التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ
٢
ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ
٣
ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ
٤
-الملك

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }.
"تبارك" تفاعل من البركة وقد تقدم.
وقال الحسنُ: تقدّس.
وقيل: دام، فهو الدائم الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لدوامه { ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } أي: ملكُ السموات والأرض في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عبَّاس: { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ }: يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء، ويُحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع.
قال ابن الخطيب: هذه اللفظة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكاً ومالكاً كما يقال: بيد فلان الأمر، والنهي، والحل والعقد، ولا مدخل للجارحة.
قال الزمخشريُّ: { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } كل موجود، وهو على كل ما لم يوجد قدير:
قوله: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. يدل على أن المعدوم شيء؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بالموجود؛ لأن القدرة مؤثرة، والعدم نفي محض، فلا يكون أثراً لها، فوجب أن يكون المعدوم شيئاً.
فصل في أنه لا مؤثر إلا قدرة الله
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا مؤثر إلا قدرة الله، وأبطلوا القول بالطَّبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالمتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجوداً لأفعالٍ نفسيةٍ، لقوله: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
فصل في وحدانية الله
دلّت هذه الآية على الوحدانية؛ لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً، فإما أن يقدر على إيجاد الشيء أولاً، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً، فيلزم كون ذلك للإله الأول لقوله { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيلزم وقوع مخلوق من خالقين، وهو محال؛ لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، ويلزم أن يستغنى بكلّ واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال.
فصل في الرد على جهم
احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، فقال: لوكان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله تعالى: { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لكن كونه قادراً على نفسه محال، فيمتنع كونه شيئاً.
والجواب: لما دلّ قوله تعالى:
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ ٱللَّهُ } [الأنعام: 109] على أنه - تعالى - شيء وجب تخصيص هذا العموم، فإذن دلّت هذه الآيةُ على أنَّ العامَّ المخصوص واردٌ في كتاب الله تعالى، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز، بل واقع.
قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ }.
قيل: خَلَق الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة، لأن الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين فقال:
{ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } [الشورى: 49].
وقيل: قدمه؛ لأنه أقدم، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنُّطف والتراب ونحوه.
وقال قتادة:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إنَّ اللَّه تعالى أذلَّ بَنِي آدَمَ بالموتِ، وجَعلَ الدُّنْيَا دَار حياةٍ ثُمَّ دَارَ مَوْتٍ، وجَعَل الآخِرةَ دَارَ جزاءٍ، ثُمَّ دَارَ بَقَاءٍ" .
وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْلاَ ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ: الفَقْرُ، والمَرَضُ والمَوتُ" .
وقيل: إنما قدم الموت على الحياة؛ لأن من نصب الموت بين عينيه، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح.
قال ابن الخطيب: قالوا: الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا في الموت.
فقيل: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقال أصحابنا: إنه صفة وجودية مضادة للحياة، واحتجوا بقوله تعالى: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ } والعدم لا يكون مخلوقاً، وهذا هو التحقيق.
وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ: أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلاَّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي على ما سيأتي.
قال ابن الخطيب: وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل، والتصوير، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا.
فصل في الموت والحياة
حكى ابنُ عباس، والكلبي ومقاتلٌ: أن الموت والحياة يجسمان، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء، ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها، فألقاها على العِجْل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.
وعن مقاتل: "خَلَقَ المَوْتَ" يعني: النُّطفة والعلقة والمُضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنساناً، ونفخ فيه الروح، فصار إنساناً.
قال القرطبيُّ: وهذا حسن، يدل عليه قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }.
قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ }. متعلق بـ"خلق".
وقوله: { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } تقدم مثله في أول "هود" [الآية 7].
وقال الزمخشريُّ هنا: "فإن قلت: من أين تعلق قوله { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }، بفعل البلوى؟ قلت: من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول: علمته هو أحسن عملاً، فإن قلت: أتسمي هذا تعليقاً؟.
قلت: لا، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً".
قال شهاب الدين: "وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل، فيقولون في: "عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ": إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ؛ لأن "نظر" يتعدى به".
فصل في اللام في قوله: ليبلوكم
قال الزَّجَّاجُ: اللام في "لِيَبْلوَكُمْ" تتعلق بخلقِ الحياة، لا بخلق الموت.
وقال الفراء والزجاج أيضاً: لم تقع البلوى على "أي" لأن فيما بين البلوى و"أي" إضمار فعل كما تقول: "بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع"، ومثله قوله تعالى:
{ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } [القلم: 40]، أي: سلهم، ثم انظر أيهم فأيهم، رفع بالابتداء، والمعنى: ليبلوكم ليعلم، أو فينظر أيكم أحسن عملاً.
قال ابن الخطيب: "أيُّكُمْ" مبتدأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
فصل في الابتلاء
الابتلاءُ: هو التجربة، والامتحان، حتى يعلم أنه هل يطيع، أو يعصي، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى:
{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [البقرة: 124].
والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر.
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي: أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً.
وقال ابن عمر:
"تلا النبي صلى الله عليه وسلم: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } حتَّى بلغ { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فقال: أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ" .
وقيل: يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره.
وقيل: خلق الله الموت للبعث، والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء "وهُوَ العَزِيزُ" في انتقامهِ ممن عصاه "الغَفُورُ" لمن تاب.
فصل فيمن قالوا: إن فعل الله يكون لغرض
احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله: "ليَبْلُوكُمْ" قالوا: وهذه اللام للغرض كقوله تعالى { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }، والجواب: أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً، فكذلك هاهنا، إنه يشبه الغرض، وإن لم يكن في نفسه غرضاً فقدم حرف الغرضِ.
قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً }.
يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ، نعتاً، أو بياناً أو بدلاً.
وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ، أو مفعول فعل مقدر.
وقوله: "طِباقَاً" صفة لـ"سَبْعَ"، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جمع طبق، نحو: جبل وجبال.
والثاني: أنه جمع طبقة، نحو: رحبة ورحاب.
والثالث: أنه مصدر طابق، يقال: طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً.
ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة، وإما على حذف مضاف، أي: ذات طباق، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: طوبقت طباقاً. من قولهم: طابق الفعل، أي: جعله طبقةً فوق أخرى.
روي عن ابن عباس: "طِبَاقاً"، أي: بعضها فوق بعض، والملتصق منها أطرافها.
قال القرطبيُّ: وقيل: مصدر بمعنى المطابقة، أي: خلق سبع سمواتٍ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً؛ لأنه مفعول ثان، فيكون "خَلَقَ" بمعنى جعل وصيّر.
وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً، فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن "سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ" بالخفض على النَّعت لـ"سماواتٍ" نظيره:
{ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ } [يوسف: 42].
فصل في الدلالة على القدرة
قال ابن الخطيب: دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه.
أحدها: من حيث بقاؤها في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة.
وثانيها: من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص.
وثالثها: أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة، والبطء إلى جهة معينة.
ورابعها: كونها في ذواتها محدثة، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
قوله { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ }. "تَفاوتٍ" هو مفعول "ترى" و "مِنْ" مزيدة فيه. وقرأ الأخوان: "تَفَوُّت" بتشديد الواو دون ألف.
قال القرطبيُّ: "وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه".
والباقون: بتخفيفها بعد ألف، وهما لغتان بمعنى واحد، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد، قاله الفرَّاء.
وقال الأخفش: "تَفَاوُتٍ" أجود؛ لأنهم يقولون: تفاوت الأمر، ولا يكادون يقولون: "تفوت".
واختيار أبي عبيد: "تفوت"، يقال: تفاوت الشيء إذا فات.
واحتج بما روي في الحديث: أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: "أمثلي يتفوت عليه في ماله".
قال النحاس: وهذا مردود على أبي عبيد، لأن "يتفوت" أي: يضاف في الحديث، "تفاوُتٍ" في الآية أشبه، كما يقال: تباين، تفاوت الأمر إذا تباين، أو تباعد، أي: فات بعضها بعضاً نقله القرطبي.
وحكى أبو زيد: تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها.
[والقياس]: الضَّمُّ كالتقابل، والفتح والكسر شاذان.
والتفاوت: عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر، وهذ الجملة المنفية صفة لقوله: "طِبَاقاً" وأصلها: ما ترى فيهن، فوضع مكان الضمير.
قوله: { ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ } تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على سببب سلامتهن، وهو أنه خلق الرحمن، قاله الزمخشري.
وظاهر هذا أنها صفة لـ"طِبَاقاً"، وقام الظاهر فيها مقام المضمر، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل.
وقال أبو حيَّان: الظَّاهر أنه مستأنفٌ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض، و"خَلق" مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف، أي: في خلق الرحمن السماواتِ، أو كل مخلوق، وهو أولى ليعم، وإن كان السياق مرشداً للأول.
فصل في معنى الآية
والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج، ولا تناقض، ولا تباين، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها، وإن اختلفت صوره وقيل: المراد بذلك السماوات خاصة، أي: ما ترى في خلق السماوات من عيب، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً، فيقع الخَلَل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرق.
وقال السديُّ: "مِنْ تفَاوُتٍ" أي: من اختلاف، وعيب بقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن.
وقيل: "التفاوت" الفطور، لقوله بعد ذلك: { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ }، ونظيره قوله تعالى:
{ وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ق: 65].
قال القفَّالُ -رحمه الله -: ويحتمل أن يكون المعنى: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } في الدلالة على حكم الصانع، وأنه لم يخلقها عبثاً.
فصل في الخطاب في الآية لمن؟
الخطاب في قوله تعالى: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ }، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ }.
فصل فيما تدل عليه الآية
دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوت السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً، فلا بد وأن يكون عالماً، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله، قال: - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص، والعيب، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل، وبعضه سفه. والجواب: أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً.
فصل في السموات السَّبع
روى البغويُّ عن كعب - رضي الله عنه - أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة، صُفْرٌ، وقال: نحاس، والخامسة: فضّة، والسادسة: ذهب، والسَّابعة: ياقوتة حمراء، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور.
قوله { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ }. مسبب عن قوله { مَّا تَرَىٰ }.
و "كرتَيْنِ" نصب على المصدر كمرتين، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته، بل التكثير بدليل قوله: { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي: مزدجراً وهو كليل، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين، ولا ثلاث، وإنما المعنى كرات، وهذا كقولهم: "لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ، ودَوالَيْك، وهَذَاذَيْكَ" لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد، إنما يريدون التكثير أي: إجابة لك بعد أخرى. وإلا تناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة؛ كقوله: [البسيط]

4791 - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ ......................

أي: قبور كثيرة ليتم المدح.
وقال ابن عطية: "كَرَّتَيْنِ" معناه: مرتين، ونصبها على المصدر.
وقيل: الأولى ليرى حسنها، واستواءها، والثانية لينظر كواكبها في سيرها، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط.
قوله: { هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ }.
هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه "فارْجعِ البصَرَ" مضمناً معنى "انظُر"؛ لأنه بمعناه، فيكون هو المعلق.
وأدغم أبو عمرو: لام "هَلْ" في التاء هنا وفي "الحَاقَّة"، وأظهرهما الباقون، وهو المشهور في اللغة.
والفطور: جمع فطرٍ، وهو الشَّقُّ، يقال: فطره فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير، كما يقال: شقّ، ومعناه: شق اللحم وطلع.
قال المفسرون: "الفُطُور" الصُّدوع والشُّقوق؛ قال الشاعر: [الوافر]

4792 - شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ

قوله: "ينقلبْ".
العامة: على جزمه على جواب الأمرِ.
والكسائي في رواية برفعه. وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حالاً مقدرة.
والثاني: أنه على حذف الفاءِ، أي: فينقلب.
و "خَاسِئاً" حال وقوله: "وهُو حَسِيرٌ" حال، إما من صاحب الأولى، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها، فتكون متداخلة. وقد تقدّمتا "خاسئاً" و"حسير" في "المؤمنين" و"الأنبياء".
فصل في تفسير الآية
لما قال: { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } كأنه قال بعده: ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر، واردد النظر مرة أخرى، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة.
قال القرطبي: أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به، ويتفكَّروا في قدرته، فقال: { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } أي: اردُدْ طرفك إلى السماء، ويقال: قلَّب بصره في السماء، ويقال: اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء، والمعنى متقارب، وإنما قال: "فارْجع" - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور؛ لأنه قال: "مَا تَرَى" والمعنى: انظر، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ، قاله قتادة.
قال مجاهد والضحاك: و"الفطور" الشقوق.
وقال قتادة: من خلل.
وقال السديُّ: من خروق.
وقال ابن عبَّاس: مِنْ وهَنٍ.
وقوله: { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } في موضع المصدر؛ لأن معناه: رجعتين.
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً، بل يتحيّر بالنظر إليها.
وقال ابن الخطيب: "معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل، والعيب، بل يرجع إليك "خَاسِئاً" أي: مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك: خسأت الكلب إذا باعدته، وطردته".
وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى، وانخسأ الكلب أيضاً، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً، أي: ستر.
قال ابن عبَّاسٍ: الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى.
وقال المبردُ هاهنا: الخاسىء المبعد المصغر.
وقوله: "وهُو حَسِيرٌ" أي: قد بلغ الغاية في الإعياء، فهو بمعنى "فاعل" من الحسور الذي هو الإعياء، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]

4793 - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا

يقال: حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كلَّ وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضاً.
قال الشاعر: [الطويل]

4794 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ

وقيل هو النادم؛ قال: [الرمل]

4795 - مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ