التفاسير

< >
عرض

ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ
١٠
وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
١١
وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ
١٢
-التحريم

اللباب في علوم الكتاب

ثم ضرب اللَّهُ مثلاً للصَّالحات، من النِّساء، فقال:
{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } إلى آخره، تقدم الكلام على "ضرب" مع "المَثَل"، وهل هو بمعنى "صير" أم لا؟ وكيف ينتصب ما بعدها في سورة "النحل".
فصل في ضرب الله لهذا المثل
ضرب الله هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدِّين، وكان اسم امرأة نوح "والهة"، وامرأة لوط "والغة"، قاله مقاتل.
وقال الضحاكُ عن عائشة - رضي الله عنها -: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح "وَاغِلة" وامرأة لوط "والهة"، { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } يعني نوحاً ولوطاً.
ويجوز أن يكون "امْرَأة نُوحٍ" بدلاً من قوله "مثلاً" على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح.
ويجوزأن يكونا مفعولين.
قوله: { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ }.
جملة مستأنفة كأنها مفسرة لـ"ضَرْبِ المثلِ"، ولم يأت بضميرهما، فيقال: تحتهما أي: تحت نوح ولوط، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة، وليصفهما بأجَلّ الصِّفات، وهو الصَّلاح.
قوله: { فَخَانَتَاهُمَا }.
قال عكرمة، والضحاك: بالكفر.
وقال سليمان بن رقية، عن ابن عباس: كانت امرأة تقول للناس: إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه.
وعن ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما.
قال القشيريُّ: وهذا إجماع من المفسرين إنما كانت خيانتهما في الدين، وكانتا مشركتين وقيل: كانتا منافقتين.
وقيل: خيانتهما النَّميمةُ إذا أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك.
وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال.
قوله: { فَلَمْ يُغْنِيَا }.
العامة: بالياء من تحت، أي: لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من الإغناء من عذاب الله.
وقرأ مبشر بن عبيد: تغنيا - بالتاء من فوق -، أي: فلم تُغْن المرأتان عن أنفسهما.
وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة.
وجوابه: أن "عَنْ" هنا اسم كهي في قوله: [الكامل]

4790 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ .....................................

وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله: { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [مريم: 25] { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [القصص: 32]، والجواب هناك.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: لم يدفع نوح، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئاً من عذاب اللَّه تنبيهاً بذلك على أنَّ العذاب يدفع بالطَّاعة، لا بالوسيلة.
وقيل: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إنَّ محمداً يشفع لنا، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار "مكة"، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما.
{ وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم. قطع الله بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً.
قوله: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ }.
واسمها آسية بنت مزاحم.
قال يحيى بن سلام: قوله: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } مثل ضربه الله يحذر به عائشة، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صلى الله عليه وسلم ثم ضرب الله لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة، والثبات على الدين.
وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي: لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.
قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأةُ فرعون.
وقيل: هي عمة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت: "ربِّ نَجِّنِي مِنْ فرعَونَ وعمله". فرمى بروحها في الجنة، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه.
وقال الحسنُ: رفعها تأكل في الجنة، وتشرب.
قال سلمان الفارسي: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة.
قوله: { إذْ قَالَتْ رَبِّ }.
منصوب بـ"ضرب"، وإن تأخر ظهور الضرب.
ويجوز أن ينتصب بالمثل.
قوله: { عِندَكَ }.
يجوز تعلقه بـ"ابْنِ"، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من "بَيْتاً" كان نعته فلما قدم نصب حالاً.
و { فِي ٱلْجَنَّةِ }.
إما متعلق بـ"ابْنِ" وإما بمحذوف على أنه نعت لـ"بَيْتاً".
فصل في قصة امرأة فرعون.
قال المفسرون: لما كانت تعذب في الشمس، وأذاها حرّ الشمس { قَالَتْ: رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } فوافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: لا تَعْجبُوا من جُنُونهَا أنَا أعذِّبُها وهي تضحك، فقبض رُوحها.
وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها اللَّهُ، حتى رأت مكانها في الجنَّة، وانتزع روحها، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألماً.
وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة، فهي فيها تأكل، وتشرب، وتتنعم.
قوله: { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ }.
تعني بالعمل: الكفر.
وقيل: "من عمله"، أي: من عذابه وظلمه.
وقال ابن عباس: الجماع.
{ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }، أي: الكافرين.
قال الكلبيُّ: أهل "مصر".
وقال مقاتل:القبط.
قوله: { وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ }.
عطف على { ٱمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ }.
ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين، وللمؤمنين بامرأتين.
وقال أبو البقاء: "ومَرْيَمَ" أي: "واذكر مريم".
وقيل: أو "ومثل مريم".
وقرأ العامة: "ابْنَة" بنصب التاء.
وأيوب السختياني: بسكون الهاء، وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.
والعامة أيضاً: "فَنَفَخْنَا فيْهِ" أي: في الفرجِ.
وعبد الله: "فِيْهَا" أي: في الجملة. وقد تقدم في "الأنبياء" مثله.
والعامة أيضاً: "وصَدَّقتْ" بتشديد الدال.
ويعقوب وقتادة وأبو مجلز، وعاصم في رواية: بتخفيفها، أي: صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى.
والعامة على: "بِكَلمَاتِ" جمعاً.
والحسن ومجاهد والجحدري: "بِكلمَةِ" بالإفراد.
فقيل: المراد بها عيسى؛ لأنه كلمةُ الله.
فصل في مريم ابنة عمران
ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود.
وقوله: { ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } عن الفواحش.
وقال المفسرون هنا: أراد بالفرج الجيب، لقوله { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } وجبريل - عليه السلام - إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها.
وهي في قراءة أبيٍّ: { فنفخنا في جيبها من روحنا }، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً، ومنه قوله تعالى:
{ { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ق: 6].
ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.
ومعنى "فَنَفَخْنَا" أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها "مِنْ رُوحِنَا" أي: روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى، وقوله: { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي: قول جبريل لها:
{ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } [مريم: 19] الآية.
وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله كما تقدم.
وقيل: { بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة.
قوله: { وَكُتُبِهِ }.
قرأ أهل "البَصْرة" وحفص: "وكُتُبِهِ" على الجمع.
وقرأ الأخرون: "وكِتَابِهِ" على التوحيد.
والمراد منه الكثرة، فالمراد به الجِنْس، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى.
وقرأ أبو رجاء: "وَكُتْبِهِ" بسكون التاء، وهو تخفيف حسن.
وروي عنه: "وكَتْبِهِ" بفتح الكاف.
قال أبو الفضل: مصدر وضع موضع الاسم، يعني ومكتوبه.
فصل في المراد بالكتب
أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى.
وقوله: { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ }.
يجوز في "مِن" وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها للتبعيض، وقد ذكرهما الزمخشريُّ، فقال: و"مِنْ" للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: { مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } على التذكير؟.
قلت: القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه.
ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة.
وقال عطاء: من المصلّين بين المغرب والعشاء.
وعن معاذ بن جبلٍ:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: أتكرهين ما قد نزل بك، وقد جعل اللَّهُ في الكره خيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال: حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران، فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله" .
[قال ابن الأثير: الرفاء والبنين: الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء، وهو مهموز.
وذكره الهروي في "المعتلّ" قال: "وهو على معنيين:
أحدهما: الاتفاق وحسن الاجتماع، والآخر: من الهدوء والسكون، وأما المهموز فمن قولهم: رَفَأتُ الثَّوب رفاءً، ورفوتُه رفواً" انتهى].
وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"حَسْبُكُ مِنْ نِسَاءِ العَالمينَ أربعٌ: مَريَمُ ابْنَةُ عِمرانَ، وخَدِيجَةُ بنتُ خُويْلِدٍ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وآسيةُ بِنْتُ مُزاحِمٍ امرأةُ فِرْعَونَ" .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ سُورةَ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } أعطاهُ اللَّهُ تَوْبَةٌ نَصُوحاً" .