التفاسير

< >
عرض

فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ
٣٨
وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ
٣٩
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
٤٠
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ
٤١
وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٤٢
تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٤٣
-الحاقة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ }.
قد تقدم مثله في آخر الواقعة، إلا أنه قيل هاهنا: إن "لا" نافية لفعل القسم، وكأنه قيل: لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً.
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ، وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ، فقال: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ }.
وقيل: المراد: أقسم، و"لا" صلةٌ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين: مبْصر وغير مبصر، فقيل: الخالقُ والخلقُ، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنُّ، والنعم الظاهرة، والباطنة.
وإن لم تكن "لا" زائدة، فالتقدير: لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني "جبريل"، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه.
وقال مقاتل: سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إنَّ محمداً ساحرٌ.
وقال أبو جهل: شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عقبة: كاهن، فقال الله تعالى: { فَلاَ أُقْسِمُ } أي: أقسم.
وإن قيل: "لا" نافية للقسم، فجوابه كجواب القسم.
"إنه" يعني القرآن { لقول رسول كريم } يعني جبريل. قاله الحسن والكلبي ومقاتل، لقوله:
{ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ } [التكوير: 19، 20].
وقال الكلبي أيضاً والقتبي: الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ }، وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الله - عز وجل - ونسب القول إلى الرسولِ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.
فإن قيل: كيف يكونُ كلاماً لله تعالى، ولجبريل، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟
فالجواب: أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغه للأمة.
قوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ } هو جوابُ القسمِ، وقوله: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ } معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين: أحدهما: مثبت، والآخر: منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله: { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ }، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }.
انتصب "قليلاً" في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي: إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ: "يؤمنون" و"تذكرون" و"ما" مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية: ونصب "قليلاً" بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه: "تؤمنون"، و"ما" يحتملُ أن تكون نافية، فينتفى إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان: أما قوله: "قليلاً نصب بفعل" إلى آخره، فلا يصح؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه "تؤمنون" إما أن تكون "ما" نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه "تؤمنون" المنفي بـ"ما" يكون منفياً، فيكونُ التقدير: ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي بـ"ما" لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز "زيداً ما أضربُه" على تقدير: "ما أضْربُ زيداً ما أضربه"، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ بـ"قليلاً" على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانكم، ويبقى "قليلاً" لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
قال شهابُ الدين: لا يُريد ابن عطية بدلالةِ "تؤمنون" على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله: "زيداً ما أضربه" أي: "ما أضرب زيداً ما أضربُه" وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة "الأعراف" فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ: "والقّلةُ في معنى العدم، أي: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة".
قال أبو حيَّان: ولا يُرادُ بـ"قليلاً" هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلاَّ في "أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ"، وفي "قل" نحو "قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ" وقد يستعمل في "قليلة"، و"قليلة" إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر: [الطويل]

4853 -........................ قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا

أما إذا كان منصوباً نحو: "قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت" على أن تكون "ما" مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ؛ لأنه في "قليلاً ضربت" منصوب بـ"ضربت"، ولم تستعمل العرب "قليلاً"، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في "قليلاً ما ضربت" على أن تكون "ما" مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع "قليل"؛ لأن "ما" المصدرية في موضع رفع على الابتداء. انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين: "وهذا مجرد دعوى".
وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان: "يؤمنون، يذكرون" بالغيبة حملاً على "الخاطئون" والباقون: بالخطاب، حملاً على "بما تبصرون".
وأبيّ: وتتذكرون "بتاءين".
فصل في القرآن الكريم
قوله: { وما هو بقول شاعرٍ }؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها، { ولا بقول كاهنٍ }؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم.
وقوله: { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ }، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله.
وقيل: إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً، ولا يتممون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{ إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } [المدثر: 18] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر: 24].
وقال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعربُ يقولون: قلّ ما تأتينا، يريدون لا تأتينا.
قوله: { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، هذه قراءةُ العامة، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ وتقدم مثله.
وأبو السِّمال: "تنزيلاً" بالنصب على إضمار فعل، أي: نزل تنزيلاً.
قال القرطبي: وهو عطفٌ على قوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي: إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.