التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٩
وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠
وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١١
-المنافقون

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ }.
حذَّر المُؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المُنافقُون إذ قالُوا - لأجْلِ الشُّحِّ بأموالهم -: { لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ }.
وقوله: { عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ }.
أي: عن الحجِّ والزكاة.
وقيل: عن قراءة القرآن.
وقيل: عن إدامة الذكر.
وقال الضحاك: عن الصلواتِ الخمس.
وقال الحسنُ: عن جميعِ الفرائضِ، كأنه قال: عن طاعة الله.
وقيل: هذا خطاب للمنافقين، أي: آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } يشتغل بالمالِ والولدِ عن طاعةِ ربهِ { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }.
قوله: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ }.
قال ابن عباس: يُريدُ زكاة الأمْوالِ.
{ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ }.
قال القرطبي: "هذا يدل على وجوب تعجيل إخراج الزَّكاةِ ولا يجوزُ تأخيرها أصلاً وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها".
قال ابن الخطيب: وبالجملة فقوله: { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } تنبيه على المحافظة على الذِّكرِ قبل المَوْتِ. وقوله: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ }: تنبيه على الشكر كذلك.
قوله: { فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ }.
أي: هلاَّ أخَّرتَنِي.
وقيل: "لا" صلة، فيكونُ الكلامُ بمعنى التَّمنِّي.
أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحاً.
روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: "مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ يُبلِّغهُ حَجَّ بَيْتِ ربِّهِ أو يَجبُ عليهِ فِيهِ زكاةٌ فَلمْ يَفْعَلْ، سَألَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الموْتِ، فقال رجُلٌ: يا ابْنَ عبَّاسٍ، اتَّق اللَّهِ، إنَّما سأل الرَّجعة الكُفَّارُ، فقال: سأتلُو عليْكَ بذلك قرآناً { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } إلى قوله { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال: فما يوجبُ الزَّكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعداً، قال: فما يوجبُ الحجَّ؟ قال: الزادُ والراحلةُ".
قال القرطبيُّ: ذكره الحليمي في كتاب "منهاج الدين" مرفوعاً، فقال: وقال ابن عبَّاس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ كَانَ عِنْدهُ مالٌ يُبلِّغهُ الحَجَّ" الحديث.
قال ابنُ العربيِّ: "أخذ ابنُ عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفلِ، فأما تفسيره بالزَّكاةِ فصحيح كلُّه عموماً وتقديراً بالمائتين.
وأما القولُ بالحج ففيه إشكالٌ؛ لأننا إن قلنا: الحج على التراخي ففي المعصية بالموتِ قبل الحج خلافٌ بين العلماءِ، فلا تخرج الآية عليه.
وإن قلنا: الحج على الفور فالعمومُ في الآية صحيحٌ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يودُّ لو أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات.
وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما تدخلُ في المتفقِ عليه.
والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيدُ".
قوله: { فَأَصَّدَّقَ }.
نصب على جواب [التمني] في قوله: { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ }.
وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير: "فأتَصَدَّقَ"، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد.
قوله: "وأكُنْ".
قرأ أبو عمرو: "وأكونَ" بنصب الفعل عطفاً على "فأصَّدَّقَ".
والباقون: "وأكُنْ" مجزوماً، وحذفت الواوُ لالتقاءِ الساكنين.
واختلف عباراتُ الناس في ذلك.
فقال الزمخشري: "عطفاً على محل "فأصَّدَّقَ" كأنَّه قيل: إنْ أخَّرتني أصَّدقْ وأكُنْ".
وقال ابن عطية: "عطفاً على الموضع: لأنَّ التقدير: إن أخرتني أصَدقْ وأكُنْ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي".
وقال القرطبي: "عطلفٌ على موضع الفاء، لأن قوله: "فأصدق" لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي "أصَّدَّقْ"، ومثله:
{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [الأعراف: 186] فيمن جزم.
فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غيرُ هذا، وهو أنه جزمٌ على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني، ولا موضع له هنا لأنَّ الشرط ليس بظاهر، وإنما يعطف على الموضع بحيث يظهرُ الشرطُ، كقوله:
{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف: 186] فمن جزم عطفه على موضع { فلا هَادِي لَه }؛ لأنه لو وقع موقعه فعل لانجزم" انتهى.
وهذا الذي نقله سيبويه هو المشهور عند النحويين.
ونظَّر ذلك سيبويه بقول زهير رحم الله المؤمنين: [الطويل]

4777 - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا

فخفض "ولا سابقٍ" عطفاً على "مدركٍ" الذي هو خبرُ "ليس" على توهم زيادة الباء فيه قد كثر جرّ خبرها بالباء المزيدةِ، وهو عكسُ الآية الكريمة؛ لأنه في الآيةِ جزم على توهُّم سقوطِ الفاءِ، وهنا خفض على توهُّم وجود الباء، ولكن الجامع توهم ما يقتضي جواز ذلك.
قال شهاب الدين: "ولكني لا أحب هذا اللفظ مستعملاً في القرآن الكريم، فلا يقال: جزم على التوهم لقبحه لفظاً".
وقال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان "أكن" بغير واو.
وقد فرق أبو حيان بين العطف على الموضع والعطف على التوهم فقال: "الفرقُ بينهما أنَّ العامل في العطف على الموضع موجودٌ، وأثره مفقودٌ، والعامل في العطفِ على التوهم مفقود، وأثره موجود". انتهى.
قال شهاب الدين: "مثال الأول "هذا ضارب زيد وعمراً" فهذا من العطف على الموضع فالعامل وهو "ضارب" موجود، وأثره وهو النصب مفقود، ومثال الثاني ما نحن فيه، فإن العامل للجزم مفقود وأثره موجود، وأصرحُ منه بيتُ زهيرٍ، فإن الباء مفقودةٌ وأثرُها موجود، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه، وكذلك في الآية الكريمة، ومن ذلك أيضاً بيت امرىء القيس: [الطويل]

4778 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفِ شِواءٍ أو قَدِيدٍ مُعَجَّلِ

فإنهم جعلوه من العطف على التوهُّم، وذلك أنه توهّم أنه أضاف "منضج" إلى "صفيف" وهو لو أضافه إليه فجره فعطف "قديدٍ"على "ضعيفٍ" بالجر توهماً لجرّه بالإضافة".
وقرأ عبيد بن عمير: "وأكُونُ" برفع الفعل على الاستئناف، أي: "وأنَا أكُونُ"، وهذا عدةٌ منه بالصلاح.
فصل فيما تدل عليه الآية
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية تدل على أن القوم لم يكونوا من أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند اللَّه خير في الآخرة.
قال القرطبي: "إلا الشَّهيد فإنه يتمنّى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة".
وقال الضحاك: لم ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا طلب الرجعة وقرأ هذه الآية { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشرّ.
قرأ أبو بكر عن عاصم والسلمي: بالياء من تحت على الخبر على من مات، وقال هذه المقالة.
والباقون: بالخطاب، وهما واضحتان.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورةَ المُنافقينَ بَرِىءَ مِنَ النِّفَاقِ" . والله أعلم.