم؛ لأن للريبة خوفاً، استأنف الله خطاب نبيه - عليه الصلاة والسلام - فقال: "هم العَدُوُّ" وهذا معنى قول الضحاك.
وقيل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صيحةٍ يسمعونها في المسجد أنها عليهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم، فهم أبداً وجلُون من أن ينزل الله فيهم أمراً يبيح به دماءهم، ويَهْتِكُ به أسْتارهُم، ثم وصفهم الله بقوله { هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ } حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم.
قوله: { فَٱحْذَرْهُمْ }. فيه وجهان:
أحدهما: فاحذر أن تثق بقولهم، أو تميل إلى كلامهم.
الثاني: فاحذر ممايلتهُم لأعدائك، وتخذيلهم لأصحابك.
{ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ }.
قال ابن عباس: أي: لعنهم الله.
قال أبو مالك: هي كلمةُ ذمٍّ وتوبيخ.
وقد تقول العرب: قاتله اللَّه ما أشعرهُ، فيضعونه موضع التعجب.
وقيل: معنى { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ } أي: أحلَّهُم محلَّ من قاتله عدو قاهر، لأن الله تعالى قاهرٌ لكلِّ معاندٍ. حكاه ابن عيسى.
قوله: { أَنَّى يُؤْفَكُونَ }.
"أنى" بمعنى: كيف.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون "أنى" ظرفاً لـ"قاتلهم"، كأنه قال: قاتلهم الله كيف انصرفوا، أو صرفوا، فلا يكون في القولِ استفهام على هذا. انتهى.
قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز؛ لأن "أنَّى" إنما تستعمل بمعنى "كيف"، أو بمعنى "أين" الشرطية أو الاستفهامية، وعلى التقادير الثلاثة فلا تتمحض للظرف، فلا يعمل فيها ما قبلها ألبتَّة كما لا يعملُ في أسماءِ الشرط والاستفهام.
فصل
قال ابن عباس: "أنَّى يؤفكُونَ" أي: يكذبون.
وقال قتادة: أي يعدلون عن الحق.
وقال الحسن: يُصْرفُونَ عن الرشدِ.
وقيل: معناه كيف تضل عقولهم على هذا مع وضوح الدَّلائل، وهو من الإفك.
قوله: "أنَّى" بمعنى: "كيف"، وقد تقدم.
قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ }.
هذه المسألة عدها النحاة من الإعمال، وذلك أن "تعالوا" يطلب "رسُولُ اللَّهِ" مجروراً بـ"إلى" أي: تعالوا إلى رسول الله.
و "يَستَغْفِرْ" يطلبه فاعلاً، فأعمل الثاني، ولذلك رفعه، وحذف من الأول، إذ التقديرُ: تَعَالوا إليْهِ. ولو أعمل الأول لقيل: تعالوا إلى رسول الله يستغفر، فيضمر في "يستغفر" فاعل.
ويمكن أن يقال: ليست هذه من الإعمالِ في شيء؛ لأن قوله "تعالوا" أمر بالإقبال من حيث هو، لا بالنظر إلى مقبل عليه.
قوله: { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } هذا جواب "إذا".
وقرأ نافع: "لَوَوْا" مخففاً، والباقون مشدداً على التكثير.
و"يَصُدُّونَ" حالٌ؛ لأن الرؤية بصرية، وكذا قوله: "وهُمْ يَسْتَكبرُونَ" حال أيضاً، إما من أصحاب الحال الأولى، وإما من فاعل "يصدون" فتكون متداخلة.
وأتي بـ"يَصُدُّون" مضارعاً دلالة على التجدُّدِ والاستمرارِ.
وقرىء: "يَصِدُّونَ" بالكسر.
وقد تقدمتا في "الزخرف".
فصل في نزول الآية
لما نزل القرآن بصفتهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا: افتضحتم بالنفاقِ فتوبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، واطلبوا أن يستغفر لكم، فلوو رءوسهم أي: حرَّكُوها استهزاء وإباء. قاله ابن عباس.
وعنه أنه كان لعبد الله موقف في كل سبب يحُضُّ على طاعة الله، وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عيله وسلم عليك غضبان، فأته يستغفر لك فأبى، وقال: لا أذهب إليه.
قال المفسِّرون:
"وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق على ماء يقال له: المُريْسِيعُ من ناحية قُدَيد إلى السَّاحل فازدهم أجير لعمر يقال له: جهجاه بن سعيد الغفاري يقود له فرسه بحليف لعبد الله بن أبيٍّ، يقال له: سِنَانُ بنُ وبرة الجهنِيُّ حليفُ بني عوفٍ من الخزرج على ماء بالمشلِّل فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سنان بالأنصار فلطم جهجاه سناناً وأعان عليه جهجاه فأعان جهجاه رجل من المهاجرين يقال له: حقالٌ، وكان فقيراً، فقال عبد الله بن أبي: أوقد فعلوها؟ والله ما مثلنُا ومثلهُم إلاَّ كما قال الأولُ: سَمِّنْ كلْبَكَ يأكلْكَ أما - والله - لَئِنْ رَجَعْنَا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه: كفوا طعامكُم عن هذا الرجل، لا تنفقوا على من عنده حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله - أنت - والله - الذليلُ المنتقص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن، ومودة من المسلمين، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا أبداً، فقال عبد الله: اسكت إنما كنتُ ألعبُ، فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، قال: فعذره النبي صلى الله عليه وسلم قال زيد بن أرقم: فوجدت في نفسي ولامني الناسُ، فنزلت سورةُ المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله، فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك آياتٌ شديدة، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فألوى رأسه" فنزلت الآيات. خرجه البخاري والترمذي بمعناه.
وقيل: معنى قوله: { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ } يستتبكم من النِّفاق، لأن التوبة استغفارٌ { ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } أي يعرضُون عن الرسول { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي متكبرون عن الإيمان.
قيل: قال ابن أبيّ لما لوى رأسه: أمرتموني أن أومن فقد آمنت، وأن أعطي الزكاة من مالي فقد أعطيتُ، فما بقي إلا أن أسجدَ لمحمدٍ.
قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ }.
قرأ العامَّة: "أسْتَغْفَرْتَ" بهمزةٍ مفتوحةٍ من غير مدٍّ، وهي همزة التسوية التي أصلُها الاستفهامُ.
وقرأ يزيد بن القعقاع: "آسْتغَفرْتَ" بهمزة ثم ألف.
فاختلف الناسُ في تأويلها:
فقال الزمخشري: إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيانِ لا قلباً لهمزة الوصل كما في { آلسَّحْرُ }[يونس: 81] و { آللّهُ } [يونس: 59].
يعني إنما أشبع همزة التسوية فتولد منها ألف.
وقصده بذلك إظهار الهمزة وبيانها، إلا أنه قلب الوصل ألفاً كما قلبها في قوله: { آلسحر، آلله أذن لكم } لأنَّ هذه الهمزة للوصل، فهي تسقط في الدرج، وأيضاً فهي مكسورة فلا يلتبس معها الاستفهام بالخبر بخلاف "آلسّحر"، { آللّه أذن لكم }.
وقال آخرون: هي عوض عن همزة الوصلِ، كما في
{ ءَآلذَّكَرَيْنِ } [الأنعام: 143].
وهذا ليس بشيء؛ لأن هذه مكسُورة فكيف تبدل ألفاً.
وأيضاً فإنما قلبناها هناك ألفاً ولم نحذفها وإن كان حذفها مستحقاً لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر، وهنا لا لبس.
وقال ابن عطية: وقرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع: "آسْتغْفَرتَ" بمدَّةٍ على الهمزة وهي ألف التسوية. وقرأ أيضاً: بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي هذا كله ضعف، لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام، وهو يريدُها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر.
قال شهاب الدين: أما قراءته "استغفرت" بوصل الهمزة فرويت أيضاً عن أبي عمرو، إلا أنه يضم ميم "عَليْهِمُ" عند وصله الهمزة لأن أصلها الضم، وأبو عمرو يكسرها على أصل التقاءِ الساكنينِ.
وأما قوله: وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر، فإن أراد بهذا مدَّ هذه الهمزة في هذا المكان فصحيح، بل لا تجده أيضاً، وإن أراد حذف همزة الاستفهامِ، فليس بصحيح؛ لأنه يجوز حذفها إجماعاً قبل "أم" نثراً ونظماً، فأما دون "أم" ففيه خلاف:
والأخفشرحمه الله يجُوِّزه، ويجعل منه
{ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } [الشعراء: 22].
وقول الآخر: [الطويل]

4774 - [طَرِبْتُ ومَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ ولا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يلعَبُ]

وقول الآخر: [المنسرح]

4775 - أفْرَحُ أنْ أرْزأ الكِرَامَ وأنْ أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ

وأما قبل "أم" فكثير، كقوله: [الطويل]

4776 - لَعَمْرُكَ مَا أدْرِيَ وإنْ كُنْتَ دَارِياً بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ

وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة.
فصل في نزول هذه الآية.
قال قتادةُ:
"هذه الآية نزلت بعد قوله: { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }، وذلك أنَّها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني رب فلأزيدنهم على السبعين، فأنزل الله تعالى:{ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80] الآية" .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالفاسِقينَ المُنافقُونَ.
فصل في تفسير الآية
معنى قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ }.
أي: كل ذلك سواء لا ينفع استغفارك شيئاً؛ لأن الله تعالى لا يغفر لهم، نظيره:
{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6]، { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ ٱلْوَاعِظِينَ } [الشعراء: 136]، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ }.
قال ابن الخطيب: قال قوم: فيه بيان أن الله - تعالى - يملك هداية وراء هداية البيان، وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك.
وقيل: معناه لا يهديهم لفسقهم، وقالت المعتزلة: لا يُسمِّيهم المهتدينَ إذا فَسَقُوا وضلُّوا.
فإن قيل: لم ذكر الفاسقين ولم يقل: الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كلاًّ منهم تقدم ذكره؟.
فالجواب: أن كل واحد منهم دخل تحت الفاسقين.