التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ
١٥٢
وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٥٣
وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
١٥٤
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ } الآية. المفعول الثاني من مفعولي - الاتِّخاذِ - محذُوف، والتقديرُ، اتَّخذوا العجل إلهاً ومَعْبُوداً، يدلُّ على هذا المحذوف قوله تعالى: { فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } [طه: 88] وللمفسرين ههنا طريقان: أحدهما: المراد بالذين اتَّخَذُوا العجل قوم موسى، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تَابَ اللَّهُ عليهم: بأن قتلوا أنفسهم في معرض التَّوْبَةِ على ذنبهم، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقِّهم: { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا }؟ ويُجاب عنه بأن ذلك الغضب إنَّما حصل في الدُّنْيَا لا في الآخرة، وهو أنَّ اللَّهَ تعالى أمرهم بقتل أنفسهم والمُرَادُ بقوله: { وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } هو أنَّهُمْ قد ضَلُّوا فَذُلُّوا.
فإن قيل: السِّينُ في قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال، فكيف يحمل هذا على حكم الدُّنيا؟ فالجواب: أنَّ هذا حكاية عَمَّا أخبر اللهُ به موسى حين أخْبَرَهُ بافتتان قومه، واتِّخاذهم العِجْلَ، وأخبره في ذلك الوقت أن سَيَنالُهُمْ غضبٌ من ربهم وذلَّةٌ، فكان هذا الكلامُ سابقاً على وقوعهم في القَتْل وفي الذِّلَّة فَصَحَّ هذا التَّأويل.
الطريق الثاني: أنَّ المُرادَ بالذين اتَّخَذُوا العجلَ أبناؤهم الذين كانوا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنَّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقبِ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا، وإنَّمَا فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا.
قال عطيَّةُ العوفيُّ: أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم، عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونسبه إليهم، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ: { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } في الآخرةِ: { وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } أراد: ما أصَابَ بني قريظة والنَّضير من القتل والجلاء.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: هي الجزية.
الوجه الثاني: أن يكون التقديرُ: { إنَّ الذينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ } أي الذين باشرُوا ذلك سَيَنالُهُمْ أي: سينال أولادهم، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.
ثمَّ قال: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ } أي: ومثل ذلك النِّيل والغضب والذِّلّة "نَجْزِي المُفْترينَ" الكاذبين.
قال أبُو قلابة: "هو واللَّه جزاء كلِّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلَّه اللَّهُ".
وقال سفيان بنُ عيينة: "هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة".
وقال مالكُ بْنُ أنسٍ: "ما من مُبْتَدع إلاَّ ويجدُ فوق رأسه ذِلَّة".
قوله: { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره. والعائد محذوف، والتقدير: غفورٌ لهم ورحيم بهم، كقوله:
{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43] أي منه.
قوله: مِن بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: "ثُمَّ تَابُوا" أي: من بعد التوبة.
قال أبو حيان: "وهذا أوْلَى، لأنَّ الأوَّلَ يلزُم منه حذفُ مضافٍ ومعطوفه، إذ التقدير: من بعد عمل السّيئات والتوبة منها".
قوله: "وَآمَنُوا" يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ، فإن قيل: التَّوبة بعد الإيمان، فكيف جاءت قبله؟ فيقال الواو لا تُرتِّبُ، ويجوز أن تكون الواوُ للحال، أي: تَابُوا، وقد آمنوا { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
قوله: "وَلَمَّا سَكَتَ" السُّكُوتُ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ، وهو هنا استعارةٌ بديعة.
قال الزمخشريُّ: هذا مثلٌ كأنَّ الغضبَ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك، فترك النُّطق بذلك، وترك الإغراء به، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة: ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة؟
وقيل: شَبَّه جمود الغذب بانقطاع كلام المُتكلِّم.
قال يونسُ: "[سال] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ".
وقال الزَّجَّاجُ: مصدر: سَكَتَ الغَضَبُ: السكتةُ، ومصدر: سَكَتَ الرَّجلُ: السُّكُوتُ وهو يقتضي أن يكون "سكت الغضبُ" فعلاً على حدته.
وقيل: هذا من باب القلب، والأصلُ: ولما سكت موسى عن الغضب، نحو: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأسِي، أي: أدخلت رأسي في القلنسوة.
قاله عكرمةُ: وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم.
وقيل المُرادُ بالسُّكوت: السُّكون والزَّوال، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام، فلا يجوزُ في الغضب.
فصل
ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه - عليه الصلاة والسلام - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة، فحينئذ سكن غضبهُ، وهو الوقت الذي قال فيه: { رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلأَخِي }.
وقوله: "أخَذَ الألوَاحَ" ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم.
وقوله: { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى } هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ. وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الأولى، فعلى هذا قوله "وفِي نُسْخَتِهَا" أي: "وفيما نسخ منها" وإن قلنا: الألواح لم تنكسر، وأخذها موسى بأعيانها؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير.
وقوله: "هُدًى ورَحْمَةٌ" أي: هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب.
قوله: "لِلَّذِين" متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي: رحمة كائنة للَّذين، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله، كأنَّه قيل: هُدًى ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره، والجملةُ صلة الموصول.
قوله: لِرَبِّهم يَرْهَبُونَ. في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ: أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله:
{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو: { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم؛ كقول الشاعر: [الوافر]

2586 - ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا

أو في قليل عند آخرين؛ كقوله تعالى: { رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72].
والثاني: أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ، تقديره: يرهبونَ عقابه لأجله، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش.
الثالث: أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف، تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم.
وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدر، وإبقاءُ معموله، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته.
الرابع: أنَّها متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً، تقديره: يخشعون لربَّهم. ذكرهُ أبُو البقاء، وهو أولى مِمَّا قبله.
وقال ابْنُ الخطيبِ: قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول، وإن كان الفعل متعدياً، كقوله: قرأتُ في السُّورة وقرأت السُّورةَ، وألْقَى يَدَهُ "وألقى بيده"، قال تعالى
{ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ } [العلق: 4] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله { رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72]، وقد ذكروا مثل هذا في قوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } [آل عمران: 73].