التفاسير

< >
عرض

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ
١٧
وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
١٨
فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ
١٩
فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ
٢٠
فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ
٢١
أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ
٢٢
فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ
٢٣
أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ
٢٤
وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ
٢٥
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ
٢٦
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ
٢٧
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ
٢٨
قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٢٩
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ
٣٠
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ
٣١
عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ
٣٢
كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
٣٣
-القلم

اللباب في علوم الكتاب

قوله { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ }. يريد أهل مكة، والابتلاء: الاختبار. والمعنى: أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا محمداً صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنَّة المعروف خبرها عندهم، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من "صنعاء"، ويقال: بفرسخين، كانت لرجل يؤدي حقَّ الله منهما، فلما مات صارت إلى ولده، فمعنوا الناس خيرها، وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها.
قال الكلبيُّ: كان بينهم وبين "صنعاء" فرسخان ابتلاهم اللَّهُ بأن أحرق جنتهم.
وقيل: جنة بصوران على فراسخ من صنعاء، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - بيسير.
وقيل: كانوا من بني إسرائيل.
وقيل: وكانوا من ثقيف، وكانوا بخلاء، وكانوا يجذون النخل ليلاً من أجل المساكين، فأرادوا حصاد زرعها، وقالوا: { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي: الليل، ويقال أيضاً للنهار: صريم، فإن كان أراد الليل، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة، وإن كان أراد بالصريم النهار، فلذهاب الشجر والزَّرْع وخلو الأرض منه، وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل - عليه السلام - فاقتلعها.
فقيل: إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيثُ مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت الطائف، وليس في أرض الحجازِ بلدة فيها الماء، والشجر [والزرع] والأعناب غيرها.
وقال البكريُّ في المعجم: سميت الطائف، لأن رجلاً من العرب يقالُ له: الدَّمُون، بَنَى حائطاً، وقال: إني قد بنيت لكم حائطاً حول بلدكم، فسميت الطائف. والله أعلم.
قوله "إذ أقْسَمُوا"، أي: حلفوا فيما بينهم "ليَصْرِمُنَّهَا" أي: ليجذُّنها "مُصْبحِيْنَ" أي: وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين "ولا يَسْتَثْنُونَ"، أي: لم يقولوا: إن شاء الله.
قوله: "مُصْبحِيْنَ" حال من فاعل "ليَصْرمُنَّها" وهو من "أصبح" التامة، أي داخلين في الصباح، كقوله تعالى:
{ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [الصافات: 137] وقوله: إذا سمعت بِسُرَى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في "كما" في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، أي: بلوناهم ابتلاء كما بلونا، و"ما" مصدرية، أو بمعنى "الذي" و"إذَا" منصوبة بـ"بَلَوْنَا" و"ليَصْرمُنَّهَا" جواب للقسم، وجاء على خلاف منطوقهم، ولو جاء لقيل: "لنَصْرمُنَّهَا" بنون المتكلم.
قوله: { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ }.
هذه مستأنفة، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي بـ "لا" كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله، كقولهم: "قمت وأصك عينه" مستغنى عنه.
ومعنى: "لا يَسْتثْنُونَ" لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين، من الثني، وهو الكف والرد؛ لأنَّ الحالف إذا قال: واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين.
وقيل: المعنى: لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ.
وقيل: لا يقولون، إن شاء الله.
قال الزمخشريُّ: وسمي استثناء وهو شرط؛ لأن معنى: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد.
قوله { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ }. أي هلاك، أو بلاء طائف، والطائف غلب في الشر.
قال الفراء: هو الأمر الذي يأتي ليلاً.
ورد عليه بقوله
{ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ } [الأعراف: 201] وذلك لا يختص بليلٍ، ولا نهارٍ.
وقرأ النخعيُّ: "طَيْفٌ".
قوله "مِن ربِّك". يجوز أن يتعلق بـ"طاف" وأن يتعلق بمحذوف صفة لـ"طَائِفٌ".
قوله: { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ }. والصرام: جذاذ النخلِ، وأصل المادة الدلالة على القطع، ومنه الصُّرم، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]

4821 - أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي

ومنه الصريمة، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً؛ قال: [البسيط]

4822 - وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ عَافٍ تَغَيَّرَ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ

والصارم: القاطع الماضي، وناقة مصرمة: انقطع لبنها، وانصرم الشهر والسنة، أي: قرب انفصالهما، وأصرم زيد: ساءت حاله، كأنه انقطع سعده.
فقوله "كالصَّريمِ". قيل: هي الأشجار المنْصَرِم حملها.
وقال ابن عباس: كالليل؛ لأنه يقال له: الصريم، لسواده، والصريم أيضاً: النهار وقيل: الصُّبحُ؛ لأنه انصرم من الليلة، قاله الأخفش. فهو من الأضداد.
وقال شمر: الصريم الليل، والصريم النهار.
وقيل: الصريم: رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً.
وقال الثوريُّ: كالزرع المحصود، فالصريم بمعنى المصروم، أي: المقطوع ما فيه.
وقال الحسنُ: صرم عنها الخير، أي: قطع، فالصريم مفعول أيضاً.
وقال المؤرج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، يقال: صريمة وصرائم، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به.
وقيل: سمي الليل صريماً؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف، ولهذا يكون "فَعِيْل"، بمعنى "فاعل".
قال القشيريُّ: وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريماً، ولا يقطع عن التصرف.
وقيل: سمي الليل صريماً؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه.
فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان.
قال القرطبيُّ: في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان. لأنهم عزموا على أن يفعلوا، فعوقبوا على فعلهم؛ ونظيره قوله تعالى:
{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ" . وقد مضى في آل عمران عند قوله: { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ } [آل عمران: 135].
قوله: { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ }.
قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: { ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ } يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: "صَارمِيْنَ"، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار.
"أن اغْدُوْا" يجوز أن تكون المصدرية، أي: تنادوا بهذا الكلام، وأن تكون المفسرة، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول.
قال الزمخشريُّ: "فإن قلت: هلاَّ قيل: اغدوا إلى حرثكم، وما معنى على؟.
قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول: غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم: يغدى عليهم بالجفنة ويراح" انتهى.
فجعل "غَدَا" متعدياً في الأصل بـ"إلى" فاحتاج إلى تأويل تعديه بـ"عَلَى"، وفيه نظر؛ لورود تعديه بـ"عَلَى" في غير موضع؛ كقوله: [الوافر]

4823 - وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ

وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بـ"عَلَى" فليعدوه بها، ومرادفه "بكر" تقول: بكرتُ عليه و"غدوتُ عليه" بمعنى واحد؛ قال: [الطويل]

4824 - بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه

قوله { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ }. جوابه محذوف، أي فاغدوا و"صارمين": قاطعين حادين.
وقيل: ماضين العزم من قولك: سيف صارم.
قوله { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ }. أي: يتشاورون فيما بينهم، والمعنى يخفون كلامهم، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد، قاله عطاء وقتادة.
وهو من خفت يخفت إذا سكت، ولم يبين.
قال ابن الخطيب: "وخَفَى وخَفَت، كلاهما في معنى الكتم، ومنه الخمود والخفاء".
وقيل: يخفون أنفسهم من الناس، حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام.
وقوله: { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } جملة حالية من فاعل "انْطَلقُوا".
قوله: { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ }.
"أنْ" مفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: يتخافتون بهذا الكلام، أي: يقوله بعضهم لبعض: { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ }.
قال ابن الخطيب: والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه من الدخول.
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة: "لا يدْخُلنَّهَا" بإسقاط "أنْ" إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين، وإما على إجراء "يَتَخافتُونَ" مجراه كقول الكوفيين.
قوله: { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ }.
يجوز أن يكون "قَادِريْنَ" حالاً من فاعل "غَدَوْا" و"عَلى حَرْدٍ" متعلق به وأن يكون "على حَردٍ" هو الحال و"قَادِريْنَ" إما حال ثانية، وإما حال من ضمير الحالِ الأول.
والحرد: قيل: الغضب والحنق. قاله السديُّ وسفيان.
وأنشد للأشهب بن رميلة: [الطويل]

4825 - أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ

قيل: ومثله: [الرجز]

4826 - إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ

عطف لما تغاير اللفظان؛ كقوله: [الوافر]

4827 -........................... وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا

قال أبو عبيدة والقتيبي: "عَلى حَرْدٍ" على منع من حاردت الناقة حراداً، أي: قل لبنها.
والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السَّنةُ: قل مطرها، وخيرها.
ويقال: حرد - بالكسر - يحرد حرداً، وقد تفتح فيقال: حَرَدَ فهو حردان وحارد، وليوث حوارد.
وقيل: الحرد، والحرود: الانفراد، يقال: حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً، أي: انعزل. ومنه كوكب حارد، أي: منفرد.
قال الأصمعي: هي لغة هذيل.
وقال القرطبيُّ: يقال: حرد يحرد حروداً، أي: تنحى عن قومه، ولم يخالطهم.
وقال أبو زيدٍ: رجل حريد من قوم حرداء، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه، وتحول عنهم.
قال الأصمعي: رجل حريد، أي: فريد وحيد، قال: والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب: [البسيط]

4828 -........................... كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ

ورواه أبو عمرو: بالجيم، قال: وهو سهيل.
وقيل: الحردُ القصد، يقال: حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً، قصداً، تقول: حردت حردك، أي: قصدت قصدك؛ قال الراجز: [الرجز]

4829 - أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ

وقال قتادة ومجاهدٌ: "عَلى حَرْدٍ"، أي: على جد وجهد.
وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة: أي: على أمر مجتمع قد أسموه بينهم.
قال البغويُّ: "وهذا معنى القصدِ".
وقال الحسنُ: على حاجةٍ وفاقةٍ.
وقيل: الحرد اسم جنتهم بعينها، قاله السديُّ.
وقال الأزهريُّ: حرد اسم قريتهم. وفيهما بعد. و"قَادِريْنَ" إما من القدرة وهو الظاهرُ، وإما من التقدير، وهو التضييق، أي: مضيقين على المساكين.
وقرأ العامة: بالإسكان.
وقرأ أبو العالية وابن السميفع: بالفتح، وهما لغتان.
فصل في تفسير "قادرين"
قال الفرَّاء: ومعنى "قادرين" قد قدروا أمرم، وبنوا عليه.
وقال قتادة: قادرين على جنتهم عند أنفسهم.
وقال الشعبيُّ: قادرين على المساكين.
وقيل: معناه من الوجود، أي: منعوا وهم واجدون.
ومعنى الآيةِ: وغدوا، وكانوا عند أنفسهم، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ.
قوله { فَلَمَّا رَأَوْهَا }. يعني الجنة محترقة، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها، وشكوا فيها، وقال بعضهم لبعض: "إنَّا لضالُّونَ" أي: ضللنا الطريق إلى جنتنا، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي، قالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء، قاله قتادة.
وقيل: "إنَّا لضالُّون" عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي: حرمنا جنتنا بما صنعنا.
روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هُيِّىء له ثم تلا: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ }" الآيتين.
قوله: { قَالَ أَوْسَطُهُمْ }، يعني أعدلهم، وأفضلهم وأعقلهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ: لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي: هلا تستثنون، وكان استثناؤهم تسبيحاً. قاله مجاهدٌ وغيره، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء، فلم يطيعوه.
قال أبو صالحٍ: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: "هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ"، أي تقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم.
وقال النحاس: أصل التسبيحِ التنزيه لله - عز وجل -، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته.
وقال ابن الخطيب: التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: "إن شاء الله" مزيل هذا النقص، فكان ذلك تسبيحاً.
وقيل: المعنى: هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم، وتتوبون إليه من خبث نيتكم.
قيل: إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول، وقال: { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا: { ِسُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين.
وقال الحسنُ: هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة، وإلا لكانت ناهية لهم [عن الفحشاء والمنكر، ولكانت داعية لهم] إلى أن يواظبوا على ذكر الله، وعلى قول إن شاء الله.
قوله { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ }. أي: يلوم بعضهم بعضاً، يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت رغبتني في جمع المال، ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا: { يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي: عاصين بمنع حق الفقراءِ، وترك الاستثناء.
وقال ابنُ كيسان: طغينا نعم اللَّهِ، فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها.
قرىء: "يبدلنا" بالتخفيف والتشديد، وهما لغتانِ.
وقيل: التبديلُ تغير الشيء، أو تغير حاله وعين الشيء قائم، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه، ثم قال: { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } أي: طالبون منه الخير راجعون لعفوه.
قال المفسرون: إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة، بزغر من أرض الشام، ويأخذ من أرض الشام جنة، فيجعلها مكانها.
وقال ابن مسعود: إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها: الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً.
وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ.
وقال الحسنُ: قول أهل الجنة: { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } لا أدري إيماناً كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة. فتوقف في كونهم مؤمنين.
وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ؟.
قال: لقد كلفتني تعباً.
والأكثرون يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا. حكاه القشيري.
قوله: { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ }. مبتدأ وخيره مقدم، أي: مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
قال ابنُ زيدٍ: "كذَلكَ العَذابُ" أي: عذاب الدنيا وهلاك الأموال.
وقيل: هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أي: كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }.
قال ابنُ عباسٍ: هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً، وأصحابه، وليرجعوا إلى أهل مكة، حتى يطوفوا بالبيت، ويشربوا الخمر، وتضرب القيانُ على رءوسهم، فأخلف الله ظنهم، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم، فخابوا.
فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل
قال ابن الخطيب: قوله تعالى
{ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [القلم: 14 - 15]، والمعنى: لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله، كلا، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم، فكيف حال من عاند الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ.
فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا؟
قيل: إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم، ويحتمل أنه كان تطوعاً، والأول أظهر.
وقيل: السورة مكية، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ، وعلى قتال بدر.