التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٥٨
وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٥٩
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { قُلْ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } الآية.
لمَّا بيَّن تعالى أنَّ من شُرُوطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لأولئك المُتَّقِينَ، كونهم مُتَّبِعين للرَّسُولِ، حَقَّقَ في هذه الآية رسالته إلى كلِّ الخلق.
وقوله إلَيْكُمْ مُتعلِّقٌ بـ "رَسُولُ"، وجَمِيعاً حال من المجرورِ بـ "إلى".
فصل
هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى جميع الخَلْقِ.
وقالت طائفة من اليهُودِ يقال لهم العيسوية، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ: إنَّ محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطلُ قولهم؛ لأن قوله { يا أيُّهَا النَّاسُ } خطابٌ يتناولُ كلَّ النَّاسِ، وقد أقرُّوا بكونِهِ رسولاً حقًّا صادقاً وما كان كذلك امتنع الكذب عليه، ووجب الجزمُ بكونه صادقاً في كلِّ ما يدَّعيه، وقد ثبت بالتَّواتُرِ وبهذه الآية أنه كان يدَّعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق؛ فوجب كونُه صادقاً في هذا القول.
فصل
هذه الآيةُ دلَّتْ على أن محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيَّةِ أحد من الأنبياء؟.
فقال بعضهم: نعم كان آدم عليه الصَّلاة والسَّلام مبعوثاً إلى جميع أولاده، وأنَّ نوحاً لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه، وهم جميع النَّاسِ في ذلك الوقت، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
"أعطيتُ خمْساً لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ من الأنبياءِ قَبْلِي" المرَادُ أنَّ مجموعَ الخَمْسَةِ لم يحصل لأحدٍ سواه، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها.
قوله: { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }. يجوزُ فيه: الرَّفْعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [الأعراف: 57]، والجَرُّ من وجهين: إمَّا النَّعْتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها.
قال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يكون جَرًّا على الوصفِ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله "إليْكُمْ جَمِيعاً".
واستضعف أبُو البقاءِ هذا ووجه البدل، فقال: ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله أو بدلاً منه، لما فيه من الفصل بينهما بـ "إلَيْكُمْ" وبحالٍ، وهو مُتعلِّقٌ بـ "رَسُولُ".
قوله { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ، وكذلك قوله "يُحْيي ويُمِيتُ" هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ.
قاله الزمخشريُّ: وقال أبُو حيَّان: "وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه".
فصل
وقال الحُوفيُّ: إن "يُحْيِي ويُمِيتُ" في موضع خبر لا إله.
قا: "لأنَّ الإله" في موضع رفع بالابتداء، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع.
قال: والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم اللَّهِ. ويعني بالجملةِ قوله: { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } ويعني باسم الله، أي: الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ.
وقال أبُو حيَّان: والأحْسَنُ أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب، وإن كان متعلقاً بعضها ببعضٍ من حيث المعنى.
وقال في إعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ.
قوله: { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
فصل
اعلم أنَّ الإيمان بالله أصل، والإيمان بالنبوَّةِ والرسالة فرع عليه، والأصلُ يجب تقديمه فلهذا بدأ بقوله: فأمِنُوا باللَّهِ ثم أتبعه بقوله: { وَرَسُولِهِ ٱلنَّبِيِّ ٱلأُمِّيِّ ٱلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } وهذا إشارة إلى ذِكْرِ المعجزاتِ الدالَّة على كونه نبيّاً حقاً؛ لأنَّ معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت على نوعين.
الأول: المعجزاتُ التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمِّياً، وقد تقدم الكلامُ على كون هذه الصِّفَةِ معجزة.
الثاني: المعجزات الَّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع ونحوها، وهي تسمى بكلمات الله، لأنَّهَا أمورٌ عظيمة. ألا ترى أن عيسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا كان حدوثُه أمراً عظيماً غريباً مخالفاً للعادة، سمَّاهُ اللَّهُ كلمة، فكذلك المعجزات لمَّا كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعُد تسميتُها كلمات، وهذا هو المُرادُ بقوله: { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ }.
وقرأ مجاهدٌ وعيسى وكلمته بالتَّوحيد، والمرادُ بها الجِنسُ كقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ -:
"أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ" ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً، وقد تقدَّم.
قال الزمشريُّ: فإن قلت: هَلاَّ قيل: فآمنوا باللَّه وبِي، بعد قوله { إنِّي رسولُ اللهِ إليكمْ جَمِيعاً }؟.
قلت: عدل عن الضمير، إلى الاسم الظاهر، لتَجْرِي عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه، ولِمَا في طريق الالتفات من البلاغةِ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجبُ الإيمانُ به واتِّباعهُ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النَّبيُّ الأميُّ الذي يؤمنُ بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة، وتفادياً من العصبية لنفسه.
قوله: { وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.
وهذا الأمرُ يدلُّ على وجوب متابعةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في كلِّ ما يأتي به قولاً كان أو فعلاً أو تركاً إلا ما خصه الدَّليل.
فصل
فإن قيل: إذا أتى الرَّسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوُجوبِ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى مندوباً، فلو أتينا به على أنَّه واجب علينا، كان ذلك تركاً لمتابعته والآيةُ تدلُّ على وجوب المتابعةِ، فثبت أنَّ فعل الرَّسُولِ لا يدُلُّ على الوجوب علينا.
فالجوابُ: أنَّ المتابعةَ في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع؛ لأنَّ من أتى بفعل ثم إنَّ غيرهُ وافقه في ذلك الفعل، قيل: إنَّهُ تابعهُ عليه، ولوْ لَمْ يأتِ به، قيل: إنه خالفه، وإن كان كذلك، ودلَّت الآية على وجوب المتابعة؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته.
بقي علينا أنَّا لا نعرف هل أتى به - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قاصداً الوجوب أو النَّدب؟.
فنقول: حال الدَّوَاعي والعزائم غير معلوم، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلومٌ؛ فوجب أن لا يُلتفتَ إلى حال العزائم والدَّواعي؛ لأنَّها أمورٌ مخفية عَنَّا، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظَّاهر؛ لأنَّهُ من الأمور التي يمكن رعايتها.
وقد تقدَّم الكلامُ على لفظ لعلّ وأنَّها للترجي وهو في حق اللَّهِ تعالى محال، فلا بد من تأويلها فيلتفت إليه.
قوله تعالى: { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }.
لمَّا وصف الرسول، وذكر أنه يجب على الخلق متابعته، ذكر أنَّ في قوم موسى من اتَّبَعَ الحق وهُدي إليه وبين أنهم جماعة، لأن لفظ "الأمَّة" ينبىء عن الكثرة.
واختلفوا فيهم.
فقيل: هم اليهودُ الذين آمنوا بالرسول - عليه الصلاة والسلام - مثل عبد الله بن سلام، وابن صوريا.
فإن قيل: إنهم كانوا قليلين في العدد، ولفظ "الأمة" ينبىء عن الكثرة.
فالجواب: إنهم لمَّا أخلصُوا في الدِّين جاز إطلاق لفظ "الأمَّةِ" عليهم كقوله تعالى
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120].
وقيل: إنَّهم قومٌ بَقوا على الدِّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النَّاسَ إليه وصانوه عن التَّحريف والتَّبديل في زمن تفرّق بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع.
وقال الكلبيُّ والضحاكُ والربيعُ والسُّديُّ: لمَّا كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء، تبرأ سبط من الاثني عشر مِمَّا صنعُوا وسألوا اللَّهَ أن يُنقذهم منهم، ففتح اللَّهُ لهم نفقاً في الأرضِ فَسَارُوا فيه حتَّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرق على نهري مجرى الرَّمل يسمى نهر الأردُن، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون باللَّيل ويُصْبِحون بالنَّهار يزرعون، لا يصل إليهم منا أحدٌ وهم على الحق.
وذكر أنَّ جبريل ذهب بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إليهم وكلَّمهم.
فقالوا: يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا أنَّ مَنْ أدرك منكم أحْمَدَ؛ فليقرأ عليه منِّي السلام، فردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مُوسَى السلام، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة، وأمرهم بالصَّلاة والزَّكاةِ وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا، ويتركوا السَّبْتَ.
وقوله: { يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } يدعُون النَّاس إلى الهداية بالحقِّ وقوله وَبِهِ يَعدِلُونَ؛ قال الزَّجَّاجُ: العدلُ: الحُكْمُ بالحق.
يقال هو يقضي بالحق، ويعدل وهو حاكم عادلٌ، ومنه قوله تعالى:
{ وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 129] وقوله { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ } [الأنعام: 152]