التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٣
إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ
٤
عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً
٥
-التحريم

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَإِذَ أَسَرَّ }.
العامل فيه "اذكر" فهو مفعول به لا ظرف.
والمعنى: اذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه، يعني حفصة "حَدِيثاً" يعني تحريم مارية على نفسه واستكتامه إياها ذلك.
وقال الكلبيُّ: أسرَّ إليها أن أباك عائشة يكونان [خليفتين] من بعدي على أمَّتي.
وقال ابن عباس: أسرّ أمر الخلافة بعده إلى حفصة، فذكرته حفصة.
روى الدارقطني في سننه عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله تعالى: { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً }، قال:
"اطلعت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أم إبراهيم، فقال: لا تُخبري عائِشَة، قال: فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة فأظهره اللَّهُ عليه، فَعرَّف بعضهُ، وأعْرَضَ عن بَعْضٍ، قال: أعرض عن قولها: إن أباك وأباها يكُونانِ خَليفَتيْنِ مِنْ بَعْدِي" كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس.
{ فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أخبرت عائشة لمصافاة كانت بينهما، وكانتا متظاهرتين على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } أي: أطلعه الله على أنها قد نبأت به.
قوله: { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ }.
أصل "نَبَّأ وأنْبَأ، وأخبر وخبّر، وحدّث" أن يتعدى لاثنين [إلى] الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفاً، وقد يحذف الأول للدلالة عليه، وقد جاءت الاستعمالات الثلاثة في هذه الآية فقوله: { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } تعدى لاثنين، حذف أولهما، والثاني مجرور بالباء، أي: "نَبَّأتْ بِهِ غيْرهَا"، وقوله: { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ذكرهما، وقوله: { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } ذكرهما، وحذف الجار.
وقرأ طلحة بن مصرف: "فلمَّا أنْبَأت"، وهما لغتان "نَبَّأ وأنْبَأ".
قوله: { عَرَّفَ بَعْضَهُ }.
قرأ الكسائي: بتخفيف الراء.
قال القرطبي: "وبها قرأ علي، وطلحة بن مصرف، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة والكلبي والأعمش عن أبي بكر".
قال عطاء: كان أبو عبد الرحم السلمي إذا قرأ عليه الرجل "عَرَّفَ" مشددة حصبه بالحجارة.
وقرأ الباقون: بتشديد الراء.
فالتثقيل يكون المفعول الأول معه محذوفاً، أي "عرَّفَهَا بَعْضَه"، أي: وقفها عليه على سبيل العَتْب.
{ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }، تكرماً منه وحلماً، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم يدل عليه قوله تعالى: { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }، أي: لم يعرفها إياه، ولو كانت مخففة لقال في ضده: وأنكر بعضاً.
وأما التخفيف: فمعناه جازى على بعضه، وأعرض عن بعض.
قال الفرَّاءُ: وتأويل قوله - عز وجل -: "عَرَفَ" بالتخفيف، أي: غضب فيه، وجازى عليه، كقولك لمن أساء إليك: "لأعرِفنَّ لك ما فعلت" أي: لأجَازِينَّك عليه.
فصل في نزول الآية
قال المفسرون: إنه أسرَّ إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها، فطلقها مجازاة على بعضه، ولم يؤاخذها بالباقي، وهو من قبيل قوله تعالى:
{ { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [البقرة: 197] أي: يجازيكم عليه، وقوله: { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [النساء: 63]، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأن الله - تعالى - أطلعه على جميع ما أنبأت به غيرها؛ لقوله تعالى: { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ }.
وقرأ عكرمة: "عَرَّافَ" بألف بعد الراء.
وخرجت على الإشباع، كقوله: [الرجز]

4785 - أعُوذُ باللَّهِ مِنَ العَقْرَابِ

وقيل: هي لغة يمانية، يقولون: "عراف زيد عمراً".
وإذا ضمنت هذه الأفعال الخمسة معنى "أعلم" تعدت لثلاثة.
وقال الفارسي: "تعدَّت بالهمزة أو التضعيف".
وهو غلط، إذا يقتضي ذلك أنها قبل التضعيف، والهمزة كانت متعدية لاثنين، فاكتسبت بالهمزة، أو التضعيف ثالثاً، والأمر ليس كذلك اتفاقاً.
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ: عرف بعضه، وأعرض عن بعض تكرماً.
وقال الحسنُ: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى: { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ }.
وقال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قالت لعائشة، وهو قول حفصة لعائشة: إن أبا بكرٍ وعمر سيملكان بعده.
قال المفسرون: إن النبي صلى الله عليه وسلم جازى حفصة، بأن طلقها طلقة واحدة، فلما بلغ ذلك عمر، فقال عمر: لو كان في آل الخطاب خير لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك، فأمره جبريل بمراجعتها، وشفع فيها، واعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، وقعد في مشربة مارية أم إبراهيم، حتى نزلت آية التخيير كما تقدم.
وقيل: هم بطلاقها، حتَّى قال له جبريل: لا تطلقها، فإنها صوَّامة قوَّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فلم يطلقها.
قوله: { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ }، أي: أخبر حفصة بما أظهره الله عليه، قالت: { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } يا رسول الله عني، فظنت أن عائشة أخبرته، فقال - عليه السلام -: { نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } الذي لا يخفى عليه شيء. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الكراهية في وجه حفصة حين رأته مع مارية أراد أن يتراضاها فأسرَّ إليها شيئين: تحريم الأمة على نفسه، وتبشيرها بأن الخلافة بعده في أبي بكر وفي أبيها عمر، فأخبرت حفصة بذلك عائشة، وأطلع اللَّهُ نبيه عليه فعرف حفصة، وأخبرها بما أخبرت به عائشة، وهو تحريم الأمة { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } يعني عن ذكر الخلافة، كره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن ينشر ذلك بين الناس، { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } أي: أخبر حفصة بما أظهره اللَّهُ عليه، قالت حفصة: { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } أي: من أخبرك بأني أفشيت السِّرَّ؟ "قال:{ نَبَّأَنِيَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ }".
قال ابن الخطيب: وصفه بكونه خبيراً بعدما وصفه بكونه عليماً لما أنّ في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم.
قوله: { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ }.
شرط في جوابه وجهان:
أحدهما: هو قوله: { فَقَدْ صَغَتْ }.
والمعنى: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التَّوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه.
و"صَغَتْ" مالت وزاغت عن الحق.
ويدل له قراءة ابن مسعود: "فقد زاغت".
قال القرطبيُّ: "وليس قوله { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } جزاء للشرط؛ لأن هذا الصغو كان سابقاً، فجواب الشرط محذوف للعلم به، أي: إن تتوبا كان خيراً لكما؛ إذ قد صغت قلوبكما".
والثاني: أن الجواب محذوف، وتقديره: فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما قاله أبو البقاء، ودلّ على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ }؛ لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب.
قال شهاب الدين: "وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً".
وقوله: { قُلُوبُكُمَا } من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل: "قَلبَاكُمَا"، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين من اثنين جمعوهما؛ لأنه لا يشكل. وقد تقدم هذا في آية السرقة في المائدة.
ومن مجيء التثنية قوله: [الكامل]

4786 - فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بنَوافِذٍ كنَوافِذِ العُبُطِ الَّتِي لا تُرْقَع

والأحسن في هذا الباب الجمع، ثم الإفراد، ثم التثنية.
وقال ابن عصفور، لا يجوز الإفراد إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الطويل]

4787 - حَمَامَةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمِي سَقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطيرهَا

وتبعه أبو حيان، وغلط ابن مالك في كونه جعلهُ أحسن من التثنية.
وليس بغلط لكراهةِ توالي تثنيتين مع أمن اللبس.
وقوله: "إنْ تَتُوبَا" فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب.
فصل في المراد بهذا الخطاب.
المراد بهذا الخطاب أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخين الكريمين: عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - حثّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما } أي: زاغت ومالت عن الحق، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسلِ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنِّساء.
قال ابن زيد رضي الله عنه مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: فقد مالتْ قُلوبكُمَا إلى التوبة.
قوله: { وَإِن تَظَاهَرَا }.
أصله: "تَتَظاهَرَا" فأدغم، وهذه قراءة العامة.
وقرأ عكرمة: "تَتَظَاهَرَا" على الأصل.
والحسن وأبو رجاء، ونافع، وعاصم في رواية عنهما: بتشديد الظَّاء والهاء دون ألف، وكلها بمعنى المعاونةِ من الظهر؛ لأنه أقوى الأعضاء وأجلها.
فصل في معنى تتظاهرا
معنى تتظاهرا، أي: تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعصية والإيذاء.
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنةً، وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت، حتى فرغ ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضَّأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين، من اللَّتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم؟.
فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبةً لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك. وذكر الحديث.
قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ }.
يجوز أن يكون "هو" فصلاً، و"مَولاهُ" خبره والمبتدأ جملة "إنَّ".
والمعنى: الله وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التَّظاهر منهما.
قوله: { وَجِبْرِيلُ }.
يجوز أن يكون عطفاً على اسم الله تعالى.
والمعنى: الله وليه، وجبريل وليه، فلا يوقف على "مَولاهُ" ويوقف على جبريل.
ويكون { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } مبتدأ، "والملائكة" معطوفاً عليه، والخبر "ظَهِيرٌ" ورفع "جبريل" نظراً إلى محل اسم "إن" وذلك بعد استكمال خبرها وقد تقدم مذاهب الناس في ذلك.
ويكون "جِبْريلٌ" وما بعده داخلين في الولاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون "جبريل" ظهيراً له بدخوله في عموم الملائكة.
ويكون "الملائكةُ" مبتدأ، و"ظهيرٌ" خبره، وأفرد لأنه بزنة "فَعِيل".
قال القرطبيُّ: "هو بمعنى الجمع".
قال أبو علي: قد جاء "فعيل" للكثرة، قال تعالى:
{ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [المعارج: 11]. ومعنى: "ظهيرٌ" أي: أعوان، وهو في معنى ظهراء كقوله تعالى: { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69].
ويجوز أن يكون الكلام تم عند قوله "مَولاهُ"، ويكون "جبريلُ" مبتدأ، وما بعده عطف عليه، و"ظهيرٌ" خبر الجميع، فتختص الولاية بالله، ويكون جبريل قد ذكر في المعاونة مرتين، مرة بالتنصيصِ عليه، ومرة بدخوله في عموم الملائكةِ.
وهذا عكس ما في "البقرة" في قوله تعالى:
{ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [البقرة: 98]، فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهناك ذكر العام بعد الخاص، ولم يذكر الناس إلا القسم الأول.
وفي "جِبْريل" لغات تقدم ذكرها في "البقرة".
قوله: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ }.
قال المسيِّبُ ابن شريكٍ: { وَصاَلِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر.
وقال سعيد بن جبيرٍ: هو عمر.
وقال عكرمة: أبو بكر وعمر.
وروى شقيق عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"{ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ }: أبو بكر وعمر" .
وعن أسماء بنت عميسٍ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "{ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنينَ }: علي بن أبي طالب" .
وقيل: خيار المؤمنين، و"صالح": اسم جنس، كقوله تعالى: { وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } [العصر: 1، 2]. قاله الطبريُّ.
وقال العلاءُ بنُ زياد، وقتادة، وسفيان: هم الأنبياء.
وقال ابن زيد: هم الملائكة.
وقال السديُّ: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } ليس لفظ الواحدِ، وإنما هم "صَالِحُو المُؤمِنينَ" فأضاف الصالحين إلى المؤمنين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
فصل في هذا التظاهر
قيل: كان التَّظاهر منهما في التحكيم على النبي صلى الله عليه وسلم في النفقة، ولهذا آلى منهن شهراً واعتزلهن.
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال:
"دخل أبو بكرٍ يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد النَّاس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحدٍ منهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثُمَّ أقبل عمرُ، فاستأذن، فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه، واجماً ساكتاً، قال: فلأقولن شيئاً أضحكُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت بنت خارجة تسألني النفقة، فقمت إليها، فوجأت عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هَنُّ حَولِي كما تَرَى يَسْألنَنِي النَّفقَة فقام أبو بكر إلى عائشة رضي الله عنها يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده، ثم اعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، أو تسعاً وعشرين، ثم نزلت عليه: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ } [الأحزاب: 28] حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } [الأحزاب: 29]" الحديث.
قوله: { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ }.
الظَّاهر أنه مفرد، ولذلك كتب بالحاء دون واو الجمع.
وجوزوا أن يكون جمعاً - بالواو والنون - حذفت النون للإضافة، وكتب دون واو اعتباراً بلفظه، لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين، نحو:
{ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [الشورى: 24]. و { يَدْعُ ٱلدَّاعِ } [القمر: 6]، و { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } [العلق: 18]، إلى غير ذلك.
ومثل هذا ما جاء في الحديث:
"أهْلُ القُرآنِ أهْلُ اللَّه وخاصَّتهُ" .
قالوا: يجوز أن يكون مفرداً، وأن يكون جمعاً، كقوله: { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [الفتح: 11] وحذفت الواو لالتقاء الساكنين لفظاً.
فإذا كتب هذا، فالأحسن أن يكتب بالواو لهذا الغرض، وليس ثمَّ ضرورة لحذفها كما في مرسوم الخطِ.
وجوز أبو البقاء في "جبريل" أن يكون معطوفاً على الضمير في "مولاهُ"، يعني المستتر، وحينئذٍ يكون الفصل بالضمير المجرور كافياً في تجويز العطف عليه.
وجوز أيضاً: أن يكون "جبريل" مبتدأ، و"صالحُ" عطف عليه، فالخبرُ محذوفٌ، أي: مواليه.
فصل في المراد بصالح المؤمنين
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد بقوله "وصَالحُ المؤمنين" يعني أبا بكر وعمر مواليين للنبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه، وناصرين له: وهو قول المقاتلين.
وقال الضحاكُ: خيار المؤمنين.
وقيل: كل من آمن وعمل صالحاً.
وقيل: كل من برىء من النفاقِ.
وقيل: الأنبياء.
وقيل: الخلفاء.
وقيل: الصحابة.
قوله: { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ }.
قيل: كل "عَسَى" في القرآن واجب إلا هذا.
وقيل: واجب، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - علقه بشرط، وهو التطليق ولم يطلقهن.
قال النحويون: "إنْ طلَّقكُنَّ" شرط معترض بين اسم "عَسَى" وخبرها، وجوابه محذوفٌ، أو متقدم، أي "إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى".
وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم.
قال: وهو أولى من
{ يَرْزُقُكمْ } [يونس: 31]، ونحوه لثقل التأنيثِ.
قوله: { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً }.
قرىء: مخففاً ومشدداً، كما تقدم في "الكهف".
والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال.
وقوله: { أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ }.
لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السديُّ.
وقيل: هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن، كقوله تعالى:
{ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [محمد: 38] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فصل في الكلام على لفظ مسلمات
قوله: { مُسْلِمَاتٍ } إلى آخره. إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص.
قال سعيد بن جبير: يعني مخلصاتٍ.
وقيل: مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة { مُّؤْمِنَاتٍ } أي: مصدقات بتوحيد الله.
وقيل: مصدقات بما أمرنَ به: ونهين عنه { قَانِتَاتٍ } مطيعات، والقنوت: الطاعة.
وقيل: داعياتٍ بتوحيد الله.
وقيل: مصليات "تائبات" أي: من ذنوبهن، قاله السديُّ.
وقيل: راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاتٍ لمحاب أنفسهن، { عَابِدَاتٍ } أي: كثيرات العبادةِ لله تعالى.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد { سَائِحَاتٍ } أي: صائمات، قاله ابن عبَّاس والحسن وابن جبير.
وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان: مهاجرات.
قال زيد: وليس في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. والسياحة الجولان في الأرض.
وقال الفرَّاء والقتبي وغيرهما: سمي الصائمُ سائحاً؛ لأن السائحَ لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام.
وقيل: يسحن معه حيثما ساح.
وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى، من ساح الماءُ إذا ذهب. وقد مضى في سورة براءة.
وقرأ عمرو بن فائد: "سَيِّحاتٍ".
فصل في الكلام على الآية.
قال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟.
فالجواب: إذا طلقهن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لعصيانهن له، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم خيراً منهن.
فإن قيل: قوله: { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } يوهم التَّكرارَ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء؟ فالجواب: الإسلام هو التصديق باللسان، والإيمان التصديق بالقلب، وقد لا يجتمعان فقوله { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } تحقيقاً لاجتماعهما.
قوله: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }.
إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات.
و"ثَيِّباتٍ" ونحوه لا ينقاس؛ لأنه اسم جنس مؤنث، فلا يقال: نساء حورات، ولا رأيت عينات.
و"الثَّيِّبُ" وزنها "فَيعِل" من "ثاب يثوب" أي: رجع، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها.
وأصله: "ثَيْوب" كـ"سيِّد وميِّت" أصلهما: "سَيْود ومَيْوت" على الإعلال المشهور.
والمعنى: منهن ثيّب، ومنهن بِكْر.
قيل: إنما سميت ثيِّباً؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، وإلى غيره إن فارقها.
وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها.
قال القرطبي: "والأول أصح؛ لأن ليس كل ثيبت تعود إلى زوج، وأما البكر: فهي العذراء، سميت بكراً؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها".
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ذكر الثيبات في مقام المدحِ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟.
فالجوابُ: يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - لاختصاصهن بالمال، والجمال، أو النسب، أو المجموع، وإذا كان كذلك، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح، لجواز ذلك.
وقال الكلبيُّ: أراد بالثيِّب مثل: آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل: مريم ابنة عمران.
قال القرطبيُّ: "وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن، والله أعلم".