التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١٢
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٣
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٤
هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
-الملك

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ }، نظيره: { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ق: 33] وقد مضى الكلام فيه. أي: يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو "بالغَيْبِ" وهو عذاب يوم القيامة "ويَخْشَوْنَهُ" في دار التكليف، أي: يتقون جميع المعاصي.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق، فله الأمران، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع، فتعين العكس.
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنَّة.
قوله: { لَهْم مَّغْفِرَةٌ } الأحسن أن يكون الخَبَرَ "لَهُمْ" و"مَغْفرةٌ" فاعل به، لأن الخبر المفرد أصل، والجار من قبيل المفردات، أو أقرب إليها.
قوله: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ }.
اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور، يعني بما في القلوب من الخير والشر.
قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض: أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ، فنزلت: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } يعني وأسروا قولكم في أمر محمد.
وقيل: إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالحال واحدة في علمه تعالى بها، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }. ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها.
قوله: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ }. في "مَنْ خَلَقَ" وجهان:
أحدهما: أنه فاعل "يَعْلَمُ" والمفعول محذوف، تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ، وبه بدأ الزمخشريُّ.
والثاني: أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى، و"مَنْ" مفعول به، أي: لا يعلم الله من خلقه.
قال أبو حيَّان: والظَّاهر أن "مَنْ" مفعول، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه، وهو الذي لطف علمه ودقّ، ثم قال: وأجاز بعض النحويين أن يكون "مَنْ" فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال: ألا يعلم الخالق سرَّكُم، وجهركُم، وهو استفهام معناه الإنكار.
قال شهاب الدينِ: "وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى، وقد أطنب مكي في ذلك، وأنكر على القائل به، ونسبه إلى ما ذكرت، فقال: وقد قال بعض أهل الزيغِ: إن "مَنْ" في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما، ولو أتت "مَا" في موضع "مَنْ" لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها، أو أظهروها خيراً كانت، أو شراً، ويقوي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ولم يقل: عليم بالمسرين والجاهرين، ويكون "مَا" في موضع نصبٍ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت "ما" في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ، وقوله: { بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } يمنع من ذلك" انتهى.
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره، والمعنى الذي أبداه، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه.
قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره: ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر "مَنْ خَلَقَ" الأشياء، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن، ويجوز أن يكون "مَنْ خَلقَ" منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله، ثم قال: فإن قلت: قدرت في "ألاَ يَعْلَمُ" مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب، وأظهر باللسان من خلق، فهلاَّ جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى: ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم؟ قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } لأنك لو قلت: ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحاً؛ لأن "ألاَ يَعْلَمُ" معتمد على الحال، والشيء لا يوقف بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: ألا يعلم السّر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد؟.
قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه، وما يخلقه.
قال ابن المسيِّب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير، وقد عصفت الريحُ، فوقع في نفس الرجل، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }؟.
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم، منها "العَلِيمُ"، ومعناه: تعميم جميع المعلومات، ومنها "الخَبِيرُ" ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها "الحَكِيمُ" ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها "الشَّهِيدُ"، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر، ومعناه: ألاَّ يغيب عنه شيء، ومنها "الحافظ" ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها "المُحصِي" ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور، واشتداد الريح، وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟ وقد قال: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }.
فصل
لما قال تعالى: { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ذكر الدليل على أنه عالم، فقال: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } الآية، والمعنى: أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية.
قال ابن الخطيب: فنقول: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة، وسكوناً، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها، وذلك غير معلومٍ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه؛ ولأن قوله: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً، وبما في الصدور.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟.
فالجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر.
قوله: { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ }.
قيل: اللطيف: العالم.
وقيل: هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال: إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب، والمراد به دقائق تدبيره لهم، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً.
قوله: { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، وكل هذا الخير الذي هيأته لك، ولا تأمن تأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم، فخافوني؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم، ولو شئت خسفت بكم.
والذَّلُولُ: المنقاد الذي يذلّ لك، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد، أي: لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة.
وقيل: يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا.
وقيل: إشارة إلى التمكن من الزرعِ، والغرس، وشق العيون، والأنهار، وحفر الآبار، وبناء الأبنية، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك.
وقيل: لو كانت مثل الذَّهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف، وكانت تبرد جداً في الشتاء.
قوله: { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا }. هذه استعارة حسنة جداً.
وقال الزمخشري: مثل لفرط التذليل، ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه، ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك.
فصل في هذا الأمر
هذا أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان.
وقيل: هو خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها، ونواحيها، وآكامها وجبالها.
وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب: "فِي منَاكبِهَا" في جبالها.
وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة. فقالت: مناكبها: جبالها، فصارت حُرَّة، فأراد أن يتزوجها، فسأل أبا الدرداء، فقال: "دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ".
وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً: في طرفها وفجاجها، وهو قول السديِّ والحسن.
وقال الكلبيُّ: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه، وأصل الكلمة: الجانب، ومنه منكب الرجل والريح النكباء، وتنكب فلان عن فلان.
يقول: امشُوا حيث أردتم، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع.
وحكى قتادةُ عن أبي الجلد: أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر ألفاً، وللروم ثمانية آلافٍ، وللفرس ثلاثة آلافٍ، وللعرب ألفٌ.
قوله: { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ }.
قال الحسن: ما أحله لكم.
وقيل: مما أنبته لكم.
وقيل: مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض "وإليْهِ النُّشورُ" المرجع.
وقيل: معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها، والأرض ذلولاً قادر على أن ينشركم، وإليه تبعثون من قبوركم.
قوله: { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ }.
تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو
{ أَأَنذَرْتَهُمْ } [البقرة: 6] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة "البقرة".
وأن قنبلاً يقرأ هنا: بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل "وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ"، وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين، وعدم ألف بينهما، وأما إذا ابتدأ، فيحقق الأولى، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم، ولم تبدل الأولى واواً، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها، وهي مفتوحة نحو "مُوجِل، ويُؤاخِذكُم"، وقد مضى في سورة "الأعراف" عند قوله تعالى:
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ } [الأعراف: 123]، وإنما عددناه تذكيراً، وبياناً.
قوله: { مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ }. مفعول "أأمِنْتُمْ" وفي الكلام حذف مضاف، أي: أمنتم خالق السماوات.
وقيل: "فِي" بمعنى "على"، أي: على السماء، كقوله:
{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71]، أي: على جذوع النخل.
وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك؛ لأنه اعتقد أن "مَنْ" واقعة على الباري، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن "مَنْ" هنا المراد بها: الملائكة سكان السماءِ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة.
وقيل: خوطبوا بذلك على اعتقادهم؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة، والذي تقدم أحسن.
قال ابن الخطيب: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب، فيكونُ أصغر منها، والعرش أكبر من السماء بكثير، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش، وهو باطل بالاتفاق، ولأنه قال:
{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 12] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: إما من في السموات عذابه، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، كما قال تعالى: { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام: 3] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله، وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله.
قوله: { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } و{ أَن يُرْسِلَ } فيه وجهان:
أحدهما: أنهما بدلان من { مَنْ فِي ٱلسَّمَاء } بدل اشتمال، أي: أمنتم خسفه، وإرساله.
قاله أبو البقاء.
والثاني: أن يكون على حذف "مِنْ"، أي: أمنتم من الخسف والإرسال، والأول أظهر.
فصل
قال القرطبيُّ: ويحتمل أن يكون المعنى: أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي: تذهب وتجيء، والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر: [الطويل]

4801 - رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى دَماً مَائِراً إلاَّ جرى في الحيَازِمِ

جمع "حيزوم" وهو وسط الصدر.
وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض، فهو المور.
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور، فتقلبهم إلى أسفل السافلين.
قال القرطبي: قال المحققُون: أمنتم من فوق السَّماء، كقوله:
{ فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [التوبة: 2] أي: فوقها لا بالمماسة والتحيُّز، لكن بالقهر والتدبير.
وقيل: معناه: أمنتم من على السماء كقوله:
{ { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [طه: 71]، أي: عليها، ومعناه أنه مدبرها، ومالكها كما يقال: فلان على "العراق"، أي: وليها وأميرها، والأخبار في هذا صحيحة، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ، لا يدفعها إلا ملحد، أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلو والعظمة، لا بالأماكن والجهات والحدود؛ لأنها صفات الأجسامِ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء؛ لأن السماء مهبط الوحْي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.
قوله { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً }.
قال ابن عباس: أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل.
وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء، لشدتها وقوتها.
وقيل: سحاب فيه حجارة.
قوله { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ }.
قيل: هاهنا النذير: المنذر، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك، والمعنى: فستعلمون رسولي، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك.
وقيل: إنه بمعنى الإنذار، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، وكيف في قوله { كَيْفَ نَذِيرِ } [ينبىء] عن ما ذكرنا من صدق الرسول، وعقوبة الإنذار.
وقد تقدم أن "نَذِير، ونكير" مصدران بمعنى الإنذار؛ والإنكار.
وأثبت ورش ياء "نذيري" وقفاً، وحذفها وصلاً، وحذفها الباقون في الحالين.
قوله: { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }. يعني كفار الأمم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي: إنكاري وتغييري: قاله الواحديُّ.
وقال أبو مسلم: النكير عقاب المنكر، ثم قال: سقطت الياء من "نَذيرِي" ومن "نَكيرِي" حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها، والمتأخرة عنها.