التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ
٤٤
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ
٤٥
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ
٤٦
فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
٤٧
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ
٤٨
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ
٤٩
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٥٠
وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ
٥١
فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ
٥٢
-الحاقة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَلَوْ تَقَوَّلَ }، هذه قراءةُ العامَّة، "تَفعَّل" من القول مبنيًّا للفاعل.
قال الزمخشريُّ: "التقوُّلُ، افتعالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المفتعل".
وقرأ بعضهم: "تُقُوِّلَ" مبنياً للمفعول.
فإن كان هذا القارىءُ رفع بـ"بَعْضَ الأقاويل" فذاك، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده.
وقرأ ذكوانُ وابنه محمد: "يَقُولُ" مضارع "قَالَ".
و"الأقاويل" جمعُ: "أقوال"، و"أقوال" جمع: "قول"، فهو نظير: "أبَاييت" جمع: "أبياتٍ" جمع "بيتٍ".
وقال الزمخشريُّ: وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: "الأعاجيب" و"الأضاحيك"، كأنها جمع "أفعولة" من القول.
والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله "لأخذْنَا مِنْهُ باليَميْنِ" أي: لأخذناه بالقوة، و"الباء" يجوز أن تكون على أصلها غير مزيدة، والمعنى لأخذناه بقوة منا فـ"الباء" حالية، والحالُ من الفاعل، وتكون "من" في حكم الزائدةِ، واليمينُ هنا مجاز عن القوة والغلبة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه.
قال القتبي: وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد.
ومنه قول الشماخ: [الوافر]

4854 - إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ

قال أبو جعفر الطبري: هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب.
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً، والمعنى: لأخذنا يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه، ويضرب بالسَّيف، في جيده موجهة، وهو أشد عليه.
قال الحسن: لقطعْنَا يدهُ اليمنى.
وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف.
وقال السدِّي ومقاتل: والمعنى: انتقمنا منه بالحقِّ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق، كقوله تعالى:
{ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ } [الصافات: 28] أي: من قبل الحق.
قوله: { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ }. وهو العِرْق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قُطعَ مات صاحبُه.
قاب أبو زيد: وجمعه الوُتْن، وثلاثة أوتِنَة، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه.
وقال الكلبي: هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم، وهما علباوان، وإن بينهما العِرْق.
والعِلْباء: عصب العنق.
وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر.
قال الشماخُ: [الوافر]

4855 - إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ

وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر، وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه.
وقال محمدُ بن كعب: إنه القلبُ ومراقه، وما يليه.
وقال عكرمة: إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف.
قال ابن قتيبة: ولم يرد أنا نقطعه بعينه، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه.
ونظيرهُ قوله صلى الله عليه وسلم:
"مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي" "والأبَهَرُ": عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه، فكأنه قال: هذا أوانُ يقتلني السُّم، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره.
قوله: { فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }.
في "حاجزين" وجهان:
أحدهما: أنه نعت لـ"أحد" على اللفظ، وإنما جمع المعنى، لأن "أحداً" يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي، قاله الزمخشري والحوفيُّ.
وعلى هذا فيكون "مِنْكُم" خبراً للمبتدأ، والمبتدأ في "أحد" زيدت فيه "مِنْ" لوجود شرطها.
وضعفه أبو حيَّان: بأن النفي يتسلَّط على كينونته "منكم"، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به.
والثاني: أن يكون خبراً لـ"ما" الحجازية، و"من أحد" اسمها، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و"منكم" على هذا حالٌ، لأنه في الأصل صفة لـ"أحد" أو يتعلق بـ"حاجزين" ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع، لا يجوز: "ما طعامك زيداً آكلاً"، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان، و"عنه" يتعلق بـ"حاجزين" على القولين، والضمير للمقتول، أو للقتل المدلول عليه بقوله: "لأخذْنَا، لقطعنا".
قال القرطبيُّ: المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى
{ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة: 285] هذا جمع لأن "بين" لا تقع إلا على اثنين فما زاد، قال عليه الصلاة والسلام: "لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ" .
لفظه واحد، ومعناه الجمع، و"من" زائدة.
والحَجْز: المنع، و"حَاجزيْنَ" يجوز أن يكون صفة لـ"أحد"، على المعنى كما تقدم، فيكون في موضع جر، والخبر "منكم"، ويجوز أن يكون منصوباً، على أنه خبر، و"منكم" ملغى، ويكون متعلقاً بـ"حاجزين"، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في "إنَّ فيك زيداً راغبٌ".
قوله: { وَإِنَّهُ }. يعني: القرآن { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }، أي: الخائفين الذين يخشون الله، ونظيره
{ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2].
وقيل: المراد محيمد صلى الله عليه وسلم أي: هو تذكرة ورحمة ونجاة.
{ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ }.
قال الربيع: بالقرآن، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ } يعني: القرآن { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله.
والحسرة: الندامة.
وقيل: "إنه لحسرة" يعني: التكذيب به، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة "السَّفيه" فيه في قوله: [الوافر]

4856 - إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ

أي: إلى السَّفهِ.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب: وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية، على أنَّ الكُفر ليس من الله؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين، ولم يقل: إنه ضلالٌ للمكذبين؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله: { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ }.
والجوابُ: ما تقدم.
قوله: { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } يعني: القرآن العظيم، تنزيل من الله - عز وجل - فهو كحق اليقينِ.
وقيل: حقًّا يقيناً لا بطلان فيه، ويقيناً لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد، قاله ابن الخطيب.
وقال القرطبيُّ: قال ابنُ عبَّاسٍ: إنما هو كقولك: عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف.
وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
وقوله: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }.
قال ابن عبَّاس: أي: فَصَلِّ لربِّك وقيل: نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ سُورةَ الحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حِسَاباً يَسِيراً" .
وعن فُضالةَ بنِ شريك، عن أبي الزاهرية قال: سمعته يقول: "مَنْ قَرَأ إحدى عَشْرَةَ آيةً من سُورةِ الحاقَّةِ، أجِير من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ ومنْ قَرَأها، كَانَ لَهُ نُوراً مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ إلى قَدَمَيْهِ" .