التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِٱلسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
١٣٠
فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَلاۤ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللَّهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٣١
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
١٣٢
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
١٣٣
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ
١٣٤
فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
١٣٥
فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٣٦
وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
١٣٧
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

لما قال موسى لقومه: { { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } [الأعراف:129] بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر.
"والسِّنينَ": جمعُ سنة، وفيها لغتان أشهرهما: إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة.
قال النُّحَاةُ: إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامة المحذوفةِ، وسيأتي في لامه كلامٌ، واللغة الثانيةُ: أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً. نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ. ثم لك فيها لغتان: إحداهما: ثبوتُ تنوينها. والثانية: عدمهُ.
قال الفرَّاءُ: هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر، وغير مصروفة عند بني تميم، ووجه حذف التنوين التَّخفيف، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله: [الطويل]

2547 - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ لَعِبْنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا

وجاء في الحديث: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ" "وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ" باللُّغتين، وفي لام سَنَةٍ لغتان، أحدهما: أنَّهَا واو لقولهم: سنوات وسَانَيْتُ، وسُنَيَّةٌ. والثانية: أنَّها هاء لقولهم: سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة، وليس هذا الحكمُ المذكور أعني: جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ "سِنينَ" بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو: ثُبَةٍ وثُبين، وقُلة، وقُلينَ.
فصل
قال شهابُ الدِّين: وتَحرَّزْتُ بقولي: حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه، نحو: لِدة وعِدَة.
وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبًى، وقد شَذَّ قولهم: لِدُونَ في المحذوف الفاء، وظِبُونَ في المكسَّر.
قال: [الوافر]

2548 - يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا

واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ، ولم تُغَيَّر نحو: مائة ومئين، وفئة وفئين، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو: سنين، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدًّا، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان: أعني السَّلامة، والكسر نحو: ثُبين وقُلين.
قال أبُو عَلِي: السَّنة على معنيين: أحدهما: يراد بها العام. والثاني: يراد بها الجدْب.
وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا: أسْنَتَ القَوْمُ.
قال: [الكامل]

2549 - عَمْرُو الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ

وقال حاتم الطائِيُّ: [الطويل]

2550 - فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا

ويُؤيِّدُ ذلك ما في سورة يوسف [الآية 47]: { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً
} ثم قال: { سَبْعٌ شِدَادٌ } فهذا في الجدب.
وقال: { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ }.
وقوله: "مِنَ الثَّمَرَاتِ" متعلِّق بـ "نَقْصٍ".
قال قتادةُ: أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار.
"لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ" يتَّعظون، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب، وترغب فيما عند اللَّهِ.
قال تعالى:
{ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [فصلت: 51].
فصل
قال القاضي: هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم، وأجاب الواحديُّ: "بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ، بل إنَّه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء، والامتحان، فكذا ههنا".
ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ، والمعصيةِ.
فقال: { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ }.
قال ابْنُ عبَّاسٍ: يُريد بالحسنةِ: العُشْبَ، والخصب، والمواشي، والثِّمار وسعة الرزق، والعافية، أي: نحن أهلها ومستحقُّوها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق النِّعمة. { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي: قَحْط وجدْب وبلاء ومرض: { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } أي: يتشاءمُوا بموسى، ومن معه، ويقولُوا: إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه.
قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ: كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط.
فصل
أتى في جانب الحَسَنَةِ بـ "إذا" الَّتي للمحقق، وعُرِّفَتِ الحسنة، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى، ولأنَّها أمر محبوبٌ، كلُّ أحدٍ يتمناه، وأتى في جانب السيئة بـ "إن" التي للمشكوك فيه، ونُكِّرتِ السيئة، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال: فإن قلت: كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمُ الحسنةُ بـ "إذا" وتعريفُ الحسنة و "إِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ" بـ "إن" وتنكير السيئة؟
قلت: لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب، لكثرته واتِّساعه، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ، ولا يقع إلاَّ شيء منها، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ.
قوله "يَطَّيَّرُوا" الأصْلُ: "يتطيَّروا" فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ، لمقاربتها لها.
وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ: وطلحةُ بنُ مصرف "تَطَيَّرُوا" بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ. إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً، والجزاءُ ماضياً إلاَّ ضرورةً، كقوله: [الخفيف]

2551 - مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ

وقوله: [البسيط]

2552 - إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا

وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك. والتَّطير: التَّشاؤُم، وأصلُهُ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه، ثمَّ أطلق على الحَظِّ، والنَّصيب السَّيِّىء بالغَلبَةِ.
وأنشدوا للبيد: [الوافر]

2553 - تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ

الأشْرَاكُ جمع شِرْكٍ، وهو النَّصيب. أي: طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ: أي: الرِّئاسة للذكر، فهذا معناه: تَفَرَّق، وصار لكُل أحد نصيبُه، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ، ثم غلبَ على ما ذكرناه.
قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } أي حَظُّهم، وما طار لهم في القضاء والقدر، أو شؤمهم أي: سبب شؤمهم عند الله، وهو ما ينزله بهم.
قال ابن عباس: يريد شُؤمَهُمْ عند الله، أي من قِبَل الله، أي: إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ.
قال الفَرَّاءُ: وقد تَشَاءَمت اليهود بالنبي - عليه السلام - بـ "المدينة"، فقالوا: غَلَتْ أسْعَارُنَا، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا، وكثرت أمواتنا.
ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة، فقال:
"لا طيرة ولا هامة" - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ.
وأصل الفَألِ: الكلمة الحسنة، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً، فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم الفَألَ، وأبطل الطِّيرةَ. والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها؛ بخلاف طيرانِ الطير، وحَرَكَاتِ البهائم، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال، ثم قال تعالى: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [أي]: أن الكل من الله تعالى؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الأسبابِ المحسوسة، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدره، والحق أن الكل من الله؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته، أو ممكن لذاته، والواجب لِذَاتِهِ واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته، فكان الكل من الله - تعالى -، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى.
قال الأزهريُّ: قيل للشُّؤم طائر وطير، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها.
قال القُرْطُبِيُّ: وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلّ مَنْ تشاءم: تَطَيَّر. وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ: وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءم بالبَارحِ: وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ. وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك.
ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْا صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها.
فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائرٍ ما كان، وعلى أيّ حال كان؛ فقال عليه الصلاة والسلام:
"أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا" وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم، وإن أخذت شمالاً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم، فنهى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذا بقوله "أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا" . هكذا في الحديث.
وأهل العربيَّة يقولون: "وكناتِهَا"، والوكْنَةُ: اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ. والوَكْنُ: اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ، وهُو الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ.
ويقال: وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً: دخل في الوَكْنِ، ووكن بَيْضَهُ، وعليه: حضنه، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ.
وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ.
قيل: وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ.
قال: أنْ يقُولَ أحَدُكم: اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ إله غَيرُك، ثُمَّ يمضي إلى حاجته"
.
قوله { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا }. لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة.
وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء.
"مَهْمَا" اسمُ شرطٍ يجزم فعلين كـ "إنْ" هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً.
كقوله: [الرجز]

2554- مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهْ؟ أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ

يريد: ما لي اللِّيلة ما لي؟ والهاءُ للسَّكت. وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان؛ وأنشد: [الطويل]

2555 - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا

وقول الآخر: [الكامل]

2556- عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ

وقول الآخر: [الكامل]

2557 - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي مَهْمَا يَعِشْ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ

قال: فـ "مَهْمَا" هنا ظرف زمان، والجمهور على خلافه، وما ذكره متأوّل، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك.
فقال: وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدَ له في علم العربية، فيضعها في غير موضعها ويحسب "مَهْمَا" بمعنى "متى ما".
ويقولُ: مَهْمَا جئتني أعطيتك، وهذا من كلامِهِ، وليس من واضع العربية، ثم يذهبُ فيفسِّر: { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ } [الأعراف: 132] بمعنى الوقت، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ، وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه.
قال شهابُ الدِّين: هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ.
وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ: جميع النَّحويين يقول إنَّ "مَهْمَا" و "مَا" مثل "مَنْ" في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف، مع أنَّ استعمالهما ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب. وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة
وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما. وهي اسمٌ لا حرفٌ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها، ولا يعودُ الضَّمير على حرف؛ لقوله: { مَهْمَا تَأتِنَا بِهِ } فالهاءُ في "بِهِ" تعود على "مَهْمَا" وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّها قد تأتي حرفاً.
واختلف النَّحويون في "مَهْمَا" هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هي مركبة مِنْ "مَا مَا" كُرِّرَتْ "ما" الشَّرطيَّة توكيداً، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف "ما" الأولى هاء.
وقيل: زيدت "ما" على "ما" الشَّرطية، كما يُزَادُ على "إنْ"ما" في قوله: "فَإمَّا يَأتينَّكُم".
فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة.
وقال قَوْمٌ: هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر، و "مَا" الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً.
وقال بعضهم: لا تركيب فيها هنا، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ، ثم قالوا { مَا تَأتِنَا بِهِ } ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ.
قال شهابُ الدِّين: "وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة".
وقال قومٌ: إنَّهَا مركَّبةً من "مَهْ" بمعنى اكفف و "مَن الشَّرطيَّةِ"؛ بدليل قول الشاعر: [الطويل]

2558 - أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ

فأبْدِلَتْ نونُ "مَنْ" ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة، والتَّنوين ألفاً، وهذا ليس بشيء بل "مَهْ" على بابها من كونها بمعنى: اكْفُفْ، ثم قال: مَنْ يستمعُ.
وقال قوم: بل هي مركَّبة مِنْ "مَنْ" و "مَا" فأبدلت نونُ "مَنْ" هاءً، كما أبدلوا من ألف "ما" الأولى هاءً، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء، وإن افترقَا في شيء واحد، ذكره مكيٌّ.
ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً؟ والنَّصْبُ من وجهين:
أظهرهما: على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ، والتقديرُ: مَهْمَا تُحْضِر تَأتِنَا، فـ "تَأتِنَا" مُفَسِّر لـ تُحْضر، لأنَّهُ من معناه.
والثاني: النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و "بِهَا" عائدان على "مَهْمَا"، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ، والثاني المعنى، فإنَّ معناها الآية المذكورة، ومثله قول زُهَيْرٍ: [الطويل]

2559 - وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خَلِيقةٍ وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ

ومثله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [البقرة: 106] فأعَادَ الضَّمير على "ما" مؤنثاً، لأنَّهَا بمعنى الآية.
وقوله: "فَمَا نَحْنُ" يجوز أن تكون "ما" حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم.
فصل
قال ابْنُ عباس، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق:
لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ } [الأعراف: 132] فهو سِحْرٌ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً، فعند ذلك دَعَا عليهم فقال: يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء، وبيوت بني إسرائيل، وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قَامُوا في المَاءِ إلى تراقيهم، ومن جَلَسَ منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت.
فقالوا لموسى: ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر؛ فنُؤمِنُ بك، ونرسل معك بني إسرائيل.
فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط، وأخصبت بلادهم.
فقالوا: ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد.
وقالوا: لا نُؤمِنُ بك، ولا نرسل معك بني إسرائيل؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ، فأكل عامَّة زرعهم، وثمارهم، وأوراق الشَّجَرِ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم، وابتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى.
وقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة.
فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام، وفي الخَبَرِ "مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم" فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد؛ فألقاه في البحر.
وقيل: إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت.
وكانت قد بقيت من زروعهم، وغلاتهم بقيّة.
فقالُوا: قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا، فأقَامُوا شَهْراً في عافية.
فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته.
فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا.
فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته، ويهم أن يتكلَّم، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ.
فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ، فَدَعَا اللَّهَ تعالى فأمات الضَّفادع، فأرسل عليها المطر؛ فأحملتها، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم.
فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً، فما يستقون من الآبار والأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر، فَشَكَوْا إلى فرعون.
فقال: إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً، وما يَلِي القبطي دماً، ويقومان إلى البُحَيْرة فيها الماء، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً، حتى كانت المرأةُ من آل فرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ: اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها؛ فيعود دماً في الإناء، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً، فإذا مَجّته في فِيهَا؛ صَارَ دَماً، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُهَا في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: يا مُوسى { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ } [134]. إلى آخر الآية.
الطُّوفان فيه قولان:
أحدهما: أنَّهُ جمع: طُوفَانة، أي: هو اسمُ جنس كـ: قمح وقمحة، وشعير وشعيرة.
وقيل: هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحَان، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ.
وقال: هو "فُعْلان" من الطَّواف، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ، وواحدته في القياس "طُوفَانَة"؛ وأنشد: [الرمل]

2560 - غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ

والطُّوفان: المَاءُ الكثير، قاله اللَّيْثُ؛ وأنشد للعجّاج: [الرجز]

2561 - وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا

شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة. وقال أبُو النَّجْمِ: [الرجز]

2562 - وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا

وقيل: الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ: ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعةِ من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ، والقَتْلِ الذَّريع، والمَوْتِ الجارفِ، قاله الزَّجَّاجُ.
وقد فَسَّرَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالموتِ تارةً، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى، وتلا قوله:
{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [القلم: 19] وهذ المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في "طَائِفَة" إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة.
والجَرَادُ معروف، وهو جَمْعُ: جَرَادةٍ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء.
يقال: جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى، كـ: نَمْلَة، وحمامة.
قال أهلُ اللُّغَةِ: وهو مشتقٌّ من "الجَرْدِ".
قالوا: والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً.
يقال: أرْضٌ جَرْدَاء، أي: مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ، إذا ذَهَبَ زئبره.
فصل
قال القرطبيُّ: اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ.
فقيل: يُقتل، لأنَّ في تركها فساد الأموال، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتال المسلم إذا أخذَ ماله، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة، والعقرب؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ.
وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذَا دَعَا على الجراد قال:
"اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ، وأفْسِد بيضَه، واقطع دابرهُ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَميعُ الدّعاءِ" .
فقال رجل: يَا رسُول اللَّهِ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره؟
قال: "إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ". وهذا قول جمهور الفقهاءِ.
وقيل: لا يُقْتَلُ، لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ.
وقد رُوِي
"لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ" .
والقُمَّلُ: قيل: هي القِرْدَان، وقيل: دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا.
وقال سعيدُ بن جبير: هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة.
وقال ابْنُ السِّكِّيت، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ؛ فيأكل السُّنبلة، وهي غضة قبل أن تقوى، وحينئذٍ يطولُ الزَّرْعُ ولا سنبل له.
وقيل: إنَّهَا الحمنان الواحدة: حَمْنَانَة، نوع من القِرْدَان.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى "بعين شمس" فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا قراءة الحسن "والقَمْل" بفتح القاف وسكون الميم، فيكونُ فيه لغتان: "القُمَّل" كقراءة العامةِ و"القَمْل" كقراءة الحسن البصري.
وقيل: القملُ البراغيث، وقيل: الجعلان.
والضفَادعُ: جمع ضِفْدَع، بزنة دِرْهَم، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة "زِبْرِج" وقدْ تُبْدَلُ عَيْنُ جمعه ياء، كقوله: [الرجز]

2563 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ

وشَذَّ جمعُهُ على: ضِفْدَعَات، والضِّفْدَعُ: مؤنَّث، وليس بمذكر، فعلى هذا يُفَرَّقُ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ.
فيقال: ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث، نحو حمامة، وجرادة، ونملة.
فصل
روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال: نَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن قتل: الصُّرَدِ والضِّفْدَعِ، والنَّمْلَةِ، والهُدْهُدِ. ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ، فكان الصُّرَدُ دليلة إلى الموضعِ، والسكينةَ مقداره، فلمَّا صار إلى البقعَةِ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت: ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي.
فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن قتل الصُّرَدِ؛ لأنه كان دليل إبراهيم، وعن قتل الضّفدع؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ إبراهيم، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت، وأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله، ولكن نار يسعرها الله بها؛ فَجَعَلَ "نقيقها" تسبيحاً.
والدَّم ذكرناه وهو معروف.
قال زيد بنُ أسلم: الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف، ونقله الزمخشريُّ.
قوله: "آيَاتٍ مفصّلات". آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ مميزاً بعضها من بعض، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان:
أحدهما: مُفَصَّلات أي: مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره.
وقيل: مُفَصّلات أي: فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة، أو يستمرون على المُخالفةِ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ }.
فصل
فإن قيلَ: لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ، فما الفائدة في تواليها؟ وقوم مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق؟
فالجوابُ: قال بعضُ أهل السُّنَّةِ: يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريد.
وقال آخرون: إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد. وأجاب المُعتزلَةُ: برعاية الصالح، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً. فظهر الفرقُ.
قوله: { وَلَمَّا وَقَعَ عليْهِمُ الرِّجْزُ }، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ، وغيره.
وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: الطاعون.
وقيل: مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد. وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله:
{ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 59].
قوله { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ }. يجوزُ في هذه الباءِ وجهان:
أظهرهما: أن تتعلَّق بـ ادْعُ أي: ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به.
والثاني: أنَّهَا باء القسم.
قال الزمخشريُّ: والباء إمَّا تتعلَّق بـ "ادْع" على وجهين:
أحدهما: أسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً بـ "لنُؤمِنَنَّ" أي: "أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك".
فصل
اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيًّا مجاب الدَّعْوَةِ، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه.
وقوله: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ }. أي: العذاب. إلى أجلٍ فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّقَ بـ "كَشَفْنَا" وهو المشهور، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه "لَمَّا" يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول.
لا يُقالُ: لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرَى كَذَا، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمعة اتَّفق كذا، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا: وقتُ إيمانهم، وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المرادُ بالكشفِ: استمرارَ رفع الرِّجْزِ.
كأنه قيل: فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجلٍ، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ "الأجَلَ" بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه، وإنَّما احتاج إلى ذلك، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم، أو غرقهم؟
والثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من "الرِّجز" أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل، والمعنى: أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً.
قال أبُو حيَّان: وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب "لمَّا" جاء بـ "إذا" الفجائية أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن.
قوله: "هم بَالِغُوهُ" في محلِّ جرٍ صفة لـ "أجَلٍ" والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم.
وقوله: { إِذَا هُمْ يَنكُثُون } هذه "إذَا" الفُجَائيَّةِ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً: و "هُمْ" مبتدأ، و "ينكُثُونَ" خبره، و "إذَا" جوابُ "لمَّا" كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور.
قال الزمخشريُّ: { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } جواب "لَمَّا" يعني: فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا.
قال أبُو حيان: "ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير". انتهى. يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار، كما تقدَّم، حتَّى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في "لَمَّا" أنَّهَا ظَرْفٌ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل، وما بعد "إذَا" لا يعمل فيما قبلها، كما تحرَّر في موضعه.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هاشم "يَنْكِثُون" بكسر الكاف، والجمهور على الضَّمِّ، وهما لغتان في المضارع.
والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصله: مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً، وذلك المنكوث: نِكثٌ كـ: ذِبْح، وَرِعْي. والجمعُ: أنكاث، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات.
قوله: "فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ" هذه الفاءُ سببيَّة، أيْ: تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغراق، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير: فَأرَدْنَا الانتقام، والانتقام في اللُّغَةِ: سلب النعمة بالعذابِ.
و "في اليمِّ" متعلق بـ "أغْرَقْنَاهُم"، واليَمّ: البحر، والمشهور أنَّهُ عربيّ.
قال ذو الرُّمَّة: [البسيط]

2564 - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا يَمٌّ تراطَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ

وقال ابْنُ قتيبةَ: إنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ.
وقيل: بالعبرانيَّة. والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري: اليَمّ: البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره.
وقيل: هو لُجَّة البحر ومعظم مائه.
وقال الهروِيُّ - في "غريبيه" -: واليَمُّ: البَحْرُ الذي يقالُ له: إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ. وهذا ليس بجيد، لقوله تعالى:
{ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ } [القصص: 7] والمرادُ: نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون.
فصل
قيل: واشتقاقه من التيمم، وهو القصد، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه.
قوله: "بِأنَّهُمْ" الباء للسببيّة، أي: أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا، وكونهم عَنْهَا غافلين، أي: غَافِلينَ عن آياتنا، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات، وهذا هو الظَّاهِرُ.
وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره.
وقيل: يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها بـ "انتَقَمْنَا" ويُعْزَى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ أنَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان.
وقال الجمهور: إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة، فَذُمّوا عليها، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه.
فصل
قوله: "وَأوْرَثْنَا" يتعدى لاثنين، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو: وَرِثْتُ أبي، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ.
فأولهما: القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له.
وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أنَّهُ "مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا".
وفي قوله: { ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } على هذا وجهان: أحدهما: أنَّه نعتٌ لـ:مشارق ومغارب. والثاني: أنَّهُ نعتٌ للأرض، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ.
وهو نظيرُ قولك: قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ.
وقال أبُو البقاءِ هنا: وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ. وهذا سبْقُ لسان أو قلم، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ، بل على ما أضيف إلى الموصوف.
والثاني من الأوجه الثلاثة: أن المفعول الثاني هو: { ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } أي: أورثناهم الأرض التي باركنا فيها.
وفي قوله تعالى: { مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } وجهان: أحدهما: هو منصوبٌ على الظّرْف بـ "يُسْتَضْعَفُونَ". والثاني: أنَّ تقديره: يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه؛ فنصب، هكذا قال أبو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين: ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ بـ "في" فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين؟
الوجه الثالث: أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ، تقديره: أورثناهم الأرضَ، أو الملكَ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ، أي: يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى: وَجَدَهُ ذَا كَذَا، والمُرَادُ بالأرْضِ: أرَضُ الشَّام.
وقيل: أرض مصر، لأنها أرض القبط.
وقيل: مصر والشَّام، ومشارقها، ومغاربها جهات المشرق، والمغرب { ٱلَّتِي بَاركْنَا فِيهَا } بإخراج الزَّرع، والثِّمار، والأنهار.
وقيل: المرادُ جملة الأرض؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ.
قوله: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ }. قرأ الحسنُ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع.
قال الزمخشريُّ: ونظيره:
{ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } [النجم: 18]. يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ.
قال أبُو حيَّان: ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير: لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ، وهو أبلغُ.
قال شهابُ الدِّين: في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو
{ مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18] وهذه الآية، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى: قوله: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 5] إلى قوله: { مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ } [القصص: 6] والحُسْنَى: تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة.
وقيل: معنى تمام الكلمةِ: إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بإهلاك عدوهم. ومعنى: "تَمَّتْ" أي: مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم: تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه.
قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق بـ "تَمَّتْ" والبَاءُ للسببيَّةِ و "مَا" مصدريةٌ، أي: بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي: على أذَى فرعون وقومه.
قوله: { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ }. يجوزُ ههنا أوجه: أحدها: أن يكون فِرْعَونُ اسم كان، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم، والجملةُ الكونيَّة صلةُ "ما" والعائد محذوف، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه.
فقال: لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك: قام زيدٌ. يعني: أنَّ قولك: "قَامَ زَيْدٌ" يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ "قام" فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ، وزيد: مبتدأ مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل، فكذا هنا؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ.
وقال: ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ: يقومُ زيدٌ، على الابتداء والخبر، والتَّقديم والتَّأخير، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ.
وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادىء الرأي، فإنه كـ: باب الابتداء، والخبر، ولكن الجَواب عن ذلك: أنَّ المانع في "قَامَ زيدٌ" هو اللَّبس، وهو مفقودٌ هَهُنَا.
الثاني: أنَّ اسمَ "كان" ضميرٌ عائدٌ على "مَا" الموصولة، ويَصْنَعُ مسندٌ لـ "فِرْعَوْن" والجُملةُ خبر "كان" والعائدُ محذوف أيضاً، والتَّقديرُ: ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون.
الثالث: أن تكون "كان" زائدةً و "مَا" مصدرية والتقديرُ: ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون. أي: صُنْعَهُ، ذكره أبُو البقاءِ.
قال شهابُ الدِّين: وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً، وإن كانت "مَا" موصولة اسمية، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ: ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون.
الرابع: أن "ما" مصدرية أيضاً و "كان" لَيْسَتْ زائدةً بل ناقصة، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ "كان" فهي مفسِّرة للضميرِ.
وقال أبُو البقاءِ هنا: وقيل: ليست "كان" زائدةً، ولكن "كان" النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين "ما" وبين صلتها، وقد تقدَّمَ ذلك في قوله:
{ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 10] وعلى هذا القول تحتاج "كان" إلى اسم.
ويضعُف أن يكون اسمُهَا ضمير الشَّأنِ؛ لأنَّ الجُملة التي بعدها صلةُ "ما" فلا تَصْلُح للتَّفسير، فلا يحصُل بها الإيضاحُ، وتمامُ الاسم، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل "فرعون" اسم "كان" وفي: "يَصْنَعُ" ضمير يعود عليه.
قال شهابُ الدِّين بعد فرض كونها ناقصةً: يلزم أن تكون الجملة من قوله: يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً لـ "كان" ويمتنع أن تكون صلةً لـ "ما".
وقوله: فتدعُو الحاجةُ أي: ذلك الوجُه الذي بدأت به، واستضعفه، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً، والتَّدميرُ: الإهلاكُ.
قال الليث: الدَّمَارُ: الهَلاك التَّام، يقال: دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً: أي: هلكوا وهو مُتَعَدٍّ بنفسه، فأمَّا قوله:
{ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [محمد: 10] فمفعولُه محذوفٌ، أي: خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم.
وقوله: { مَا كانَ يصنعُ فِرعونُ وقوْمُهُ } أي: في أرض مصر من العمارات.
قوله: "يَعْرِشُونَ" قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل { يَعرُشُونَ } بضم الرَّاءِ.
والباقون بالكسر فيهما، وهما لغتانِ: عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ. والكَسْرُ لغة الحِجَازِ.
قال اليَزِيديُّ: وهي أفصحُ.
وقال مُجاهدٌ: ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت. وقُرىء شاذًّا بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة، من غَرْس الأشجَار. وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاَّ تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير. وهذا آخر قصةِ فرعونَ.