التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ
٨
وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
٩
وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ
١٠
هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ
١١
مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
١٢
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
١٣
أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ
١٤
إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٥
سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ
١٦
-القلم

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر، وقال تعالى: { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [الإسراء: 74] وقيل: فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.
قوله: { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }.
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم: "فَيُدهِنُونَ" بثبوت نون الرفع وفيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على "تُدهِنُ" فيكون داخلاً في حيز "لَوْ".
والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهم يدهنون.
وقال الزمخشريُّ: "فإن قلت: لم رفع "فَيُدْهنُونَ" ولم ينصب بإضمار "أن" وهو جواب التمني؟.
قلت: قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون، كقوله:
{ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [الجن: 13] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا" انتهى.
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان:
أحدهما: أنه عطف على التوهم، كأنه توهم أن نطق بـ"أنْ" فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية "لَوْ"، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في "البقرة".
والثاني: أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من "ودّ".
والظاهر أن "لَوْ" حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن جوابها محذوف ومفعول الودادة أيضاً محذوف، تقديره: ودوا إدهانك، فحذف إدهانك، لدلالة "لَو" وما بعدها عليه وتقدير الجواب: لسروا بذلك.
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أيضاً: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك.
وقال الفراء والكلبي: لو تلين فيلينون لك. والإدهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين. قاله الفراء والليث.
وقال مجاهدٌ: ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك.
وقال الربيع بن أنس: ودوا لو تكذب، فيكذبون.
وقال قتادة: ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا.
وقال الحسنُ: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم، وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم.
وقال زيد بن أسلم: ودّوا لو تنافق وترائي، فينافقون ويراءون.
وقيل: ودُّوا لو تضعف فيضعفون. قاله أبو جعفر.
وقال القتيبي: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم، وعنه: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.
وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى
{ لَوْ تَكْفُرُونَ } [النساء: 89] ومعنى: لو تصانعهم وقال ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم "ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون".
وقال القرطبيُّ: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الإدهان اللين والمصانعة.
وقيل: المقاربة في الكلام والتليين في القول، وقال المفضل: النفاق وترك المناصحةِ، فهي على هذا الوجه مذمومة، وعلى الوجه الأول غير مذمومة وكل شيء منها لم يكن.
وقال المبردُ: أدهن في دينه، وداهن في أمره أي: خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.
وقال قوم: داهنت بمعنى واريت، وأدهنت بمعنى غششت، قاله الجوهري، وقوله "فيُدْهِنُونَ" ساقه على العطف، ولو جاء به جواباً للنهي لقال: "فيُدْهِنُوا"، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة، وإنما هو تمثيل وتنظير.
قوله: { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ }.
قال السديُّ والشعبي وابن إسحاق: يعني الأخنس بن شريق.
وقال مجاهدٌ: يعني الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود.
وقال مقاتل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه.
وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام.
والحلاف: الكثير الحلف. و"المَهين" قال مجاهد: هو الضعيف القلب.
وقال ابن عباس: هو الكذاب، والكذاب مهين.
وقال الحسن وقتادة: هو المكثار في الشر.
وقال الكلبي: المهين: الفاجر.
وقال عبد الله: هو الحقير.
وقال ابن بحر: هو الذليل.
وقال الرماني: هو الوضيع لإكثاره من القبيح.
وهو "فعيل" من المهانة بمعنى القلة، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز، أو هو "فعيل" بمعنى "مُفْعَل" والمعنى "مُهَان".
قوله { هَمَّازٍ }، الهماز: مثال مبالغة من الهمز، وهو في اللغة الضرب طعناً باليد والعصا، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه.
قال ابن زيد: الهمَّاز: الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمّاز: باللسان.
وقيل الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللمَّازُ: الذي يذكرهم في مغيبهم.
وقال مقاتل بالعكس، وقال مرة: هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة.
قال الشاعر: [البسيط]

4811 - تُدْلِي بودٍّ إذَا لاقَيْتنِي كَذِباً وإنْ تغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ

والنميم: قيل: هو مصدر النميمة.
وقيل: هو جمعها أي اسم جنس كـ"تمرةٍ وتمرٍ"، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه، ويحرش بين الناس.
وقال الزمخشري: والنميم والنميمة: السعاية، وأنشدني بعض العرب: [الرجز]

4812 - تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّميمهْ تَمْشِي بِهَا زَهْراً إلى تَمِيْمَه

والمشاء: مثال مبالغة من المشي، أي: يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم، يقال: نَمَّ يَنِمُّ نميماً ونَمِيمَة، أي: يمشي ويسعى بالفسادِ.
وقال عليه الصلاة والسلام:
"لا يَدخُلُ الجَنَّة نَمَّامٌ" .
والعتل: الذي يعتل الناس، أي: يحملهم، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضربٍ ومنه: { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ } [الدخان: 47].
وقيل: العتل: الشديد الخصومة.
وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم.
وأنشد:

4813 - بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجالِ زَنِيمٍ غيْرِ ذِي نَجْدةٍ وغَيْرِ كَريمِ

وقيل: الغليظ الجافي.
ويقال: عَتَلْتُه وعَتنتُهُ باللام والنون. نقله يعقوب.
وقيل: العتل: الجافي الشديد في كفره.
وقال الكلبيُّ والفراء: هو الشديد الخصومة بالباطل.
قال الجوهري: ويقال: عَتَلْتُ الرجل أعْتِلُهُ وأعْتُلُهُ إذا جذبته جذباً عنيفاً. ورجل مِعْتَل - بالكسر -، والعَتَل أيضاً: الرمح الغليظ، ورجل عَتِلٌ - بالكسر - بين العتل، أي سريع إلى الشَّر ويقال: لا أنعتل معك، أي: لا أبرح مكاني.
وقال عبيد بن عمير: العتل: الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً.
والزنيم: الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم.
قال حسانُ رضي الله عنه: [الطويل]

4814 أ- زَنِيمٌ تَداعَاهُ الرِّجالُ زِيادَةً كَمَا زيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارعُ

وقال أيضاً: [الوافر]

4814 ب - زَنِيمُ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبُوهُ بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسب لَئِيمُ

وقال أيضاً: [الطويل]

4815 - وأنْتَ زَنِيمٌ نيطَ في آلِ هَاشمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْد

وأصله: من الزنمةِ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقاً في حلقها يترك عند القطع، فاستعير للدعي، لأنه كالمعلق بما ليس منه.
فصل فيمن هو الحلاف المهين
تقدم القول في "الحلاف المَهين"، عن الشعبي والسديِّ وابن إسحاقَ: أنه الأخنس بن شريق، وعلى قول غيرهم: أنه الأسود بن عبد يغوث، أو عبد الرحمن بن الأسود، أو الوليد بن المغيرة، أو أبو جهل بن هشام، وتقدم تفسير "الهَمَّاز والمشَّاء بنميمٍ".
وأما قوله "منَّاعٍ للخَيْرِ" أي: للمال أن ينفق في وجوهه.
وقال ابن عباس: يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته.
قيل: كان للوليد بن المغيرة عشرةٌ من الولد، وكان يقول لهم ولأقاربه: من تبع منكم محمداً منعته رفدي.
وقال الحسنُ: يقول لهم: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً.
وقوله "مُعْتَدٍ" أي: على الناس في الظلم، متجاوز للحد، صاحب باطل، وقوله "أثيمٍ" أي: ذا إثمٍ، ومعناه "أثُوم"، فهو "فعيل" بمعنى "فَعُول".
قال البغوي: "أثيم فاجر". وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة.
وقال - عليه الصلاة والسلام -:
"ألاْ أخْبرُكمْ بأهْلِ الجنَّةِ؟ قالوا: بَلَى، قال: كُلُّ ضعيفٍ مُتضعَّفٍّ، لَوْ أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ، ألا أخْبركُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا: بَلَى، قال: كُل عُتُلٍّ جواظٍ مستكبرٍ" وفي رواية: "كُلُّ جوَّاظٍ زَنيمٍ مُستَكْبرٍ" .
"الجوَّاظ" الجموع المنوع.
وقيل: الكثير اللحم، المختال في مشيته.
وقيل: القصير البطين.
وذكر الماورديُّ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يَدخُل الجنَّة جوَّاظ ولا جَعْظَرِي ولا العُتلُ الزَّنِيمُ" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "الجوَّاظ: الذي جمع ومنع، والجعظري: الفظ الغليظ المتكبر" .
قال ابن الأثير: "وقيل: هو الذي ينتفخ بما ليس عنده، وفيه قصر".
قال القرطبيُّ: وقال - عليه الصلاة والسلام -:
"الشَّدِيدُ الخُلقِ، الرَّحيبُ الجوْفِ، المصحُّ الأكولُ، الشَّروبُ، الواجدُ للطعامِ، الظَّلُومُ للنَّاسِ" .
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبْكِي السَّماءُ على رجُلٍ أصحَّ اللَّهُ جِسْمهَ ورحَبَ جوفه، وأعطاهُ من الدُّنْيَا بعضاً، فكانَ للنَّاسِ ظلُوماً، فذلك العُتُلَّ الزَّنِيمُ" .
وقوله "بَعْدَ ذلِكَ" أي مع ذلك، يريد ما وصفناه به "زنيم" وتقدم معنى الزنيم. وعن ابن عباس: أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة.
وروى عنه ابن جبير: أنه الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقال عكرمة: هو الذي يعرف بلؤمه، كما تعرف الشاة بزنمتها.
وقيل: إنه الذي يعرف بالأبنة، وهو مروي عن ابن عباس، وعنه: إنه الظلوم.
وقال مجاهدٌ: "زَنِيمٍ" كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة.
وعنه أيضاً وسعيد بن المسيب وعكرمة: هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم.
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.
قال الشاعر: [الوافر]

4816 - زَنِيمٌ ليْسَ يُعرفُ من أبُوهُ بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسبٍ لَئِيم

قيل: بغتْ أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن المنطقة إذا خبثت خبث الولدُ، كا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَدْخلُ الجنَّة ولدُ زِنَا، ولا ولَدُ وَلدِهِ" .
وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ أوْلادَ الزِّنَا يُحشَرُونَ يومَ القِيامةِ في صُورةِ القِرَدةِ والخَنازِيرِ" .
وقالت ميمونة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تَزالُ أمَّتِي بخيْرٍ، مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ ولدُ الزِّنَا، فإذا فَشَى فيهِمْ ولدُ الزِّنَا أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بعذابٍ" .
وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر.
قال القرطبي: ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت بُرمةٍ، ألا لا يدخلن أحد بكُراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً، أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً؛ فقيل: "منَّاعٍ للخَيرِ"، وفيه نزل:
{ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7].
وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي زنيماً. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية نُعت، فلم يعرف، حتى قتل زنيم فعرف، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها.
قال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله وصف أحداً، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة وألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
فصل
قرأ الحسن: "عُتُلٌّ" بالرفع، أي هو عتل.
وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القطع: إنه يبدأ بالإتباع، ثم بالقطع من غير عكس، وقوله: "بَعْدَ ذلِكَ" أي: بعدما وصفناه به.
قال ابن عطية: فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصفِ لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاًّ هو قبل كونه صاحب خير يمنعه.
وقال الزمخشريُّ: "بَعْدَ ذَلِكَ" أي: بعدما عد له من المثالب، والنقائصِ، ثم قال: جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه قسا قلبُه واجترأ على كل معصية.
ونظير قوله: { بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ }
{ ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ } [البلد: 17].
قوله: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ }.
العامة: على فتح همزة "أن" ثم اختلفوا بعد، فقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر وأضاف القرطبي معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج: بالاستفهام.
وباقي السبعة بالخبر.
والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق، وتسهيل، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه، ولا بد من بيان ذلك فنقول: قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي معهم المفضل: بتحقيق الهمزتين، وعدم إدخال ألف بينهما، وهذا هو أصلهما.
وقرأ ابن ذكوان: بتسهيل الثانية، وعدم إدخال ألف.
وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفاً بينهما.
فقد خالف كل منهما أصله، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله، كما تقدم أول البقرة.
وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه: "إن" بكسر الهمزة على الشرط.
فأما قراءة "أنْ" - بالفتح - على الخبر، ففيه أربعة أوجه:
أحدها: أنها "أن" المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة، واللام متعلقة بفعل النهي، أي: ولا تطع من هذه صفاته، لأن كان متمولاً وصاحب بنين.
الثاني: أنها متعلقة بـ"عُتُل" وإن كان قد وصف. قاله الفارسي.
وهذا لا يجوز عند البصريين، وكأن الفارسي اغتفره في الجار.
الثالث: أن يتعلق بـ"زَنِيمٍ"، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال.
الرابع: أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولاً، مستظهراً بالبنين كذب بآياتنا، قاله الزمخشريُّ.
قال: ولا يعمل فيه، قال: الذي هو جواب "إذا" لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملةُ من معنى التكذيب.
وقال مكيٌّ، وتبعه أبو البقاء: "لا يجوز أن يكون العامل "تُتْلَى" لأن ما بعد "إذَا" لا يعمل فيما قبلها، لأن "إذَا" تضاف إلى الجمل، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف" انتهى.
وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط، والمانع أمرٌ معنوي، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آياتِ اللَّهِ عليه بكونه ذا مالٍ وبنين.
وأما قراءة "آنْ كان" على الاستفهام، ففيها وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله، أي: أتطيعه لأن كان، أو الكون طواعية لأن كان.
والثاني: أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده، أي: لأن كان كذب وجحد.
وأما قراءة "إنْ كَانَ" - بالكسر - فعلى الشرط، وجوابه مقدر، تقديره: إن كان كذا يكفر ويجحد، دل عليه ما بعده.
وقال الزمخشريُّ: والشرط للمخاطب، أي: لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله
{ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه: 44].
وجعله أبو حيَّان من دخول شرط على شرط، يعني "إن، وإذا" إلا أنه قال: ليسا من الشروط المترتبة الوقوع. وجعل نظير ذلك قول ابن دُريْدٍ: [الرجز]

4817 - فإن عَثَرتُ بعْدها إنْ وألَتْ نَفْسِيَ مِنْ هَاتَا فَقُولاَ لاَ لَعَا

قال: "لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته".
وقرأ الحسن بن أبزى: بالاستفهام، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ، على قوله حين تليت عليه آيات الله: { أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }.
فصل في توجيه قراءة الآية
قال القرطبيُّ: فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ، أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على "زَنِيمٍ"، ويبتدىء "أنْ كَانَ" على معنى: لأن كان ذا مال وبنين تطيعه، ويجوز أن يكون التقدير: لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر، ودل عليه ما تقدم من الكلامِ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ "أن كَانَ" بغير استفهام، فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل: { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } ولا يعمل في "أن": "تُتْلَى" ولا "قَالَ"، لأن ما بعد "إذَا" لا يعمل فيما قبلها؛ لأن "إذَا" تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و"قال" جواب الجزاء، ولا يعمل فيما قبل الجزاء، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ، ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد.
قال ابن الأنباريُّ: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على "زَنيمٍ" لأن المعنى: لأن كان ذا مالٍ كان، فـ"أنْ" متعلقة بما قبلها.
وقال غيره: يجوز أن يتعلق بقوله "مشَّاءٍ بنمِيمٍ"، والتقدير: يمشي بنميم، لأن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن يتعلق بـ"عُتُلٍّ" ومعنى "أسَاطيرُ الأوَّليْنَ" أباطيلهم، وتُرهاتُهُم.
قوله: "سَنَسِمُهُ". أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها.
قال جرير: [الكامل]

4818 - لمَّا وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ

والخرطوم: الأنف، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه، والخرطوم أيضاً: الخمر، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال: هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر، قول علقمة بن عبدة: [البسيط]

4819 - قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ والقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ

وأنشد نضر بن شميل: [البسيط]

4820 - تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ

فصل في تفسير "سنسمه"
قال ابن عباس: "سَنَسِمُهُ" سنحطمه بالسَّيفِ، قال: وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف، فلم يزل محطوماً إلى أن مات.
وقال قتادةُ: سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها، يقال: وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ.
قال الضحاك: سنكويه على وجهه، وقد قال الله تعالى:
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] فهي علامة ظاهرة، وقال تعالى: { وَنَحْشُرُ ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [طه: 102] وهذه علامة أخرى ظاهرة. وأفادت هذه الآية علامة ثالثة، وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله: { يُعْرَفُ ٱلْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } [الرحمن: 41].
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ: { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } أي على أنفه، ويسودُّ وجهه في الآخرة، فعرف بسواد وجهه.
قال القرطبيُّ: "والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم: سادتهم".
قال الفراء: وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل.
وقال الطبريُّ: نبين أمره تبياناً واضحاً، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم.
وقال: المعنى: سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه.
قال القتيبي: تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء، أي: ألصق به عار لا يفارقه، كما أن السمة لا يمحى أثرها.
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم.
وقيل: ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه؛ وأهله وماله من سوء، وذل وصغار، قاله ابن بحر.
وقال النضر بن شميل: المعنى سنحده على شرب الخمر، والخرطوم: الخمر، وجمعه: خراطيم، وأنشد البيت المتقدم.
قال ابن الخطيب: "وهذا تعسفٌ".