التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٢٢
قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٢٣
قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
-الملك

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ }.
لما ذكر ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور، وصافاتٍ: أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن.
قال شهاب الدين: "صافَّاتٍ" يجوز أن يكون حالاً من "الطَّير"، وأن يكون حالاً من "فَوقَهُمْ" إذا جعلناه حالاً، فتكون متداخلة، و"فَوقَهُمْ" ظرف لـ"صافَّاتٍ" أو لـ"يَرَوا".
قوله: "ويَقْبِضْنَ" عطف الفعل على الاسم؛ لأنه بمعناه، أي: وقابضات، فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله:
{ إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [الحديد: 18] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك.
وقول أبي البقاء: معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى، أي: يصففن ويقبضن، أي "صافَّاتٍ وقَابضاتٍ" لا حاجة إلى تقديره: يصففن ويقبضن؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل.
قال أبو حيان: "وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى:
{ فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [العاديات: 3 - 4]، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي؛ فإنه قبيح؛ نحو قوله: [الرجز]

4802 - بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ

أي: قاصد في أسواقها وجائر".
وكذا قال القرطبيُّ: هو معطوف على "صافَّاتٍ" عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: "بَاتَ يُغشِّيها" البيت.
قال شهاب الدين: هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية، ومفعول "يقبِضنَ" محذوف، أي: ويقبضن أجنحتهن.
قاله أبو البقاء، ولم يقدر لـ"صَافَّاتٍ" مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها، والظاهر أن المعنى: صافات أجنحتها وقابضات، فالصف والقبض منها لأجنحتها.
ولذلك قال الزمخشري: "صافَّاتٍ" باسطات أجنحتهن، ثم قال: فإن قلت: لم قال: ويقبضن، ولم يقل: "قابضات"؟.
قلت: لأن الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح.
قوله "مَا يُمسِكُهُنَّ". يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وأن تكون حالاً من الضمير في "يَقْبِضنَ" قاله أبو البقاء. والأول أظهر.
وقرأ الزهريُّ: بتشديد السِّين.
فصل في معنى: يقبضن
قوله: "ويَقْبِضْنَ". أي: يضربن بها لجنوبهن.
قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحية: صاف، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض، لأنه يقبضهما.
قال أبو خراش الشاعر: [الطويل]

4803 - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ

وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران.
وقوله "ما يُمسِكُهنَّ" أي: ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ }.
قال ابن الخطيب: وفيه وجهان:
الأول: المراد من "البصير" كونه عالماً بالأشياء الدقيقة، كما يقال: فلان له بصر في هذا الأمر، أي: حذق.
والثاني: أن يجري اللفظ على ظاهره، فتقول: { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فيكون رائياً لنفسه، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا: إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً، وأن كل الموجودات كذلك، فإن قيل: البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال: فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا: لا نسلم، فإنه يقال: إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات.
فصل
في قوله تعالى { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له، وقد نسبه للرحمن.
قوله: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي }.
قرأ العامة: بتشديد الميم على إدغام ميم "أمْ" في ميم "مَنْ" و"أمْ" بمعنى "بَلْ" لأن بعدها اسم استفهام، وهو مبتدأ، خبره اسم الإشارة.
وقرأ طلحة: بتخفيف الأول وتثقيل الثاني.
قال أبو الفضل: معناه: أهذا الذي هو جند لكم، أم الذي يرزقكم. و"يَنْصُركُمْ" صفة لجند.
فصل في لفظ جند
قال ابن عباس: "جُندٌ لَكُمْ" أي: حزب ومنعه لكم { يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ }، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال: هذا الذي هو جند لكم، وهو استفهام إنكاري، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن، أي: من سوى الرحمن { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب، ولا حساب.
قال بعض المفسرين: كان الكفار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون الرسول - عليه الصلاة والسلام - معتمدين على شيئين:
أحدهما: قوتهم بعددهم ومالهم.
والثاني: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ } الآية، ورد عليهم الثاني بقوله: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ } الآية.
قوله { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } شرط، جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: أفمن يرزقكم غيره.
وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله: { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } تقديره: "إن أرسل عليكم عذابه" ولا حاجة له صناعة.
فصل في معنى الآية
المعنى { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُم } أي: يعطيكم منافع الدنيا.
وقيل: من آلهتكم "إنْ أمسَكَ" يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى: { بَل لَّجُّواْ }، أي: تمادوا وأصروا "فِي عُتُوٍّ" طغيان "ونُفورٍ" عن الحق، أو تباعد أو إعراض عن الحق.
قوله: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ }. "مُكِبًّا" حال من فاعل "يمشي".
قال الواحديُّ: "أكب"، مطاوع كبه، يقال: كببته فأكب.
قال الزمخشريُّ: هو من الغرائب والشواذ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع، وما هو كذلك ولا شيء من بناء "أفعل" مطاوع، بل قولك: أكب، من باب "أنفض، وألأم" ومعناه: دخل في الكب، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع.
ومطاوع "كب، وقشع" انكب وانقشع.
قال أبو حيان: "ومُكِباً" حال من "أكب" وهو لا يتعدى، و"كب" متعد، قال تعالى
{ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ } [النمل: 90] والهمزة فيه للدخول في الشيء، أو للصيرورة، ومطاوع كب انكب، تقول: كببته فانكب. قال الزمخشريُّ: "ولا شيء من بناء "أفعل" مطاوعاً ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه" انتهى.
وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه، وما جهله من كتاب سيبويه. انتهى.
قال شهاب الدين: انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفاً بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة، وجعل يقول: إن مطاوع "كَبَّ"انكب" لا "أكب" وأن الهمزة للصيرورة، أو للدخول في الشيء، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبداً، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه، والله أعلم بصحتها: [الوافر]

4804 - وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقيم

وعلى تقدير التسليم، فالفاضل من عدت سقطاته.
قال القرطبيُّ: يقال: أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف، فإذا تعدى قيل: كبه الله على وجهه بغير ألف، وقوله: "أفَمنْ يَمْشي" هو المعادل لـ{ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً }.
وقال أبو البقاء: "وأهْدَى" خبر "مَنْ يَمِشِي" وخبر "من" الثانية محذوف.
يعني أن الأصل: أم من يمشي سوياً أهدى، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن قولك: أزيد قائم، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر، نقول: هو معطوف على "زيد" عطف المفردات، ووحد الخبر لأن "أمْ" لأحد الشيئين.
فصل
قال المفسرون: { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } منكساً رأسه لا ينظر أمامه، ولا يمينه، ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه { كَمنْ يَمْشي سويّاً } مُعتدِلاً ناظراً ما بين يديه، وعن يمينه وعن شماله.
قال ابن عباسٍ: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق، فلا يزال ينكسه على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له.
قال قتادةُ: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا، يحشره الله يوم القيامة على وجهه.
وقال ابن عباس والكلبيُّ: عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: أبو بكر.
وقيل: حمزة.
وقيل: عمار بن ياسر.
قال عكرمة: وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن، أي: إن الكافر لا يدري أعلى حق هو، أم على باطل، أي: هذا الكافر أهدى، أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق، وهو على صراطٍ مستقيمٍ وهو الإسلام.
قوله { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ }. أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } يعني القلوب.
قوله "قَلِيلاً". نعت مصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و"ما" مزيدة أي: تشكرون قليلاً، والجملة من "تَشْكُرون" إما مستأنفة، وهو الظاهر، وإما حال مقدرة؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين.
والمراد بالقلة العدم، أو حقيقتها، أي: لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى، تقول: قلَّما أفعلُ كذا، أي: لا أفعله.
قال ابن الخطيب: وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيهاً على دقيقه لطيفة، كأنه تعالى قال: أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه، فكأنكم ضيعتم هذه النعم، وأفسدتم هذه المواهب، فلهذا قال: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }.
قوله: { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانِ أولاً، ثم بصفات الإنسانِ ثانياً، وهي السمع والبصر والعقل، ثم بحدوث ذاته ثالثاً، وهو قوله { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولهذا ختم الآية بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة، فلهذا ختمها بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
فصل في معنى "ذرأكم"
قال ابن عباسٍ: خلقكم في الأرض.
وقال ابن بحر: نشركم فيها، وفرقكم فيها على ظهرها { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فيجازي كلاًّ بعمله.